تُشكّل زيارة وزير الدفاع الوطني الموريتاني “حننا ولد سيدي” للقاهرة، في الثلاثين من يناير (2023)، وما تضمنته أجندة الزيارة من مباحثات على مستوى القادة العسكريين وكذلك اللقاء المشترك مع السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، محطة حيوية في ضوء التفاعلات العسكرية المصرية الموريتانية اتساقًا مع التطورات والتحولات الإقليمية المتباينة. ويأتي التعاون العسكري ليكمل اتجاهًا متناميًا لمجالات الانفتاح والتعاون المصري الموريتاني، تُحقق من خلاله الدولتان تكاملًا للجهود السياسية والأمنية والاقتصادية، بما يمكن القول معه بالتحول الاستراتيجي في العلاقات الثنائية بينهما.
دلالات متعددة
تأتي زيارة “حننا ولد سيدي” للقاهرة في ظل ظرفية إقليمية حرجة، حيث تزامنت تلك الزيارة مع متغيرات متباينة تفرض بطبيعة الحال البحث عن شريك استراتيجي إقليمي لمواجهة المخاطر المتعددة، ويمكن توضيح ذلك في النقاط التالية:
تحولات جيوستراتيجية في ملف مواجهة الإرهاب: تماشيًا مع تحولات موريتانيا الجيوستراتيجية أمنيًا في ملف مكافحة الإرهاب، ومع ما تم التوافق بشأنه حيال خارطة التطوير المقدمة من حلف الناتو وما سبقها من دعوة حلف شمال الأطلسي “الناتو” لمشاركة نواكشوط في اجتماع الحلف المنعقد في مدريد نهاية يونيو 2022، والمساعي لتوسيع دائرة التفاعل البيني وشراكات “الناتو” العابرة للحدود الأوروبية لتشمل الجناح الجنوبي للحلف متضمنًا دول الساحل وذلك في إطار خطوات استباقية لفرض طوق وحزام آمن لحدود دول الناتو الجنوبية ومساعٍ روسية للتواجد داخل موريتانيا، جعلها نقطة استقطاب عالمي بين أطراف الصراع الراهن، وهو ما يتطلب معه التكيف مع تلك المتغيرات واستباق الصدام المحتمل. ونتيجة لذلك تستهدف موريتانيا إحداث توازن في تفاعلاتها الإقليمية عبر تدعيم الشراكة العسكرية مع مصر بما لها من ثقل إقليمي كبير، وخبرة ممتدة في مكافحة الإرهاب.
لذا، تأتي تلك الزيارة التي كُللّت باتفاق تعاون عسكري تضمن العديد من المجالات من بينها: التدريب والتعليم، واللوجستيات، والصناعات الحربية والعسكرية، والإعلام العسكري، والطب العسكري، والتكنولوجيا والأنظمة الإلكترونية والاتصالات، والأنشطة الثقافية والرياضية والاجتماعية. وتحقيقًا لذلك فقد تم الاتفاق على تكثيف الزيارات على مستوى وزراء الدفاع ونوابهم وقادة الأركان والخبراء، مع الاشتراك في التدريبات أو العمليات الدولية وكذلك التدريب العسكري لأفراد القوات المسلحة، والاشتراك في معارض التسليح والمعدات العسكرية، وتبادل المعلومات الفنية والتكنولوجية والصناعات بهدف تطوير ورفع كفاءة وإنتاج معدات لتلبية احتياجات الطرفين.
اضطراب العلاقات المغاربية والبحث عن شراكات بديلة: في ضوء العلاقات المتدهورة سواء أكان على مستوى المغرب أو الجزائر أو حتى علاقات المد والجزر بين موريتانيا وكلا الدولتين؛ تبحث موريتانيا عن شراكات متنوعة تحقق لها مصالحها الإقليمية، ونظرًا لقدرة مصر على مواجهة الإرهاب وتطور قدراتها العسكرية ومساعيها لتوطين الصناعات العسكرية، تسعى نواكشوط لإحداث نقلة نوعية في تفاعلاتها العسكرية مع القاهرة بما يوائم تبدلات المشهد الإقليمي، خاصة في ظل التعويل الغربي عليها كمرتكز هام في مواجهة الإرهاب في الساحل والصحراء، خاصة في ظل تراجع منظومة الشراكة الساحلية على خلفية الانقلابات العسكرية المتلاحقة في مالي وبوركينافاسو خلال عامي 2021 و2022، إلى جانب انسحاب مالي من المنظمة الخماسية، مما بدّل في معادلة الأمن بتلك المنطقة عبر إيجاد مسار استراتيجي آخر يتم التعويل عليه في مواجهة تدفقات العناصر الإرهابية ومساعي عودة التنظيمات المختلفة في تلك المنطقة.
فوائد مشتركة: إن القاهرة ونواكشوط يشتركان في رؤية واحدة تتمثل في حتمية مواجهة الإرهاب لما يحفظ أمنهما القومي، خاصة في إطار منطقة الساحل والصحراء وعقب عودة نشاط التنظيمات في تلك المنطقة، ونتيجة لما تُمثله مصر من رقم هام في معادلة الأمن الإقليمي ما أهلها لإعادة انتخابها لعضوية لجنة بناء السلام لمدة عامين عن الفترة 2023/2024، فضلًا عن تولي قواتها البحرية مهام دولية جديدة في البحر الأحمر تشمل مضيق باب المندب وخليج عدن، إثر توليها قيادة “قوة المهام المشتركة 153 الدولية” للمرة الأولى، ناهيك عن كون مصر إحدى الدول العشر الأُوَل المساهمة بقوات في بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام والأولى عربيًا والثالثة على مستوى الدول الفرانكفونية بموجب قوات تصل إلى نحو 3000 فرد في البعثات المنتشرة بالمناطق المختلفة ودول أفريقيا. وعلى الجانب الآخر فإن موريتانيا هي البوابة الغربية الواقعة على المحيط الأطلنطي، وتُمثل محورًا للعديد من التفاعلات الدولية في تلك المنطقة لمكافحة الإرهاب، ولعل هذا يتطلب حالة من التكامل والشراكة العسكرية تتحول من خلالهما الدولتان إلى مرحلة الشراكة الاستراتيجية على المستوى الأمني.
مبادئ مشتركة: هناك نهج مصري وموريتاني لتكامل الجهود نحو مواجهة الإرهاب القائم والمحتمل في مناطق التوتر والصراع، وخاصة في الساحل والصحراء، مع تعزيز القدرات الوطنية للجيوش النظامية، ونتيجة لذلك وعلى ضوء موافقة مجلس النواب المصري في أبريل 2022 على اتفاق المقر الخاص بمركز الساحل والصحراء لمكافحة الإرهاب، والذي يجمع بين مصر وتجمع دول الساحل، ينصب تركيز موريتانيا على تفعيل هذا المركز لما يتضمنه من استراتيجية هامة في هذا الشأن تقوم على تعزيز القدرة على المواجهة الشاملة للإرهاب وإقرار السلم والأمن في أفريقيا، وتنسيق جهود دول الأعضاء وتبادل المعلومات لهذا الغرض، وهو الأمر الذي يُبرز الدور المحوري المصر في محيطها القاري، ويتماشى مع تبدلات المشهد إقليميًا بتحول موريتانيا إلى نقطة ارتكاز التفاعل الأوروبي في هذا الملف.
تنامي ظاهرة الإرهاب: في ضوء ما تناوله مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2022 من استمرارية الإرهاب في جنوب الصحراء، وتحول اهتمام تنظيم داعش إلى منطقة الساحل عقب ضرب معاقله في دول المركز (سوريا والعراق) وبات الساحل المركز الجديد للإرهاب؛ تسعى موريتانيا لتعزيز قدراتها وتأمين تسليحها لمواجهة تلك الظاهرة بالتنسيق مع الدول الحيوية في الإقليم ولديها تجارب ناجحة في هذا الملف وهي مصر، خاصة في ظل الانشغال الجزائري المغربي بالصراعات الحدودية.
شراكة متنامية
منذ تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي رئاسة الدولة، شرع في فتح نوافذ اتصال متعددة مع الجوار الجغرافي وخاصة في الدائرة الأفريقية التي تُعد من بين مرتكزات الأمن القومي المصري؛ وعملت الدولة المصرية على توسيع تفاعلاتها العرضية مع دول المغرب العربي. وفيما يتعلق بالحالة الموريتانية، لم يقتصر الأمر عند حد التفاعل العسكري كما تمت الإشارة، بل سبقها تفاعل على أصعدة مختلفة. فعلى الصعيد الاقتصادي، تسعى الدولتان لتعزيز التعاون والتبادل الاقتصادي والتجاري بينهما، وهو ما برز بصورة كبيرة في المباحثات التي جمعت وزيري خارجية الدولتين في نهاية سبتمبر 2022 بما يشمل قطاعات الصيد البحري والزراعة والثروة الحيوانية وصناعة الدواء.
اتصالًا بذلك، فقد امتد التعاون المصري الموريتاني على الصعيد التعاون المالي والضريبي بينهما وذلك على هامش الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الإسلامي للتنمية التي استضافتها شرم الشيخ في يونيو 2022، وذلك لبحث آليات التعاون بين وزارتي المالية للدولتين، وتبادل الخبرات حول أدوات التمويل البديل، للعمل على سد الفجوة التمويلية، وكذلك تبادل الخبرات في مجال ميكنة المنظومتين الضريبية والجمركية، إضافة إلى إبرام اتفاق لمنع الازدواج الضريبي بين البلدين لتشجيع الاستثمارات.
أيضًا على مستوى البنية التحتية، باتت هناك مساحة تفاهم مشترك بين نواكشوط والقاهرة في هذا المجال، حيث تم التوقيع في 21 يوليو 2022 على مذكرة تفاهم بشأن إنشاء خطين لقطار ترام في نواكشوط بطول حوالي 45 كم وذلك من خلال شركة المقاولون العرب، الأمر الذي يساهم في حل مشكلة النقل داخل العاصمة، وفي إطار التفاعل الثقافي والتعليمي بينهما فقد زادت مصر من أعداد الدارسين الموريتانيين بها إلى نحو 150 طالبًا خلال العام الدراسي 2022-2023.
وفي التقدير، تشهد العلاقات المصرية-الموريتانية تحولات إيجابية ناجمة بالأساس عن الأوضاع المتغيرة دوليًا وإقليميًا والتي ألقت بظلالها على ملف مواجهة الإرهاب في الساحل والصحراء، والتي أبرزت مخاوف تصاعد التوترات في المستقبل المنظور، وحتمت بشكل كبير تركيز الجهود الإقليمية على مواجهة الإرهاب في واحدة من أكثر مناطق الصراع والتوتر في القارة الأفريقية وهي الساحل والصحراء، ويمهد التعاون العسكري المتنامي بين مصر وموريتانيا للانتقال إلى مرحلة أكثر تقدمًا وشمولًا من التعاون العسكري بين الدولتين.