أعلن الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بالأراضي الليبية السنغالي عبد الله باتيلي في 16 أبريل الماضي، بشكل مفاجئ عن استقالته من منصبه، محيلًا أسباب تعثر جهود البعثة الأممية التي قادها لمدة 18 شهرًا إلى “غياب إرادة سياسية وحسن النية لدى القادة الليبيين من أجل حل الأزمة الراهنة” وفق ما ذكر، ولحق “باتيلي” بهذه الاستقالة، بثمانية مبعوثين أممين سابقين تم إرسالهم إلى ليبيا منذ سقوط نظام الرئيس الأسبق معمر القذافي في 2011، وبالنظر إلى كثرة المبعوثين الأممين الذي تم إرسالهم إلى ليبيا في السنوات الأخيرة، وفي المقابل عدم فاعلية جهودهم وغياب مخرجات عملية على المستوى السياسي، يتصاعد تساؤل مهم حول الأسباب والسياقات التي تدفع باتجاه تعثر وفشل جهود البعثات الأممية المتتالية إلى ليبيا، وهي الحالة التي ينتج عنها استمرار الحالة الصراعية في ليبيا، وعدم القدرة على خلق مسارات تفضي إلى حل الأزمة السياسية المستعصية منذ سنوات في ليبيا.
عوامل وسياقات تعثر عمل البعثات الأممية
جاءت استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي في أبريل الماضي، كتعبير عن حالة الجمود والانسداد السياسي التي تشهدها البلاد، مع عدم قدرة مبادرة “باتيلي” التي طرحها في نوفمبر 2023، وكذا جهوده الأخرى على كافة المستويات، على خلق مسار جديد يمكن معه تجاوز هذه الحالة، ويمكن القول إن هذه الاستقالة جاءت كنتاج لمجموعة من السياقات والأسباب التي يغلب عليها الجمود والتعقيد وتضارب المصالح، بما يفضي إلى إعادة تدوير الأزمة، وفي هذا السياق يمكن تناول الإشكالات التي تواجه عمل البعثات الأممية في ليبيا، وآخرها حالة “باتيلي”، وذلك على النحو التالي:
1- إشكالية ازدواجية السلطة في ليبيا: أحد الإشكالات الرئيسية التي تواجه عمل البعثات الأممية في ليبيا، ترتبط بما يمكن تسميته بأزمة “ازدواجية السلطة”، وهي الأزمة الممتدة منذ سنوات، وتفرض هذه الحالة، تداعيات شديدة السلبية على المسار السياسي الليبي، أولها: أن ترسخ لأمر واقع يغلب عليه الحالة الصراعية، وثانيها: غلبة صراع المصالح والنفوذ بين المكونات السياسية المختلفة على وقع هذه الحالة، وثالثها: عدم القدرة على إقرار العديد من المسارات في ضوء هذه الحالة، خصوصًا ما يتعلق بإقرار ميزانية موحدة للبلاد فضلًا عن المسائل الاستراتيجية كتوحيد المؤسسة الأمنية وإجراء الانتخابات، ورابعها: حيلولة هذه الحالة دون وجود اتفاقات تفصيلية وليس من حيث المبدأ حول بعض الأولويات المهمة كملف الانتخابات، وخامسها: الاضطرابات الأمنية المتجددة التي تنشأ على وقع استمرار أزمة ازدواجية السلطة، وسادسها: الأزمات المرتبطة بالتنافس على السيطرة على المناصب السيادية.
وفي هذا السياق يمكن القول إننا حاليًا أمام 6 أجسام رئيسية فاعلة في المشهد الليبي وهي: مجلس النواب الليبي بقيادة عقيلة صالح، والمجلس الأعلى للدولة بقيادة محمد تكاله، والمجلس الرئاسي الليبي بقيادة محمد المنفي، والجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، وحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية بقيادة عبد الحميد الدبيبة والتي تتخذ من طرابلس مقرًا لها، وحكومة «الاستقرار» المدعومة من مجلس النواب، والتي يرأسها أسامة حماد، وتتخذ من شرق ليبيا مقرًا لها.
2- تأزم علاقة البعثة الأممية ببعض الأطراف: أحد الاعتبارات الرئيسية التي يمكن في ضوئها فهم حالة التعثر التي تطغى على عمل البعثات الأممية في ليبيا، تتمثل في الإشكالات التي تطغى على علاقة البعثة الأممية ببعض الأطراف الفاعلة في الملف الليبي، وإذا أخذنا حالة “تكالة” نموذجًا، سوف نجد أن هناك خلافات كبيرة كانت موجودة بين “تكالة” من جانب وبين مجلس النواب الليبي وحكومة “الاستقرار” من جانب آخر، إلى الحد الذي جعل حكومة أسامة حماد تتهمه بعدم الحياد، ومطالبتها الأمين العام للأمم المتحدة بإرسال مبعوث أممي جديد، فضلًا عن اتهام مجلس النواب الليبي لـ “تكالة” بتجاوز صلاحياته.
وبالنسبة لحكومة “الدبيبة” منتهية الولاية فعلى الرغم من إعلانها في أكثر من مناسبة عن انفتاحها على دعوة الحوار التي أطلقها المبعوث الأممي، إلا أن تصريحات “الدبيبة” ومسئولي حكومته، خصوصًا ما يتعلق بالتحفظ على نص مبادرة “باتيلي” على ضرورة إجراء الانتخابات في ضوء القاعدة الدستورية والقانونية الموجودة التي أقرها مجلس النواب، والدعوة في المقابل إلى “الوصول إلى أساس قانوني دستوري لانطلاق العملية الانتخابية ونجاحها”، تكشف أن معسكر “الدبيبة” يفترض أن الأساس القانوني والدستوري القائم، والمحصَّن بقرار مجلس الأمن، غير موجود، وهذا يتعارض صراحةً مع ما حرص باتيلي على التشديد عليه في مبادرته، وأن النقاشات ستجري تحت سقف الاعتراف بالقانونين الصادرين عن مجلس النواب، من دون منح المجتمعين صلاحية تفوق القوة الإلزامية لهذين القانونين.
3- عدم وجود معالجات شاملة للأزمة الليبية: بالنظر إلى طبيعة عمل البعثات الأممية المتالية إلى ليبيا منذ 2011، سوف نجد أن مقاربة هذه البعثات قامت على فكرة “تجزئة الملفات” بعيدًا عن تبني مقاربة شاملة تجمع بين الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية، وقد كان نتاج هذه المقاربة هو الفشل الكبير في تحقيق أي إنجازات عملية ملموسة، سواءً على مستوى الدفع باتجاه تشكيل حكومة موحدة، أو على مستوى توحيد المؤسسات الأمنية الليبية وحل معضلة المليشيات، أو على مستوى الفشل في إنجاز ملف المصالحة الوطنية، فضلًا عن عدم القدرة على بناء أي مسارات للتعامل مع الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد.
4- استمرار معضلة النشاط المليشياوي: ليس من قبيل المبالغة القول إن أكبر الأزمات الأمنية ذات التداعيات السياسية السلبية التي تواجه ليبيا، تتمثل في استمرار معضلة المليشيات ونشاطها المزعزع للاستقرار، خصوصًا في مناطق الغرب الليبي، وترتبط خطورة هذه الإشكالية بمجموعة من الاعتبارات، أولها: غلبة الطابع التنافسي بين هذه المجموعات المسلحة المنتشرة في ليبيا، وثانيها: تبني بعض الأطراف الليبية إجراءات متنامية لمحاولة شرعنة أنشطة هذه المليشيات، وثالثها: عدم القدرة على السيطرة على أنشطة وتحركات هذه المليشيات.
وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى أن استمرار الأنشطة المليشياوية في ليبيا، يفرض صعوبات متنامية على عمل البعثات الأممية في البلاد، وذلك على أكثر من مستوى، أولها: أن المليشيات تفرض المزيد من التحديات الأمنية بالنسبة للوضع الداخلي الليبي، وثانيها: أن هذه المليشيات تمثل عقبة أمام إنجاز بعض المهام الاستراتيجية وعلى رأسها توحيد المؤسسات الأمنية الليبية، وثالثها: أن هذه المليشيات باتت وبحكم الأمر الواقع أحد الفاعلين الرئيسيين في المشهد الليبي، بما يفرض أولوية التعامل مع هذا الملف بالتزامن مع الأولويات الأخرى الخاصة بالاستحقاق الانتخابي وتوحيد المؤسسات الأمنية.
5- عدم امتلاك البعثات الأممية لسلطات قوية: يمكن القول إن مهام المبعوث الأممي تتركز على كونه ميسرًا أو وسيطًا بين أطراف الأزمة، وهذا يعني عمليًا عدة أمور مهمة تنعكس على فاعلية أدواره، أولها: عدم امتلاكه أي أدوات ضغط فاعلة على الأطراف المنخرطة في الأزمة، وثانيها: عدم قدرته على تقديم أي ضمانات للتعاطي مع انقلاب أي أطراف على التفاهمات القائمة أو التي تم إقرارها، وثالثها: عدم امتلاكه صلاحيات خاصة بطرح ترتيبات تفصيلية جديدة في ضوء دوره الذي لا يتجاوز حدود الميسر، وهي اعتبارات تدفع باتجاه عدم الفاعلية.
6- إشكالية تهميش بعض الفاعلين: أحد الإشكالات الرئيسية التي تواجه بعثات الأمم المتحدة في ليبيا تتمثل في التهميش الذي يتم لبعض الفاعلين في المشهد، فعلى سبيل المثال كانت المبادرة المطروحة من “باتيلي” تواجه إشكالًا رئيسيًا يتمثل في ما تعتبره بعض الدوائر تهميشًا لبعض الأطراف المهمة في المشهد الليبي، وهو ما يتجسد بشكل واضح في حكومة أسامة حماد في شرق ليبيا، والتي يُنظر إليها على أنها طرف سياسي شرعي ومنبثق عن مجلس النواب الليبي، كما أن المبادرة لم تشهد تمثيلًا لإقليم الجنوب وخصوصًا منطقة فزان، بالإضافة لبعض الفئات النوعية من الأمازيغ والطوارق والتبو، جنبًا إلى جنب مع فريق سيف الإسلام القذافي، وهو إشكال يدفع العديد من الدوائر الليبية إلى التحفظ على هذه المبادرة أو رفضها من الأساس.
7- الحسابات الخاصة بالقوى الدولية المنخرطة في الأزمة: يتسم الملف الليبي بشكل عام منذ سنوات بكثرة التدخلات الخارجية فيه، جنبًا إلى جنب مع وجود أجندات ورؤى مختلفة لكافة هذه القوى المنخرطة في هذا الملف، وتفرض هذه الإشكالية مجموعة من التحديات، أولها: أن المبعوث الأممي يكون مقيدًا في ثنايا ممارسته لمهامه بسبب حسابات بعض الأطراف الدولية، وثانيها: عدم قدرة المبعوث الأممي عمليًا على تجاوز حسابات بعض الأطراف الفاعلة، وثالثها: امتلاك بعض هذه الأطراف الدولية لحق “الفيتو” داخل مجلس الأمن، وهي اعتبارات خارجية تفرض المزيد من التحديات والتعقيدات على عمل البعثة الأممية في ليبيا.
وختامًا يمكن القول إن استقالة “باتيلي” -ليكون بذلك المبعوث الأممي التاسع الذي يتقدم باستقالته- أكدت على افتراض مهم يتمثل في وجود إشكالات مركبة ومعقدة تواجه عمل البعثات الأممية المتتالية في ليبيا، كما أنها عبرت عن حجم الأزمة السياسية والجمود الذي تشهده البلاد، وعدم قدرة مبادرة “باتيلي” على حلحلة هذه الحالة أو التعامل معها، وعمليًا تقود الأمريكية ستيفاني خوري، التي تم تعيينها في مارس الماضي، حاليًا أعمال المبعوث الأممي بالإنابة، وفي ضوء محدودية البدائل المطروحة أمامها، ويبدو أن “خوري” قد تتجه إلى أحد سيناريوهين، الأول: هو إحياء مبادرة “باتيلي” للحوار بين أطراف الأزمة، والثاني: هو البدء من نقطة الصفر وتقديم مبادرة ورؤية بديلة.
باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية