عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مرة أخرى كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، يأتي فوزه وسط انقسام سياسي حاد في البلاد وتحديات اقتصادية واجتماعية داخلية، إلى جانب تغييرات جيوسياسية على المستوى العالمي، حيث تميزت حملته الانتخابية الثانية بخطاب يركز على استعادة “عظمة أمريكا” ومعالجة القضايا الاقتصادية والأمنية التي يعتبرها ذات أولوية قصوى، وأثار فوزه ردود فعل واسعة النطاق، حيث رحب مؤيدوه بعودته، في حين عبّر المعارضون عن قلقهم من تأثير سياساته على الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويترقب العالم تأثير عودة ترامب على السياسة الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الصين وروسيا والشرق الأوسط، وكذلك تداعيات سياساته الداخلية التي يعتزم تطبيقها في ولايته الثانية، سنحاول في هذا التقرير استقراء سياسات ترامب الاقتصادية خلال فترة ولايته في ظل المتغيرات العالمية السابق ذكرها.
في الولايه السابقة التي استمرت خلال الفترة من 2017 – 2021 اتسمت السياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي ترامب بتوجهاتها الداعمة للنمو الاقتصادي المحلي وتعزيز القوة التنافسية الأمريكية في الاقتصاد العالمي، وركزت استراتيجيته الاقتصادية على تخفيف الضرائب، وتحفيز الاستثمار، وتقليص القيود التنظيمية، كما اتخذ قرارات أثرت في مجالات التجارة والهجرة والطاقة، حيث أقر ترامب قانون (Tax Cuts and Jobs Act – TCJA) تخفيضات الضرائب والوظائف عام 2017، الذي وقعه في ديسمبر 2017، والذي يعد أحد أكبر التعديلات على النظام الضريبي الأمريكي منذ أكثر من ثلاثة عقود، كان الهدف الأساسي للقانون هو تحفيز الاقتصاد الأمريكي من خلال خفض الضرائب بشكل كبير، خاصة للشركات والأفراد من ذوي الدخول المرتفعة. وقد تضمنت بنود القانون تخفيض معدل ضريبة الشركات من 35% إلى 21%، وهو أدنى مستوى منذ عقود، ما جعل الولايات المتحدة أكثر جاذبية للشركات العالمية من حيث الضرائب.
بالإضافة إلى ذلك منح القانون تخفيضات ضريبية مؤقتة للأفراد، حيث استفادت الأسر ذات الدخل المرتفع من تخفيضات ضريبية أكبر مقارنة بالفئات الأخرى. ومع ذلك، كان هناك سقف جديد على خصم الضرائب العقارية والدخل المحلي، وهو ما أثر على بعض الولايات ذات الضرائب المرتفعة، على صعيد الشركات، تم إلغاء أو تعديل عدة بنود تهدف إلى تحفيز الشركات على إعادة استثمار أرباحها داخل البلاد، كما سمح القانون بخفض الضرائب على الأرباح الخارجية، بهدف تقليل الدافع لنقل الشركات لعملياتها إلى الخارج. ورغم الزيادة في أرباح الشركات وأسعار الأسهم نتيجة لهذه التخفيضات، إلا أن القانون أثار جدلًا كبيرًا حول تأثيره على عدم المساواة في الدخل.
أما عن ملف التجارة الدولية، فقد اتبعت إدارة ترامب سياسة تجارية حمائية، حيث فرض ترامب تعريفات جمركية عالية على واردات الصلب والألومنيوم في مارس 2018، والتي وصلت إلى نسبة 25% على واردات الصلب و10% على واردات الألومنيوم، ضمن إطار سياسة “أمريكا أولًا” التي هدفت إلى حماية الصناعات الوطنية من الواردات الأجنبية التي اعتبرتها الإدارة الأمريكية مدعومة بأسعار غير عادلة، خاصة من الصين، وقد تم تبرير تلك التعريفات بأنها ضرورية لحماية الأمن القومي الأمريكي، كون قطاعي الصلب والألومنيوم من الصناعات الحيوية المرتبطة بالدفاع والبنية التحتية، من جانب آخر أعادت إدارة ترامب التفاوض على الاتفاقات التجارية، حيث ألغى اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ وأعاد التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA) ليحل محلها اتفاق “الاتفاقية الأمريكية المكسيكية الكندية” (USMCA) في عام 2020، وأطلق ترامب حربًا تجارية مع الصين بهدف تقليل العجز التجاري الأمريكي وزيادة الإنتاج المحلي. شملت الرسوم الجمركية سلعًا صينية بقيمة مئات المليارات من الدولارات، مما أدى إلى توترات اقتصادية عالمية، وزيادة في تكاليف الإنتاج للمصانع الأمريكية.
أما عن ملف الطاقة، فقد ركز ترامب على تخفيف القيود التنظيمية على الشركات، حيث ألغى العديد من اللوائح البيئية والصحية المعمول بها، وسهل عمليات استخراج الوقود الأحفوري والنفط. كما دعم بقوة صناعة الطاقة المحلية، بما في ذلك الفحم والنفط والغاز، لتقليل الاعتماد على واردات الطاقة وتعزيز الاكتفاء الذاتي في قطاع الطاقة. كان من أبرز قراراته في هذا المجال الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، معتبرًا أنها تضع عبئًا غير متناسب على الاقتصاد الأمريكي مقارنةً بالدول النامية.
أثر السياسات الاقتصادية
تمكنت السياسات الاقتصادية لترامب، خاصة في بداية فترته، من تحقيق معدلات نمو اقتصادي جيدة، وانخفض معدل البطالة إلى مستويات تاريخية منخفضة. ومع ذلك، كان هناك انتقادات واسعة لهذه السياسات؛ حيث اعتبر البعض أن التخفيضات الضريبية أفادت الأثرياء والشركات الكبرى أكثر من الطبقة المتوسطة والعاملة، بينما اعتبرت الحرب التجارية مع الصين سببًا في زيادة التكاليف على المستهلكين والشركات الأمريكية، وأثرت سلبًا على بعض القطاعات مثل الزراعة وصناعة السيارات.
الشكل 1: صادرات فول الصويا الأمريكية للصين – وزارة الزراعة الأمريكية
فعلى سبيل المثال، تأثرت صادرات فول الصويا الأمريكية للصين بشكل كبير نتيجة للرد الصيني على السياسات الحمائية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على الصين،فقبل فرض التعريفات، كانت الصين تستورد حوالي 60% من صادرات فول الصويا الأمريكية، مما جعلها سوقًا حيوية للمزارعين الأمريكيين. وعندما توقفت الصين عن شراء فول الصويا بسبب الرسوم الجمركية، شهد المزارعون خسائر مالية كبيرة، واضطروا إلى تخزين المحصول بسبب نقص المشترين، في مواجهة هذه الصعوبات، قدمت إدارة ترامب حزمة مساعدات مالية للمزارعين بقيمة مليارات الدولارات لتعويضهم عن الخسائر الناتجة عن الحرب التجارية. ومع ذلك، لم تتمكن هذه المساعدات من تعويض جميع الأضرار، حيث كانت المبالغ غير كافية لبعض المزارعين، وكان التوزيع متفاوتًا، مما أثار انتقادات بأن المساعدات استفادت منها الشركات الزراعية الكبرى أكثر من المزارع الصغيرة والمتوسطة، كما تأثرت القطاعات الزراعية التي تعتمد على التصدير بارتفاع أسعار المواد المستوردة اللازمة للإنتاج، مثل الأسمدة والآلات الزراعية، نتيجة لسياسات التعريفات الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم. أثر هذا بشكل مباشر على تكاليف الإنتاج الزراعي، مما قلل من قدرة المزارعين على المنافسة ورفع أسعار المنتجات المحلية.
أما عن التعريفات الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم، فقد كانت سببًا في مواجهة قطاع السيارات الأمريكي زيادة مباشرة في تكاليف المواد الخام المستخدمة في تصنيع السيارات، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وزيادة أسعار السيارات على المستهلكين. هذا الأمر أثر على قدرة الشركات الأمريكية على المنافسة، خصوصًا أمام السيارات المستوردة من دول ذات تكاليف إنتاج أقل. كما دفعت هذه التكاليف الإضافية بعض الشركات إلى التفكير في نقل عملياتها الإنتاجية إلى الخارج للحد من تأثير الرسوم، مما يتعارض مع أهداف السياسة التجارية التي هدفت إلى تعزيز الإنتاج المحلي. فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة جنرال موتورز (General Motors) عملاق صناعة السيارات الأمريكية في العام 2018 عن إغلاق عدد من مصانعها بأمريكا بما في ذلك مصانع في أوهايو، وميشيغان، وماريلاند، وذلك ضمن إعادة هيكلة تهدف إلى تقليل التكاليف وتحسين الربحية في مواجهة تكاليف الإنتاج المرتفعة. على الرغم من أن هذه القرارات لم تكن مرتبطة فقط بالتعريفات الجمركية، إلا أن ارتفاع تكاليف الصلب والألومنيوم ساهم في الضغط على الشركة. بينما لم تنقل جنرال موتورز بالكامل عملياتها إلى الصين، فقد زادت من استثماراتها وإنتاجها بالصين لتلبية الطلب الصيني الكبير، شركة تسلا (Tesla) عملاق صناعة السيارات الكهربائية قامت ببناء مصنع ضخم (Gigafactory) في شنغهاي بالصين لتجنب التعريفات الجمركية على السيارات المستوردة للسوق الصينية، وقد جاء هذا القرار لتخفيف أثر الرسوم المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين، مما ساعد تسلا على تقديم سياراتها بأسعار تنافسية داخل السوق الصينية، سيارة فورد (Ford) اختارت عدم تصنيع بعض الطرازات داخل البلاد لتجنب التعريفات الجمركية المرتفعة. على سبيل المثال، تم تصنيع طراز فورد فوكس أكتيف (Ford Focus Active) في الصين بدلًا من الولايات المتحدة، بهدف خفض التكاليف، لكن الشركة ألغت لاحقًا خطط استيراد هذا الطراز إلى الولايات المتحدة بسبب التكاليف الجمركية.
أدوات ترامب الحالية
يركز البرنامج الاقتصادي الذي اقترحه دونالد ترامب للولايات المتحدة على مدى السنوات الأربع المقبلة على تخفيضات الضرائب، وتخفيض الإجراءات التنظيمية، وزيادة التعريفات الجمركية، وتوسيع إنتاج الطاقة، ومن بين المكونات الرئيسية تمديد وتوسيع قانون تخفيضات الضرائب والوظائف لعام 2017، والذي يتضمن الحفاظ على معدلات ضريبة الدخل الفردي المنخفضة، والحفاظ على الخصم القياسي الأعلى، وخفض معدل ضريبة الشركات من 21٪ إلى 15٪. بالإضافة إلى ذلك، يخطط ترامب لإلغاء الضرائب على إعانات الضمان الاجتماعي، وهي السياسة التي يمكن أن تفيد بشكل كبير كبار السن الأميركيين أصحاب الدخول الثابتة ولكنها من شأنها أن تضيف إلى العجز الفيدرالي بمرور الوقت.
وفي التجارة، يركز ترامب على فرض تعريفات جمركية عالية على السلع من دول مثل الصين، بحجة أن هذه التعريفات من شأنها أن تعزز الصناعات المحلية مثل تصنيع الصلب والسيارات، وتهدف مقترحاته أيضًا إلى خفض الإنفاق الفيدرالي، بما في ذلك إعادة تخصيص الأموال من مبادرات الطاقة النظيفة بموجب قانون خفض التضخم، والذي يخطط لتقليصه لإعطاء الأولوية لإنتاج الطاقة التقليدية. ويشمل هذا فتح المزيد من الأراضي الفيدرالية لاستكشاف وحفر آبار النفط والسماح ببناء المزيد من المصافي ومحطات الطاقة لزيادة إنتاج الطاقة محليًا.
وبالنسبة للإسكان، اقترح ترامب فتح الأراضي الفيدرالية للتطوير لتخفيف النقص في الإسكان، وخاصة في المناطق ذات الطلب المرتفع. ويزعم أن هذه الجهود من شأنها أن تخلق فرص العمل، وتزيد العرض، وربما تعمل على خفض تكاليف الإسكان. وتعكس المنصة الاقتصادية الأوسع لترامب مزيجًا من سياسات التجارة الحمائية، والحوافز الضريبية، والنهج غير التنظيمي، بهدف زيادة الإنتاج المحلي، وخفض التضخم، وتعزيز الاكتفاء الذاتي للولايات المتحدة في الصناعات الرئيسية. ومع ذلك، من المرجح أن تؤدي هذه السياسات إلى زيادة العجز الفيدرالي بشكل كبير، حيث تشير التقديرات إلى زيادة قدرها 5.8 تريليون دولار على مدى العقد المقبل بسبب التخفيضات الضريبية وتعديلات الإنفاق.