خلال شهر يونيو الجاري وتحديدًا في الفترة من 4 يونيو حتى 24 يونيو أجرت دول الناتو العديد من المناورات البحرية والجوية في منطقة البلطيق، وردت روسيا باستعراض عضلاتها (Flexing its Muscles) وأجرت مناورة بحرية وجوية وبرية ضخمة في نفس المنطقة وخلال الفترة من 9 يونيو إلى 19 يونيو.
وعلى الرغم من أن هذه المناورات تُعتبر دورية إلا أن حجم الوحدات المشاركة في هذه المناورات كانت الأضخم منذ إنشاء حلف الناتو سنة 1949، وكذا كانت نوعية التمارين والتدريبات العملية التي أجريت، وهو ما يعكس حرص دول الناتو والدول المشاطئة لبحر البلطيق وضمنها روسيا على تأمين مصالحها في هذه المنطقة الحيوية من خلال إعداد قواتها المسلحة لرفع كفاءة أدائها في مواجهة العدائيات والتهديدات المتوقعة واضعة في الاعتبار التغييرات الكبيرة التي حدثت في أنماط وشكل وتكتيكات المعارك البحرية والجوية والبرية خلال الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ويهدف هذا المقال إلى إلقاء الضوء باختصار شديد على هذه المناورات من خلال إيضاح ثلاثة عناصر رئيسية هي:
- الموقف الجيوستراتيجي الحالي لبحر البلطيق.
- نبذة عن حجم ونوع المناورات والتمارين العملية التي أجرتها دول حلف الناتو.
- نبذة عن حجم ونوع المناورات والتمارين العملية التي أجرتها روسيا.
1- مختصر للموقف الجيوستراتيجي الحالي لبحر البلطيق:
– يقع بحر البلطيق في شمال أوروبا، وهو محاط من جميع الجهات بدول أعضاء في حلف الناتو، وهي: الدنمارك، وأستونيا، وألمانيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبولندا، وفنلندا التي انضمت الشهر الماضي إلى الحلف وروسيا، بالإضافة إلى السويد المنتظر انضمامها للحلف (بعد موافقة تركيا).
– تسيطر فنلندا والسويد على طول السواحل الشمالية للبحر، وألمانيا وبولندا ودول البلطيق الثلاث (أستونيا، ولاتيفيا، وليتوانيا) على السواحل الجنوبية والشرقية، بينما تتحكم في المدخل الغربي للبحر الدنمارك وألمانيا من الجنوب والسويد من الشمال، أي إن جميع السواحل مسيطر عليها بمعرفة دول أعضاء في حلف الناتو.
– يُشار إلى أن لروسيا إطلالة صغيرة على هذا البحر من خلال مقاطعة كالينجراد (Kaliningrad) ولها ساحل بطول حوالي 140 كم (75 ميلًا بحريًا)، بالإضافة إلى ساحل يتوسطه ميناء بطرسبرج (St.Petersburg) في أقصى الطرف الشرقي لخليج فنلندا (Gulf of Finland)، وذلك مقارنة بأن روسيا السوفيتية كانت تسيطر على ساحل بطول 1000 ميل.
– يعتبر بحر البلطيق ذا أهمية استراتيجية بالغة لحلف الأطلنطي ولروسيا لأسباب متعددة. فعلى سبيل المثال، يُعتبر هذا البحر أحد المخارج الرئيسية للقوات البحرية الروسية إلى المحيط الأطلسي ومنه إلى البحر المتوسط وباقي بحار العالم، وهو الشريان الرئيسي لنقل التجارة المحمولة بحرًا (Seaborne Trade) من وإلى الدول المشاطئة. فعلى سبيل المثال، فإن ميناء بطرسبرج في روسيا تداول 300 مليون طن في العام الماضي فقط، كما أن ميناء كالينجراد هو من الموانئ الدافئة العاملة معظم أيام السنة وهي ميزة هامة لروسيا إذا وضعنا في الاعتبار أن ميناء بطرسبرج لا يعمل 6 شهور في السنة تقريبًا لوجود الجليد، هذا بالإضافة إلى وجود بنية أساسية مهمة في قاع البحر، وأعني بها خطوط نقل الغاز وكابلات الاتصالات الدولية والإقليمية والذي اكتسب تأمينها أهمية كبيرة بعد حادثة تخريب خط الغاز الروسي إلى ألمانيا وأوروبا، وكذا تشير الدراسات إلى وجود احتياطات من البترول والغاز والمعادن مثل الحديد والمنجنيز في الجزء الجنوبي لخليج فنلندا ومناطق لصيد السمك، هذا بالإضافة إلى العديد من الاعتبارات العسكرية والفنية الأخرى.
– ولاستكمال توضيح الموقف الجيوسياسي الحالي لبحر البلطيق فإنه تجدر الإشارة إلى ثلاثة أحداث رئيسية جرت خلال العام الماضي.
- الأول هو توقيع بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا السابق اتفاقًا لإقامة تحالف أمني (Security Pact) بين السويد وبريطانيا، ويهدف لتقديم الدعم المتبادل في حالة تعرض إحدى الدولتين لأي عدائيات.
- الثاني هو أن الناتو قد ضاعف عدد السفن الحربية التابعة له في بحر البلطيق لتصبح 30 سفينة حاليًا بعد حادثة إعطاب خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 والذي يحمل الغاز الروسي إلى ألمانيا ومنها إلى أوروبا والذي تم تصنيفه ضمن فاعليات حرب الطاقة بين روسيا والناتو.
- الثالث كان في شهر مايو الماضي عندما أعلنت روسيا خروجها من مجلس دول بحر البلطيق (Baltic Sea states Council) بعد غرق المجلس في مستنقع الخوف والهلع من روسيا (Russophobia)، وتحوله إلى أداة لتنفيذ السياسات المعادية لروسيا، وذلك على حد تعبير لافروف وزير الخارجية الروسي عند مغادرته مقر المجلس في أستكهولم بالسويد.
وعلى ذلك يمكن اعتبار أن بحر البلطيق بوضعه الجيوسياسي الحالي هو بحر داخلي لدول الناتو.
2- نبذة عن مناورات الناتو في بحر البلطيق:
– تم إجراء أكبر مناورة بحرية يجريها حلف الناتو في بحر البلطيق خلال الفترة من 4 إلى 16 يونيو، تضم 14 دولة من حلف الناتو، بالإضافة إلى فنلندا التي انضمت حديثًا والسويد المنتظر انضمامها للحلف قريبًا، وتضم 45 سفينة، وأكثر من 75 طائرة، و7500 مقاتل، وذلك للتدريب على تنفيذ إجراءات الدفاع المجمع لضمان أمن وسلامة الملاحة في بحر البلطيق وتأمين خطوط المواصلات البحرية (Sea Lines of Communications SLOCS).
– ويصاحب هذه المناورة أكبر مناورة جوية في تاريخ حلف الناتو (تجري خلال الفترة من يوم 12 يونيو إلى 23 يونيو) بمشاركة 25 دولة و250 طائرة منهم 100 طائرة من أمريكا وعشرة آلاف مقاتل، وجرت فوق بحر الشمال (بحر البلطيق) جنوب ألمانيا لتنفيذ عدد من تمارين الدفاع ضد الأهداف الجوية (Air Defender Exercise)، وهي ترسل رسالة قوية وواضحة بأن دول الناتو مستقرة وقادرة على الدفاع عن كل بوصة من حدود الحلف كما تعكس قوة الروابط بين أمريكا ودول أوروبا الأعضاء في الناتو، بالإضافة إلى إرسال رسالة طمأنة إلى كل من السويد وفنلندا.
– تهدف هذه المناورة إلى زيادة قدرة القوات الجوية لدول الناتو على العمل معًا، وتوحيد الأداء العملياتي التشغيلي المتداخل (Interoperability)، وذلك من خلال دمج العمليات الجوية ونظم المراقبة والتصنيف والتحكم مع مختلف القواعد الجوية بما يضمن الاستخدام الجماعي الفعال لكل نظم التسليح والطائرات المشاركة من مختلف الدول. ويشار إلى أن هذه المناورة أُديرت من مركز العمليات الجوية المشتركة للناتو (Combined air operation center) في رامشتاين بألمانيا.
– وكانت أهم المهام الرئيسية التي تم التدريب عليها هي صد الهجمات الجوية المعادية، وتدمير الأهداف الجوية وبالذات الصواريخ بأنواعها (باليستية / عابرة) والمسيرات بأنواعها والطائرات والتي تستهدف المدن والبنية الأساسية الحيوية لدول الناتو، بالإضافة إلى تقديم الدعم بأنواعه للقوات البحرية والبرية الحليفة وكذا عمليات الإخلاء.
– في 20 مايو 2023 تم إجراء تمرين “عاصفة الربيع” (Spring Storm) في إستونيا، وعلى الرغم من أن هذا التمرين يتم سنويًا إلا أنه كان الأضخم هذا العام من حيث حجم ونوعية القوات والمعدات والتي ضمت دبابات وعربات مدرعة ومدفعية هاوتزر وطائرات بأنواعها وسفن مرور وكاسحات ألغام ساحلية وسفن إبرار.
– شمل التمرين إجراءات نقل وتخزين قوات ومعدات أمريكية لعبور الحدود بغرض زيادة حجم المجموعة القتالية الخاصة بالناتو (Battle Group) في بولندا من كتيبة إلى لواء.
– يشار إلى أنه تمت مشاركة 11 دولة، وهي: كندا، والدنمارك، وفرنسا، وجورجيا، وإيطاليا، وألمانيا، ولاتفيا، وبولندا، وإنجلترا، وأمريكا، بالإضافة إلى إستونيا.
3- نبذة عن مناورات روسيا في بحر البلطيق:
قامت روسيا بإجراء مناورة بحرية ضخمة شاركت فيها القوات البرية والقوات الجوية خلال الفترة من 9 إلى 19 يونيو، شاركت فيها 60 سفينة حربية بأنواعها و45 طائرة وهيلكوبتر و10 آلاف جندي.- تم التدريب على مهام البحث عن سفن السطح والغواصات المعادية وتدميرها، وتنفيذ إجراءات الدفاع عن القواعد البحرية باستخدام أسلوب (A2 / AD) وهو أسلوب يعني حرمان سفن العدو من الدخول إلى مناطق محددة (Anti-access) مع حرمان العدو من استخدام مناطق من البحر كوسيلة لنقل القوة إلى البر (Area Denial)، كما تم التدريب على حماية خطوط المواصلات البحرية الحليفة ضد مختلف أنواع العدائيات (سطحية / جوية / تحت السطح / فضائية). هذا بالإضافة إلى تدريبات بالقوات البرية المتمركزة في كالينجراد على صد وتدمير قوات إبرار معادية نجحت في الوصول إلى الشاطئ وذلك باستخدام النيران الحية.