الى اى مدى ستؤثر الهجمات البربرية والوحشية على قطاع غزة، على الاقتصاد الإسرائيلى؟ هذا هو التساؤل المطروح الآن، خاصة بعد ان تلقى الاقتصاد سلسلة من الضربات التى أثرت عليه إذ تشير التقديرات الأولية الى ان التكلفة المباشرة للحرب بلغت مليار دولار اسبوعيا، فإذا ما أضفنا إليها الأضرار الإجمالية للاقتصاد لتضاعف هذا الرقم مرات عديدة، حيث أعلن البنك المركزى الإسرائيلى ان النمو الاقتصادى سوف يتقلص من 3% الى 2.3% كما اضطر الى بيع 30 مليار دولار للدفاع عن الشيكل الإسرائيلى، ناهيك عن توقف العديد من المصانع والمنشآت نتيجة لاستدعاء نحو 360 ألف جندى من قواتها الاحتياطية، وبالتالى زيادة معدل البطالة وارتفاع التضخم، مع تعطيل سلاسل التوريد من الموانى البحرية وما ترتب عليها من نقص حاد فى الواردات الغذائية. يضاف الى ذلك إغلاق حقل الغاز الطبيعى تمار البحرى واحتمال اغلاق الحقول الشمالية. وكلها أمور أدت الى قيام وكالات الائتمان الدولية بتخفيض التصنيف الائتمانى إلى سلبى ووضعه تحت المراجعة، مما يشير الى احتمالية خفضه مرة أخرى. هذا ومع اتفاقنا التام بما ذهب إليه المفكر الاقتصادى الراحل د. محمود عبدالفضيل، من أن القضية ليست حسابا للمكاسب والأعباء بالمعنى الاقتصادى الضيق والمجرد، فإسرائيل ليست مجرد دولة أجنبية تقوم بتصدير سلعها إلى بقية البلدان، وأنها تقوم باستثمارات شأنها شأن الدول الأخرى، بل هى دولة ذات مشروع قائم على الأيديولوجية الصهيونية التى تعنى استمرار استيعاب المهاجرين الجدد وتوطينهم فى فلسطين المحتلة، فى ظل قانونى الجنسية والعودة وهما يعطيان أى يهودى فى العالم حق الحصول على الجنسية والإقامة، مما يعنى استمرار الضغط فى اتجاه التوسع لتأمين الموارد الطبيعية والجغرافية اللازمة لاستيعاب حركة متواصلة للاستيطان الصهيونى، يدفع باتجاه الزحف المستمر لتوسيع الهامش الاقتصادى الحيوى لاقتصادها. إلا أن ذلك لا ينفى إمكانية دراسة النتائج المترتبة على هذه العملية، وتبرز أهميتها فى ضوء الطبيعة الهيكلية للاقتصاد الإسرائيلى، القائم أساسا على الحرب كأبرز سماته وأن التفاعل بين الحرب والاقتصاد يؤثر فى النهاية على جوهر وجودها، ذلك لأنها تؤدى للتخلص من مشكلاتها المزمنة وتمكنها من تحقيق مزايا عديدة مثل التوسع الإقليمى وتوفير مصادر طبيعية … إلخ. ويحتاج فهم الطبيعة الخاصة للاقتصاد الإسرائيلى، إلى دراسة مدى تفاعل ثلاثة عوامل أثرت فيه تماماً وهى الاعتماد على دولة عظمى لتبنى المشروع فى الاستراتيجية الدولية (بريطانيا فى المرحلة الأولى، والولايات المتحدة منذ الحرب الباردة). ثانياً الدور الخاص والمحورى للدولة فى الاقتصاد، حيث تقوم بالإشراف والتخطيط المركزى الذى يشمل مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية كافة. والثالث تدفق رأس المال من الخارج بصورة مكنته من توفير التراكمات الرأسمالية الضرورية لبناء القطاعات الإنتاجية. وقد مر الاقتصاد الإسرائيلى بعدة مراحل مختلفة تناسبت كل مرحلة مع مجموعة من الأهداف المرجوة منها، وتمكنت من بناء أرضية اقتصادية متينة فى جميع المجالات، فتم تحديث وميكنة الزراعة وتكثيف رأس المال الموظف بها لدرجة تجاوزت قدرة الزراعة الإسرائيلية على استيعابها وكذلك الأمر بالنسبة للصناعة، وبالتالى استطاعت تحقيق معدلات نمو مرتفعة. واعتمدت فى نموها الاقتصادى على ظاهرة عسكرة الاقتصاد وفقا للكينزية العسكرية التى تعنى تدخل الدولة لرفع مستوى الطلب الكلى فى الاقتصاد القومى، عن طريق الإنفاق العسكرى المتزايد ولذلك ظل الإنفاق العسكرى إحدى الآليات المهمة لنمو الاقتصاد، بل إن جزءا مهماً من التقدم التكنولوجى الذى تفاخر به حالياً يعود إلى نفقات السلاح والجهد المبذول فى هذه الصناعة، وما ترتب عليه من تقدم هائل فى بعض الصناعات العلمية الكثيفة المهارة مثل صناعة الإلكترونيات والحاسبات الآلية والطائرات … الخ. ومن الملاحظ أن معظم الصادرات الصناعية يتركز أساسا فى المعدات العسكرية، بل وتعد إسرائيل ضمن أكبر البلدان المصدرة للسلاح فى العالم. ويرجع التركيز على التصدير التكنولوجى نتيجة لافتقاره للموارد الطبيعية، حيث لا يستطيع أن ينتج أو يصدر إلا ثمرة المورد الوحيد المتاح له، والذى لا يرتبط بالأرض، ونقصد به تحديداً ثمرة الدماغ البشرى، أى المنتجات التكنولوجية، وقد استطاعت توظيف علاقاتها الخارجية لخدمة هذا الهدف، حيث نجحت فى الحصول على التكنولوجيا المتقدمة من خلال قناتين أساسيتين أولاهما اقتناؤها بالمجان أو بالمقابل الرمزى لمجموعة واسعة من المعلومات التقنية التى توفر لها التكاليف الضخمة فى ميدان الأبحاث والتطوير والتصنيع، وثانيهما التنقل للعلميين والتقنيين بين المنشآت والمختبرات الأوروبية وإسرائيل، هذا فضلا عن إقامة العديد من المشاريع المشتركة وفتح عدة أفرع لشركات أوروبية، الأمر الذى أتاح للشركات الإسرائيلية الاستفادة من طاقتها وخبراتها. وفى ضوء هذه التغييرات يمكننا مناقشة مدى الاستفادة الإسرائيلية من هذه الحرب؟ وهنا نرى أن الأهداف التوسعية لإسرائيل وتحقيق الدولة التى تحكم بها قائمة أساسا على مبدأين رئيسيين، أولهما أن تكون الموارد من الكثرة والتنوع بحيث يمكنها من استقبال أعداد أكبر من السكان وتوفير مستوى معيشى مرتفع لهم وتأمين الحاجات الضرورية لإقامة الدولة الحديثة، وثانيهما أن تكون الموارد الحيوية لهذه الدولة كالماء والنفط وغيرهما من الثروات الطبيعية، تحت سيطرتها، أى واقعة ضمن أراضيها، ومن هنا يتضح لنا أن الهدف يكمن أساسا فى إنعاش الاقتصاد الإسرائيلى وتمكينه من تنفيذ المرحلة التالية فى الاستراتيجية العامة للدولة، وتحويلها من مجرد دولة صغيرة وضعيفة، من ناحية الكم، إلى قوة إقليمية ودولية وهى إسرائيل الكبرى وفقا للمفهوم التوراتى. ومع تسليمنا من حجم المنافع التى سيجنيها الاقتصاد الإسرائيلى جراء اجتياح غزة، فإننا نؤكد أن هذه المكاسب يمكن أن تصل إلى حدها الأدنى إذا ما أدرك العالم العربى طبيعة المخاطر المترتبة عليها، وهو ما لن يتأتى إلا عبر الانتقال من دائرة النيات والأقوال إلى دائرة الأفعال الجادة.
الاقتصاد الإسرائيلى والحرب على غزة
عبد الفتاح الجبالي - عضو الهيئة الاستشارية
وقت القراءة: 7 دقيقة
استمع للمقال
تابعنا
تابعنا علي وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة