لم تجد رئيسة الحكومة الإسرائيلية «جولدا مائير» فى تل أبيب سوى عدد محدود من الوزراء، (ثلاثة من مجموع ثمانية عشر وزيرا) عندما تلقت اتصالا فى السادسة من صباح السادس من أكتوبر 1973، ليخبروها بأنه أصبح من المؤكد وقوع الهجوم المصرى السورى فى مساء اليوم نفسه. كان معظم الوزراء الإسرائيليين قد انصرفوا مساء يوم 5 أكتوبر إلى مزارعهم ومدن إقامتهم، لقضاء إجازة عيد الغفران مع عائلاتهم بعد أن اطمأن مجلس الوزراء إلى استبعاد احتمال حدوث هجوم مؤكد. قبل ذلك التوقيت بنحو ساعتين؛ استيقظ «موشيه دايان» وزير الدفاع من نومه فى الرابعة فجرا على رنين الهاتف فى منزله فى تسهلا، كانت المكالمة من شخص خارج تسهلا، قال فيها للوزير لم يعد هناك شك فى صحة ودقة المعلومات التى وصلت إسرائيل، تأكدت صحة المعلومات، الحرب أكيدة. انتظم اجتماع السابعة صباحا مع رئيسة الحكومة فى مكتبها، والذى حضره فضلا عن وزير الدفاع الذى أخطر رئيسته بما وصله من تأكيد للمعلومات، كل من رئيس الأركان «دافيد أليعازر» و«إيلى زعيرا» رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية.أطلع رئيس الأركان رئيسة الحكومة على أن سلاح الجو الموجود فى حالة تأهب منذ عشية يوم الغفران، وقادر على توجيه «ضربة وقائية» فى كلتا الجبهتين. كما اقترح أليعازر إعلان التعبئة العامة والشاملة لجميع الأسلحة فورا، لكن رئيسة الحكومة أعلنت أنها انضمت إلى رأى وزير الدفاع، فى أنه لا يجوز لإسرائيل أن تكون هى المبادرة إلى الحرب. فى هذا الاجتماع أيضا رفض تمرير قرار التعبئة من قبل جولدا مائير وديان، وافترض وزير الدفاع أن القوات النظامية الموجودة على الجبهات، قادرة على الصمود حتى وصول الاحتياط، لذلك ساد الاعتقاد بأنه تكفى فى هذه المرحلة «تعبئة هادئة». انضم «يجال آلون» نائب رئيسة الوزراء، الذى صار قبل فترة عضوا دائما فى «المطبخ» أو وزارة الحرب كما اصطلح على تسميتها إعلاميا، وعندما أبلغ آلون بخبر إنذار الحرب فى الساعة 18٫00 أبدى دهشة كبيرة، وقال: 6 مساء! هذا غير معقول. فهم بحاجة إلى بضع ساعات من النهار، وبعد ذلك يحتمون بالظلام من سلاح الجو، ربما المقصود 16.00 أى الرابعة بعد الظهر. لكن احدا لم يلتفت إلى تلك الملاحظة التى سجلت فى محضر هذا الاجتماع المصيرى، الذى انضم إليه لاحقا أيضا «بنحاس سابير» وزير المالية. يذكر كتاب «المحدال» التقصير، كثيرا من التفاصيل التى جرت خلال الساعات التى تلت هذا الاجتماع، فلم تغادر رئيسة الحكومة مكتبها قبل أن تجرى عددا من المقابلات. لكن الأهم أن الكتاب الإسرائيلى، فى ذات الفصل الذى جاء بعنوان «لهم عيون ولا يبصرون»، قدم رصدا لسلسلة الاجتماعات التى أجرتها الحكومة الإسرائيلية، بدءا من استشعار ما يمكن تسميته بنذر هجوم وشيك، أو على الأقل تغييرات جوهرية فى أوضاع وحجم القوات على جبهتى القناة والجولان. كما جاء بالكتاب نصا، إن الشعار الذى أطلقه الرئيس جمال عبدالناصر «ما أخذ بالقوة، لا يسترد بغير القوة»، لم ينته بموته. بل تبناه حرفيا وريثه فى الحكم أنور السادات، والأهم من ذلك قيامه بعملية تضليل لم يسبق لها مثيل فى التاريخ، فقد تم تليينه وتغييره وإعطاؤه تفسيرات جديدة، لدرجة أنه فى لحظة معينة أعلن السادات استعداده للتوصل إلى سلام مع إسرائيل والاعتراف بحقها فى الوجود. فى الوقت الذى شهدت السنوات الثلاث منذ وقف إطلاق النار سنة 1970 وحتى اندلاع حرب أكتوبر 1973، تكريسا لجميع موارد مصر وسوريا للإعداد لوضع الشعار القديم موضع التنفيذ. اعتبر كتاب «المحدال»؛ أن الدلائل الأولى للتقصير والإخفاق الإسرائيلى بدأت بوضوح خلال شهرى أبريل ومايو 1973، وامتدت حتى وصلت إلى الأيام العشرة التى سبقت الحرب. فمنذ منتصف أبريل بدأت تصل إسرائيل معلومات كافية لإثارة قلق القيادة العامة والوزراء فى الحكومة، عن استعداد حربى بارز فى مصر تمثل فى تحركات عسكرية كبيرة فى مؤخرة الجبهة المصرية، وعن تحريك قوات باتجاه القناة. فى 28 مايو 1973 كتبت صحيفة «النهار» اللبنانية تقول: إن نقل الجيش المصرى يتم ليلا ونهارا من القاهرة إلى منطقة القناة. وأعلنت حالة التأهب القصوى فى الجيش المصرى لمواجهة إمكان تنفيذ قرار مصيرى، قد يصدر فى أى لحظة. وعندما ردت إسرائيل على تلك الإنذارات بانخراط جيشها فى سيناء فى مناورة مفاجئة، كانت بهدف رئيسى هو ردع العدو، لم يحدث ذلك أى رد فعل لدى المصريين، فقد استمرت المناورة أسبوعين على مرأى من المصريين المتمركزين غربى القناة، لكن السادات لم يكن ينوى أبدا البدء فى الحرب فى هذا التوقيت. الجيش المصرى كان يسير حينها فى اتجاه إستراتيجية خداع مغايرة، فقد كان تأهب الجيش المصرى الذى استغرق ما يقارب عاما كاملا قبل الحرب، يرمى إلى تحقيق هدفين رئيسيين، التأكد من تدابير التأهب وقدرات عمل قيادات الفرق، واختبار سرعة رد الفعل الإسرائيلى وطابعه. وقد لعبت تلك الإستراتيجية دورا حاسما فى عملية التضليل العامة، التى قصدت منها مصر، أن تجعل القيادة العامة الإسرائيلية تعيش على أعصابها، وتفرض عليها استنفار الجيش الإسرائيلى بين الفينة والأخرى، إلى أن تتخدر فى نهاية الأمر بتكرار هذا النوع من المناورات ورفع حالات التأهب القصوى. كان هناك توزيع دقيق للأدوار، ففى الوقت الذى كان الرئيس السادات يقوم بـ«تسخين» الأجواء فى الشرق الأوسط، كما جاء بمقابلته مع مجلة «نيوزويك» الأمريكية أبريل 1973، فيها أعلن نيته القيام بعمل عسكرى ضد إسرائيل فى موعد قريب. كانت هناك دوما أطراف أخرى فى إدارته من الجيش وغيرهم، يقومون بترشيد «خداعى» لتوجهات الرئيس المصرى، من أجل إيجاد حالة تضليل متكاملة ومتماسكة داخل إسرائيل.النجاح المصرى الباهر جعلها ترفض التصديق رغم عديد التأكيدات التى تلقتها، وقيدها داخل مربع الشك، فكذبت ما تراه بعيونها حتى اللحظات الأخيرة قبيل فتح أبواب الجحيم.
خمسون عاما .. حقائق ما جرى فى أكتوبر 1973 «2»
خالد عكاشة - المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
وقت القراءة: 7 دقيقة
استمع للمقال
الكاتب خالد عكاشة المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
تابعنا
تابعنا علي وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة