تعتمد الكثير من التحليلات لمسارات المشهد السياسي في إسرائيل على الإجابة عن سؤال محدد وهو ماهية الازمة التي تَمثُل أمام إسرائيل في الوقت الراهن؟، هل هي أزمة سياسية؟، أم أزمة هوياتية ممتدة؟ ويعني بمسألة الهوية في إسرائيل أي الإجابة على سؤال من هو اليهودي؟ وهو السؤال الذي تأجلت بسببه مشاريع صياغة دستور في إسرائيل.
تجادل هذه الورقة في تشخيص الأزمة الحالية بأنها أزمة ثقافية-هوياتية-ممتدة، أي أنها قد تتكرر فصولها في الأعوام القادمة على إسرائيل للوصول إلى إجابة على سؤال من هو اليهودي؟
أولا: أطراف الأزمة الحالية
قبل عودة نتانياهو مرة أخرى إلى الحكم، اعتزم تشكيل صف معارضة يميني متطرف يعتمد على الايديولوجية الدينية والقومية (أي المجتمع الحريدي “الديني” والمجتمع الصهيوني الديني “القومي”) قادت تلك المعارضة خطابا سياسيا يعتمد على الهجوم على السياسات الأمنية، والخارجية، والاقتصادية، والاجتماعية التي تبنتها حكومة بينيت-لابيد في السابق.
وافق بينيت (زعيم حزب يمينا قبل اعتزاله السياسة) على الانضمام إلى حكومة لابيد، رغم تعارضها الأيديولوجي إذ أن الأول يُحسب على التيار اليميني المتطرف والأخير على التيار الوسط-يمين. إلا أن الدافع الوحيد (لـ بينيت) هو معارضته استمرار احتلال نتانياهو أعلى منصب سياسي لفترات طويلة، كونه يعمل على تقسيم المجتمع الإسرائيلي. (بينيت في فبراير 2023: نتانياهو يعمل على تسميم عقول الإسرائيليين).
رغم تبني بينيت لأجندة يمينية متطرفة، إلا أنه لا ينزلق وراء سياسات تقود إلى تمزق المجتمع الإسرائيلي بين مجتمع حريدي من ناحية ومجتمع علماني من ناحية أخرى، وهو ما يُفسر سبب استقبال رئيس دولة الامارات لنفتالي بينيت مؤخرا، كونه أحد حصون المجتمع الصهيوني الديني المتطرف في إسرائيل وكذلك مؤمنا بالحوار مع المجتمع العلماني ورئيسا سابقا لحكومة إسرائيلية جمعت بين متناقضات أيديولوجية عميقة.
في حين نتانياهو -الذي لوّحت الامارات والولايات المتحدة لتأجيل زيارته الخارجية أو إلغائها بالكلية- يعتمد في سياسته على مبدأ هجومي يجمع المعسكر المتطرف غير المؤمن بالحوار، وهو ما دفع البعض بالقول إن موافقة نتانياهو على الحوار مع المعارضة ما هو إلا تكتيك مراوغ هدفه كسب الوقت وترتيب الصفوف والأدوات لتقوية موقفه لاحقا.
ينقسم المجتمع الإسرائيلي حاليا إلى معسكرين يحملا روايتين متناقضتين وهما معسكر المجتمع المتطرف بجناحيه الديني المتطرف (الحريديم) مثل حزب شاس والقومي الديني المتطرف (الصهيونية الدينية) مثل حزب الصهيونية الدينية –هذا من ناحية-، ومعسكر المجتمع العلماني مثل حزب هناك مستقبل، يسرائيل بيتينو.
بالنظر إلى أجندات الأحزاب المذكورة يمكن الاستنتاج أن المعسكرين يتعارضا في مسألة الدين والدولة، فالمعسكر الأول يسعى إلى دمج الدين في سياسات الدولة الخارجية والعامة. بينما المعسكر الأخير أي العلماني –دون النظر إلى تياره سواء كان يمينيا أو يساريا- فيسعى إلى فصل كامل في مسألة الدين والدولة.
إذن، يمكن القول في هذا السياق أن المسألة الشائكة التي أصبحت ترسم شكل الائتلافات الحكومية المتعاقبة هي مسألة الدين والدولة.
ثانيا: مؤشر الدين والدولة في إسرائيل من خلال تحليل الرأي العام
في أحدث مؤشر أطلقه عدد من المراكز البحثية الإسرائيلية كان في ديسمبر 2022، يمكن قراءة هذا المؤشر الذي يوضح إلى أي مدى وصلت مسألة الدين والدولة في إسرائيل من خلال اتجاهات الرأي العام بين الإسرائيليين، من خلال التالي: (المصدر: متوسط مجموع نتائج بعض المراكز البحثية الإسرائيلية مثل: معهد أبحاث الامن القومي، معهد الديموقراطية، منظمة حيدوش للحرية الدينية والمساواة)
صورة (1)
صورة (2)
صورة (3)
صورة (4)
صورة (5)
الصورة (6)
الصورة (7)
بالنظر إلى البيانات المرفقة سابقا، يتضح التالي:
أن المجتمع العلماني في إسرائيل يعد واحدة اجتماعية متماسكة، لا يفصلها سوى بعض التيارات السياسية الحزبية المتعلقة بطبيعة موقف إسرائيل الرسمي حيال القضية الفلسطينية وحل الدولتين. لكن تتحد فيما بينها على رفض الشريعة اليهودية كأساس تشريعي لإسرائيل؛ كونها تهدد الطابع الديموقراطي.
يرفض المجتمع الإسرائيلي بنسبة 63% مسألة دمج الدين بالدولة؛ للحفاظ على الطابع الفلسفي للنموذج الاقتصادي والسياسي الإسرائيلي بتعظيم الحقوق الفردية، وليس الحقوق الجماعية خاصة تلك المتعلقة بالمجتمع الحريدي. يرتبط ذلك بموقف الإسرائيليين من مسألة السماح للأحزاب الدينية بالائتلاف مع الحكومات، الموافق شريطة رفض تطبيق الشريعة اليهودية.
يتبين أن النسبة الأغلب من الإسرائيليين لا زالت تلفظ موجات تديين السياسة، والمجال العام في إسرائيل. كونها تمثل السبب الأول والسبب الثاني ضمن عوامل التوتر السياسي في إسرائيل، كما هو حاصل في الوقت الراهن بين حكومة نتانياهو والشارع الإسرائيلي.
يظهر بعض من درجات التساوي بين الإسرائيليين الذين ينقسمون إلى ثلاثة معسكرات أساسية إزاء مسألة من هو اليهودي؟ إذ يؤمن 33% بضرورة مرور الإسرائيلي على عملية تهويد أرثوذكسية، فيما يؤمن 32% من الإسرائيليين على اقتصار التهويد على العملية الأساسية العامة (أي مبادئ الشريعة اليهودية)، وأخيرا يؤمن 35% من الإسرائيليين بعدم ضرورة وجود عملية تهويد بالأساس للمواطن الإسرائيلي من أجل اعتباره يهوديا من الدرجة الأولى.
إذن، يمكن القول في هذا النقطة، أن الإسرائيليين لا يزالوا منقسمين بقوة حيال مسألة ارتباط مفهوم “الشعب” بـ “الدين” في إسرائيل. بعبارات أخرى: مفهوم الشعب في إسرائيل هو حقيقة دينية في عالم الخطاب اليميني الأصولي. فيما يعد مفهوم الشعب لدى معسكر العلمانيين هو مفهوم سياسي اجتماعي ينسلخ عن أي اعتبارات دينية.
تتنامى ظاهرة تغير أولويات المزاج العام في إسرائيل من الاعتبار الأمني إلى الاعتبار الاقتصادي؛ لا سيما بعد توالي الازمات والكوارث العالمية، فاحتل الاعتبار الاقتصادي المرتبة الأولى بينما احتل الاعتبار الأمني المرتبة الثالثة. وعليه، يظهر تباين المزاج العام الإسرائيلي في مسألة تخصيص الحكومة لتمويلات تذهب للإصلاح اليهودي على الاعتبار الديني. تشير النتائج إلى أن 57% من الإسرائيليين يوافقون على التخصيص المالي للإصلاح الديني بشرط أن يعزز مبدأ المساواة.
ثالثا: الأطر الحاكمة لمفهوم الهوية في إسرائيل
بالنظر إلى التطورات السياسية الأخيرة في إسرائيل، لا سيما بعد مرورها على خمسة انتخابات متتالية في أقل من ثلاث سنوات (ومن المرجح أن تشهد انتخابات سادسة أخرى)، يمكن التقدير ببروز ثلاثة ركائز أساسية لصياغة مفهوم “الهوية” في إسرائيل. يمكن توضيحها على النحو التالي:
الدستور
تعكس التطورات السياسية الأخيرة في إسرائيل محاولات متفرقة لصياغة دستور يعبر عن الرواية الثقافية/الهوياتية للمعسكر المعني بالسلطة. أي أن معسكر اليمين المتطرف يسعى لصياغة دستور يعبر عن روايته الإقصائية المتطرفة التي لا تمثل سوى 42% من مجموع الإسرائيليين (كما هو موضح في استطلاعات الرأي).
لا تمتلك إسرائيل دستورا مصاغا صياغة نهائية، بل تعتمد على ما يسمى بـ “قوانين الأساس” التي تعد الركائز الدستورية الإسرائيلية. اعتزمت حكومة نتانياهو منذ فترة تعديل قوانين الأساس، مثل: قانون الحصانة القانونية لرئيس الحكومة، دور المستشارين القانونيين واختصاصات محكمة العدل العليا (الإصلاح القضائي). ويرجع سبب التشريع المثير للجدل السياسي مؤخرا هو أن نتانياهو يسعى لسحب طبيعة دور المحكمة (الأعلى في إسرائيل) مستقبلا في عملية صياغة الدستور. لا سيما وأن المحكمة يسيطر عليها قضاة محسوبين على التيار اليساري.
وعليه، يرغب نتانياهو وائتلافه اليميني المتطرف إلى معادلة القوة الحزبية المسيطرة على المحكمة وسحبها من التيار اليساري إلى التيار اليميني، أو الوصول إلى التساوي الحزبي في أقل الظروف.
كما يستهدف نتانياهو أن يكون الكنيست هو المؤسسة التشريعية الأكبر في إسرائيل بهدف صياغة دستور مستقبلي يضمن حقوق الجماعة الدينية المتطرفة، التي تعمل على هدفين أساسيين في الوقت الحالي: (أ) رفض إقامة دولة فلسطينية وعدم الامتثال للضغط الأمريكي والإقليمي. (ب) التماهي وسط ظاهرة تنامي الروح القومية للدول في ظل إعادة تأسيس نظام دولي جديد.
احتكار العنف والسلاح
يقوم أساس مفهوم الدولة في أحد أركانه على احتكار استخدام العنف والسلاح، وهو عمل مؤسسة الجيش الإسرائيلي. ولكن تواجه إسرائيل مسألة شائكة وهي رفض الحريديم التجنيد في الجيش، وهو ما يهدد تماسك المجتمع الإسرائيلي وتماسك المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ذاتها.
فيبدو أن هناك استيعابا عاما بين الإسرائيليين بخصوصية المسألة. لذا طرحت نسبة كبيرة من الإسرائيليين إعفاء الحريديم المتفوقين تعليميا ومدنيا (أي المساهمة في الخدمة المدنية العامة) من التجنيد.
شجّع نتانياهو تمرير قانون إنشاء “الحرس الوطني” كتنظيم شبه عسكري-مسلح يضم المستوطنين في الضفة الغربية كمرحلة أولى، كمحاولة لاستيعاب الحريديم في منصة عسكرية تخدم أهداف الامن القومي. ولكن في نظر الإسرائيليين يمثل انسلاخا عن المنصة العسكرية الرسمية وهو الجيش الإسرائيلي.
ولكن بالنظر إلى تبعات هذا المشروع الإسرائيلي، يمكن التقدير بأن نتانياهو قد يسعى إلى إثارة الاضطراب في الامن الإقليمي من أجل تبرير شرعية الحرس الوطني بين الإسرائيليين. ويمكن القول إن ميلاد هذا المشروع قد يتمخض عنه عدم استقرار في الامن الإقليمي يتولد عنه بعض الازمات المتفلتة بين إسرائيل وإيران.
الشرعية الداخلية/الدولية
يتبين أن أهداف نتانياهو ومجموعة الأحزاب الدينية في إسرائيل تقوض استقرار المجتمع الإسرائيلي، الذي تؤمن غالبيته البسيطة تقريبا بضرورة الحفاظ على الطابع الديموقراطي-العلماني. وهو ما يبرر نزول العديد من الإسرائيليين في شكل حركات احتجاجية ترفض تلك السياسات.
كما يتبين أن المجتمع الديني المتطرف في إسرائيل لا يمثل وحدة اجتماعية متماسكة، وأن هناك خلل أيديولوجي يتسلل في الخفاء بين أوصال هذا المجتمع.
وعليه، لا يمكن الجزم بأن تستمر الحكومات الإسرائيلية في كسب شرعيتها الداخلية بين الإسرائيليين، وهو ما ينذر بدخول إسرائيل في حالة شلل سياسي نتيجة الاضطراب الهوياتي المستمر بداخلها.
أما فيما يتعلق بعلاقة إسرائيل بالخارج، فتظل العلاقة الإسرائيلية-الأمريكية محددا رئيسيا في ضمان وجود إسرائيل سواء من الناحية الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، وأخيرا والأهم العسكرية. إذ لا زالت الولايات المتحدة المتحكم الرئيسي (حتى الآن) في صناعة القرار العسكري الإسرائيلي وترسانته التسليحية.
ختاما، يمكن القول إن مجمل التطورات السياسية في إسرائيل لا تعبر بالضرورة عن معنى سياسي فقط، بل تعبر عن اختلالات هوياتية ثقافية تنبع من الإسرائيليين وعلاقتهم بالسلطة. وعليه، يمكن ترجيح أن إسرائيل تمر بأزمة ثقافية قد تمتد فصولها لتؤثر على شكل الدولة، واستقرار الامن الإقليمي من عدمه، والظواهر الجديدة التي ترغب إسرائيل في إلحاقها بمنطقة الشرق الأوسط.