أعلن رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” في 5 يناير 2024 أن حكومته بصدد تشكيل لجنة ثنائية لجدولة انسحاب قوات التحالف الدولي ضد داعش من العراق بصورة نهائية، وأنه لن يكون هناك تفريط بكل ما من شأنه استكمال السيادة الوطنية على الأراضي العراقية. يأتي هذا بعد يوم واحد من تنفيذ غارة جوية أمريكية على أحد مقرات الحشد الشعبي في بغداد، أسفرت عن مقتل “مشتاق طالب السعيدي” المُلقب بـ “أبو تقوى” والقيادي بحركة النجباء (إحدى الميليشيات العراقية المنضوية ضمن فصائل الحشد الشعبي)، بررتها الولايات المتحدة بحقها في الدفاع عن النفس ضد ما تتعرض له قواتها المتواجدة بالعراق وسوريا من ضربات على يد الفصائل الموالية لإيران منذ اندلاع الحرب في غزة، فيما اعتبر العراق أن مثل هذه الضربات تُعد أعمالًا عدائية من شأنها الإضرار بالمصلحة الوطنية والمساس بسيادة وأمن واستقرار البلاد، وتتجاوز الأهداف المُتفق عليها لمهمة التحالف ضد داعش.
وفي ضوء ما سبق، يُسلط هذا الموضوع الضوء على دوافع العراق للمطالبة بإنهاء مهام قوات التحالف الدولي ضد داعش، ومدى إمكانية موافقة الولايات المُتحدة على هكذا مطالب لا سيما أنها تأتي في سياق إقليمي مضطرب على خلفية الحرب الدائرة في غزة، والتداعيات والتحديات المُحتملة التي قد تترتب على إنهاء دور التحالف الدولي في العراق على نشاط تنظيم داعش، ومدى قدرة بغداد على مُجابهتها.
دوافع عديدة
جاءت المطالبة العراقية بانسحاب القوات الأمريكية في ظل لحظة إقليمية فارقة يشهد فيها الشرق الأوسط مرحلة مضطربة ترتبط بالعدوان الإسرائيلي على غزة وما صاحبه من اشتعال الوضع الإقليمي وسط محاولات لإبقاء قواعد الاشتباك بين الفواعل الدوليين والإقليميين من الدول وغير الدول عند مناسيبها المستقرة سلفًا قبل اندلاع الحرب، ويُمكن استعراض أبرز دوافع هذه المطالبات كالتالي:
• التصعيد العسكري المتبادل بين واشنطن والميليشيات العراقية: رغم أن مطالبة العراق بانسحاب قوات التحالف الدولي ضد داعش ليست الأولى من نوعها؛ ففي أعقاب مقتل قائد الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني على يد الجيش الأمريكي ببغداد في يناير 2020 صوّت البرلمان العراقي على إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في البلاد، وفي منتصف أغسطس 2023 أكّد رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” أن العراق لم يعد بحاجة إلى قوات أجنبية على أراضيه، إلا انّ الدعوات الأخيرة المُطالبة برحيل القوات الأمريكية تأتي في سياق إقليمي مُغاير عن سابقتها؛ إذ تأتي في إطار تصاعد الاشتباكات العسكرية بين القوات الأمريكية في المنطقة والميليشيات والفصائل المُسلحة الموالية لإيران على خلفية الحرب في غزة.
فبعد نحو 10 أيام من اندلاع هذه الحرب تعرّضت القواعد العسكرية التي تستضيف قواعد أمريكية عاملة في إطار التحالف الدولي في العراق وسوريا لعشرات الهجمات بطائرات بدون طيار وصواريخ، عدّدتها واشنطن بأكثر من 115 هجومًا ضد قواتها في البلدين. وقد تبنت المقاومة الإسلامية في العراق (شبكة من الميليشيات العراقية المُسلحة المدعومة من إيران) غالبية هذه الهجمات ردًا على دعم واشنطن لإسرائيل في حربها على قطاع غزة. وفي المُقابل ردّت الولايات المتحدة بقصفها لمواقع تابعة لتلك الميليشيات في العراق ومواقع مُرتبطة بإيران في سوريا، وقامت كذلك بإدراج عدد من القادة في كتائب “حزب الله” العراقي وكتائب “سيد الشهداء” على لائحتها الخاصة بالإرهاب. وبالتزامن مع التصعيد الميداني تصاعدت كذلك دعوات القوى السياسية والفصائل المُسلحة العراقية لاستهداف مصالح الدول الداعمة لإسرائيل في حرب غزة، وفي مُقدمتها الولايات المتحدة.
وعليه، يُمكن فهم أبعاد إعلان العراق عن تشكيل لجنة ثنائية لترتيب والتسريع من إنهاء مهام قوات التحالف الدولي ضد داعش، في ضوء الضغوط الداخلية التي تتعرض لها حكومة “السوداني” لطرد القوات الأجنبية، وعجزها عن خفض حالة التصعيد الجاري – بعد هدوء نسبي استمر نحو عام – وإقامة معادلة متوازنة بين الولايات المتحدة والميليشيات والفصائل المسلحة العراقية لا سيما تلك الموالية لطهران؛ فمن ناحية لا تستطيع الحكومة العراقية منع هذه الفصائل من مهاجمة المصالح الأمريكية، ودعواتها المتزايدة لاستهداف مصالحها، ومقراتها العسكرية في سوريا والعراق، وكذا سفارتها في بغداد ردًا على استمراراها في دعم إسرائيل في حرب غزة، ومن ناحية أخرى، لا تستطيع منع واشنطن من الرد على تلك الهجمات في إطار ما تُسميه “حقّها في الدفاع عن النفس” وحماية مصالحها في المنطقة.
• معارضة التواجد الأمريكي في الداخل العراقي: لا ينفصل إعلان العراق عن رغبته في إنهاء مهام قوات التحالف الدولي ضد داعش على أراضيه، عن حالة الجدل المُتصاعدة حول الوجود العسكري الأمريكي في البلاد منذ عام 2017، وتنامي مُعارضة هذا الوجود من قبل الأحزاب السياسية والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، ودعواتهم المُتكررة المُطالبة بطرد القوات الأمريكية، لاسيما بعد مقتل قائد الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني”، والقيادي البارز في الحشد الشعبي “أبو مهدي المُهندس” على يد القوات الأمريكية. وقد بلغ هذا الجدل ذروته في الداخل العراقي مع سيطرة الإطار التنسيقي على المشهد العراقي الأمني والسياسي، حيثُ تتجه بوصلة توجهات هذا الإطار – الأقرب إلى إيران – نحو مناهضة الوجود الأمريكي في البلاد.
• نجاح القوات العراقية في تطويق نشاط داعش: تأتي التصريحات المُتكررة لرئيس الوزراء العراقي المُطالبة بإنهاء مهام قوات التحالف الدولي، بعد الانتصارات التي حققها العراق في ملف محاربة تنظيم داعش؛ فبعد أن نجحت القوات الأمنية العراقية بالتعاون مع قوات التحالف في تحرير كافة الأراضي العراقية من قبضة التنظيم عام 2017، استمرت جهود مُلاحقة فلول داعش وخلاياه في عموم البلاد، وتوالت العمليات الأمنية والعسكرية التي نفذتها القوات العراقية ضد أوكار وخلايا التنظيم في العديد من المُحافظات، ما أدى إلى تراجع المنحى العملياتي لنشاط داعش داخل الجغرافيا العراقية بشكل كبير، وفقدان التنظيم لقدراته العسكرية، وقدرته كذلك على كسب عناصر جديدة، وبات العراق من أكثر الدول نجاحًا في مُحاربة الإرهاب خلال عام 2023، وهو ما أكدته تصريحات الكثير من المحللين والمسؤولين العراقيين.
فعلى سبيل المثال، صرّح السوداني لشبكة “سي إن إن” الأمريكية في سبتمبر 2023 بأن “العراق لم يعد بحاجة إلى قوات قتالية من دول التحالف لأن تنظيم داعش لم يعد سوى مجموعات مطاردة في الصحراء ولا يُشكل تهديدًا للبلاد”. وفي السياق ذاته، أكّد مُستشار الأمن القومي العراقي “قاسم الأعرجي” في 21 أغسطس 2023 أن “بلاده انتصرت على تنظيم داعش، لكنها تواصل العمليات في سياق المعارك الاستخباراتية للحفاظ على ما تحقّق من إنجازات أمنية. كما أفاد قائد “الحشد الشعبي” في مناطق جنوب الموصل “إبراهيم المرسومي” في 26 أغسطس 2023 بأن “تنظيم داعش انتهى إلى غير عودة، ولم يعد قادرًا على التنفس والتحرك بسهولة إطلاقًا”.
تداعيات مُحتملة
في ظل الضغوط التي تتعرض لها حكومة “السوداني” لإنهاء مهام قوات التحالف الدولي في العراق تثور مخاوف بشأن التداعيات الأمنية المُحتملة لهذه الخطوة على جهود مكافحة تنظيم داعش. ويُمكن استعراض أبرز هذه التداعيات فيما يلي:
• عودة نشاط داعش: ربما يتسبب أي انسحاب لقوات التحالف من العراق في تنامي خطر نشاط تنظيم داعش؛ إذ قد يدفع هذا الانسحاب – لا سيما إذا تم بشكل مفاجئ وغير مدروس- إلى خلق حالة من الفراغ الأمني، ستستغلها الخلايا النائمة التابعة للتنظيم في تصعيد نشاطها بالداخل العراقي. فعلى الرغم من أن الضربات الأمنية التي نفذتها القوات العراقية بالتعاون مع قوات التحالف خلال العامين الماضيين أسهمت في تطويق نشاط التنظيم بشكل كبير وأفقدته الكثير من موارده المالية والقيادية، إلا أن هذا لا يُعد كافيًا للدفع أو الجزم بانتهاء خطر داعش في العراق؛ إذ لا يزال التنظيم لديه خلايا صغيرة نشطة داخل البلاد، ويُنفذ هجماته ضد قوات الجيش العراقي في العديد من المُدن، كما تُشير تقديرات حديثة لخبراء الأمم المتحدة إلى أن داعش يمتلك ما بين 5 إلى 7 آلاف عنصر بين دولتي العراق وسوريا مُعظمهم من المُقاتلين، وربما عمد التنظيم مؤخرًا إلى خفض عملياته لـ”إعادة تنظيم وتسهيل تجنيد عناصر جديدة في صفوفه”، ومن ثمّ يتسنى له استعادة نشاطه مُجددًا، لاسيَّما أن الخبرات التاريخية أثبتت قدرة داعش الكبيرة على التكيف مع التغيرات الميدانية، ومرونته في التعاطي مع الضربات الأمنية التي تستهدف معاقله ومفارزه المُختلفة.
• فقدان الدعم الأمريكي في الحرب الاستخباراتية ضد داعش: قد يؤدي انسحاب قوات التحالف الدولي من العراق إلى فقدان الجهود الاستخباراتية والمعلومات المُتقدمة التي تُوفرها تلك القوات لدعم عمليات الجيش العراقي ضد تنظيم داعش، لاسيما الضربات الجوية التي ينفذها سلاح الجو ضد معاقل التنظيم بالمناطق الجبلية الوعرة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه بعد الهزيمة المكانية لتنظيم داعش في العراق عام 2017، تحوّل التنظيم إلى خلايا صغيرة متناثرة في نطاقات جغرافية مُختلفة، واتجه إلى تنفيذ عمليات استنزاف ضد القوات العراقية وقوات التحالف في محاولة لإثبات حضوره، واعتمد استراتيجية تقوم على تنفيذ هجمات محدودة على مستوى درجة التعقيد في التكتيك المتبع ومساحة التأثير، وهو ما استدعى تحديث الخُطط والتكتيكات العسكرية والأمنية التي تستخدمها القوات الأمنية المعنية بمحاربة داعش، لتتجه نحو التركيز على شن ضربات استباقية ضد معاقل التنظيم، وإحلال الأنماط الهجومية محل الدفاعية لشل قدرته على شن الهجمات؛ ولذا أعلن العراق في أواخر عام 2021 انتهاء أدوار التحالف الدولي القتالية وتحولها إلى أدوار استشارية تقتصر على دعم القوات الأمنية العراقية في مجالات التدريب والمشورة والتعاون الاستخباري، كما ركزت جهود قوات الأمن العراقية في المقام الأول خلال العامين الماضيين على خوض “معركة معلومات” لكشف ورصد تحركات المجموعات والخلايا الداعشية الصغيرة، تمهيدًا لقصفها، ومن ثمّ تكبيدها خسائر مادية وبشرية تُعيقها عن تنفيذ عمليات تستهدف المدنيين في المناطق الحيوية.
• تأثر جهود مكافحة داعش في سوريا: ربما يؤثر انسحاب قوات التحالف الدولي – بشكل كُلي – من العراق على جهود مُحاربة تنظيم داعش في سوريا؛ حيثُ تُقدم القوات المتمركزة على الأراضي العراقية الدعم اللوجيستي والمعلوماتي لتلك المتمركزة على الأراضي السورية، وتُشكل معين خلفي لها حال تعرضت للخطر، وبالتالي من شأن انقطاع هذا التنسيق بين قوات التحالف عبر القوس “السوري – العراقي” أن يُعرقل من فعالية الجهود المبذولة لاستهداف معاقل وقادة التنظيم المتمركزين على الجغرافيا السورية.
• التعرض لضغوط اقتصادية: تتصل التداعيات الأمنية المترتبة على انسحاب قوات التحالف الدولي من العراق بتداعيات سلبية مُحتملة على الاقتصاد العراقي سيكون لها بطبيعة الحال تأثير على جهود مكافحة الإرهاب؛ إذ إن ضغط العراق المُتكرر باتجاه خروج القوات الأمريكية بشكل إرغامي ودون صيغة مُرضية للطرفين ربما يدفع واشنطن إلى إيقاف المساعدات الأمنية والمالية لبغداد، والتلويح برفض عقوبات اقتصادية واحتجاز المليارات من عائدات النفط العراقي التي تذهب إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، على غرار تهديد إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بفرض عقوبات كبيرة على العراق في أعقاب تصويت البرلمان العراقي عام 2020 على مغادرة القوات الأمريكية. ومن شأن تكرار السيناريو ذاته أن يضع الحكومة العراقية في أزمة اقتصادية كبيرة تُعرقل جهودها لتعزيز وتأهيل قدرات القوات الأمنية المعنية بمحاربة الإرهاب، وجهودها لإعادة إعمار المناطق المُحررة من قبضة داعش، لاسيَّما أن هكذا جهود تحتاج إلى مُخصصات مالية ضخمة.
وبشكل عام، ستتوقف حدة التداعيات المُرتبطة باحتمالية خروج القوات الأمنية من العراق على الآلية التي سيتم بها هذا الخروج، وما إذا كان سيحدث بشكل كُلى أو جزئي، وكذا المدى الزمني لهذا الانسحاب ودرجة استعداد الحكومة العراقية وخُططها للتعاطي مع تبعاته المُحتملة لا سيما فيما يتعلق بمخاطر تنامي نشاط تنظيم داعش. ويُمكن القول إن العراق بات لا يحتاج إلى نفس القدر من الدعم الذي كان يحتاجه في الماضي لدحر خطر داعش من أراضيه، في ضوء مجموعة من العوامل الدافعة لذلك:
• أولها، التطور الحادث والمُلفت في قدرات واستجابة قوات الأمن العراقية خلال العامين الماضيين، سواء على مستوى جهوزية تلك القوات لتنفيذ عمليات نوعية دقيقة استهدفت ولا تزال مراكز ثقل داعش على كامل جغرافيا العراق، أو على مستوى امتلاك أجهزة مُكافحة الإرهاب العراقية لـ “بنك معلومات استخباراتي” قوي يُمكنها من توجيه ضربات استباقية ناجعة ضد أوكار التنظيم، ومُباغتة ومُلاحقة أفراده وخلاياه الصغيرة النائمة.
• ثانيها، اتخاذ الحكومة العراقية خلال العام الفائت مجموعة من الإجراءات التي تُعزز من قدرتها على مجابهة الإرهاب في البلاد، على غرار إعادة هيكلة القوات الأمنية العراقية لرفع كفاءة أداء المُؤسسات الأمنية، والموافقة على إنشاء مشروع قانون مكافحة الإرهاب، بجانب إطلاق الحملات الأمنية بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات لاستهداف أوكار الجماعات الإرهابية في الأراضي العراقية وخاصةً تنظيم داعش، فضلًا عن الاتجاه نحو تسليم وزارة الداخلية العراقية المهمة الأمنية في المناطق التي تحررت من داعش، حتى يتسنى لقوات الجيش التركيز بشكل أكبر على سد الفجوات والثغرات الأمنية سواء بين المدن والمُحافظات أو على المناطق الحدودية مع سوريا.
• ثالثها، اتجاه العراق في الفترات الأخيرة إلى تعزيز التعاون الأمني والاستخباري مع الأجهزة الأمنية في إقليم كردستان، وكذا مع الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا (قسد)، لسد حالة الفراغ الأمني الموجودة على خطوط التماس بين مناطق كردستان والمُحافظات العراقية، وعلى الحدود العراقية السورية، ومنع العناصر الداعشية من استغلالها في التسلل والتخطط لشن هجماتها.
لكن رغم النجاحات التي حققتها القوات العراقية في ملف مُحاربة داعش، تظل بعض المخاطر والتحديات المُرتبطة بنشاط التنظيم قائمة، ويحتاج العراق إلى وضع خطة شاملة لمجابتها أو على الأقل التقليل من تأثيراتها المُحتملة على أمن واستقرار البلاد. في مُقدمتها التهديدات المُستمرة المُرتبطة بالسجون والمُخيمات التي تأوي عشرات الآلاف من عناصر داعش وعوائلهم في مخيمات وسجون شمال شرق سوريا والتي يتمركز بعضها على الحدود مع العراق؛ إذ تتصاعد المخاوف من تمكن التنظيم من اقتحام هذه السجون وتحرير بعض عناصره، وبالتالي استئناف نشاطه مُجددًا على الساحة العراقية، لا سيما أن العراق يحتل أهمية رمزية بالنسبة لداعش كونه مركز للتنظيم، ما يُؤشر على أن خطره سيظل مُستمرًا على أراضيه حتى وإن كانت قدراته العملياتية والمالية عند مستويات مُنخفضة في الوقت الراهن. وربما يتصاعد هذا الخطر خلال المُقبلة في ضوء استمرار البيئة الجيوسياسية المضطربة على خلفية حرب غزة الأخيرة، وتصاعد المؤشرات الدالة على مساعي داعش لتوظيفها والاستثمار فيما خلفته من مشهد أمني إقليمي مُعقد لإثبات حضوره وتأثيره.
هل ستنسحب قوات التحالف الدولي من العراق؟
أثار إعلان الحكومة العراقية عن مساعيها لإنهاء مهام قوات التحالف الدولي ضد داعش في العراق جدلًا كبيرًا حول إمكانية تطبيقه في الوقت الراهن؛ حيثُ تذهب غالبية التكهنات إلى أن هذا الإعلان لا يتجاوز كونه مُحاولة تهدئة للفصائل الشيعية داخل إيران، والتي تضغط على حكومة “السوداني” لطرد القوات الأمريكية من العراق. وفي هذا الصدد يُمكن الدفع ببعض المُعطيات التي لا ترجح من سيناريو وقوع هذا الانسحاب على المديين القصير والمتوسط، ورغم عدم إمكانية الجزم باستبعاد وقوعه على المدى الطويل إلا أنه يُمكن ترجيح أن يكون بمثابة إعادة انتشار أو إعادة تعريف مهمة القوات. وفيما يلي أبرزها:
• ردع الخصوم الإقليميين والدوليين: رغم أن السبب المُعلن لتواجد القوات الأمريكية في العراق هو مساعدة قوات الأمن العراقية على محاربة فلول تنظيم داعش ومنع أي ظهور له مُجددًا، إلا أنه يُمكن القول إن وجود هذه القوات يتجاوز بكثير مسألة مُحاربة الإرهاب ويمتد إلى رغبة الولايات المتحدة في ردع خصومها الإقليميين والدوليين وتأمين مصالحها في منطقة الشرق الأوسط. فبالنسبة لواشنطن يُعد العراق ساحة رئيسية ومُحورية لمواجهة نفوذ طهران وتقليص خطوط التعاون الإقليمي بين ميليشياتها في المنطقة، وأحد النقاط المُهمة كذلك في منافستها الجيوستراتيجية مع الصين وروسيا. وفي ضوء ذلك جاء نفي وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) لوجود أي خطط لسحب قواتها من العراق؛ ففي أعقاب إعلان الحكومة العراقية عن تشكيل لجنة ثنائية لترتيب إنهاء مهام قوات التحالف الدولي، قال المتحدث باسم الوزارة “باتريك رايدر” إن بغداد لم تُبلغ واشنطن بمثل هذا القرار، وإن الأخيرة لا تزال تُركز بشدة على مُهمة هزيمة داعش، وقواتها موجودة في العراق بدعوة من حكومته”.
• إعادة الانتباه لمحورية الشرق الأوسط: أظهر التصعيد الإقليمي الأخير في منطقة الشرق الأوسط والمرتبط بالحرب الدائرة في قطع غزة، وما سبقه من استجابة شرق أوسطية، وبالأخص خليجية، لتداعيات الحرب الأوكرانية لم تتفق مع الرغبات الأمريكية والأوروبية، خطأ الحسابات الاستراتيجية الأمريكية المتعلقة بانخفاض أهمية المنطقة على أجندة أولويات السياسة الأمريكية لصالح الانعطاف شرقًا من أجل احتواء التهديدات الصينية والروسية الناشئة، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى الانتباه مجددًا لمحورية الشرق الأوسط بالنسبة لمصالحها الاستراتيجية وبالتالي تعزيز حضورها الإقليمي، لا سيما مع تصاعد المخاطر المرتبطة بتعرض قواتها ومصالحها في المنطقة لاستهدافات مُتكررة من قبل الميلشيات المسلحة الموالية لإيران.
• عدم وجود توافق وطني عراقي داخلي على الانسحاب الأمريكي: لا يحظى إعلان الحكومة العراقية حول إنهاء مهام قوات التحالف الدولي بقبول كافة المكونات والقوى السياسية المؤثرة والفاعلة في المشهد العراقي، حيثُ ترفض القوى السنية والكردية هذا الانسحاب وتطالب ببقاء القوات الأمريكية، وهو ما يتبدى جليًا في استقبال رئيس حكومة إقليم كردستان العراق “مسرور بارزاني” في 9 يناير الجاري للقائد العام لقوات التحالف الدولي في العراق وسوريا الجنرال “جويل فاول”، حيثُ ركز الاجتماع على أهمية حماية الأمن والاستقرار في العراق والإقليم، وشدد على ضرورة مواصلة مهام قوات التحالف الدولي من أجل مُساعدة الجيش العراقي وقوات البيشمركة في مُكافحة الإرهاب. وفي هذا السياق، تُشير بعض التقديرات إلى احتمالية قيام الولايات المتحدة بنقل قواتها وقواعدها العسكرية إلى إقليم كردستان في حال اضطرت إلى الانسحاب من الداخل العراقي.
ختامًا، تأتي مطالب الحكومة العراقية بانسحاب قوات التحالف الدولي ضد داعش من العراق مدفوعة بجملة من العوامل، بعضها يرتبط بتصاعد الاشتباكات العسكرية بين القوات الأمريكية في المنطقة والميليشيات والفصائل المُسلحة الموالية لإيران على خلفية الحرب في غزة، والبعض الآخر يرتبط بتنامي مُعارضة الوجود الأمريكي في الداخل العراقي من قبل الأحزاب السياسية والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، ونجاح القوات الأمنية العراقية بالتعاون مع قوات التحالف في تطويق نشاط تنظيم داعش على الجغرافيا العراقية وتحرير كافة الأراضي من قبضته. إلا أن مسألة الانسحاب في الوقت الراهن لن تكون من السهولة بما كان، كونها تخضع لحسابات مُعقدة ترتبط بالمصالح الجيوستراتيجية لواشنطن وحلفاؤها في الشرق الأوسط، والتي تتجاوز مهام محاربة الإرهاب.