بدأت تركيا في السنوات الأخيرة اتباع سياسة خارجية أكثر ديناميكية حيال القرن الأفريقي؛ إذ تبذل تركيا جهودًا لحل النزاعات القائمة بالطرق السلمية من خلال تعزيز التعاون والحوار على أسس متينة، وهو ما اتضح جليًا في دبلوماسية الوساطة التي تقوم بها تركيا، وذلك لاحتواء التوترات التي نشبت مطلع العام الجاري بين إثيوبيا والصومال، وذلك على خلفية قيام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بانتهاك السيادة الإقليمية للصومال، بتوقيعه اتفاقاً مع رئيس أرض الصومال موسى بيهي عبدي، وهي منطقة تتمتع بالحكم الذاتي داخل الصومال منذ عام 1991، ولا يحظى استقلالها عن مقديشو بالاعتراف الدولي. وستمنح الصفقة إثيوبيا -وهي دولة غير ساحلية- إمكانية الوصول التجاري والعسكري المباشر إلى البحر الأحمر.
وتُحاول هذه الورقة الإجابة عن هذه التساؤلات بشأن “لماذا وافق طرفا النزاع على قبول الوساطة التركية؟، ما المقاربة التي تتبناها تركيا لتهدئة التوتر بين الصومال وإثيوبيا؟، مدى فاعلية الجهود التي تبذلها تركيا، وهل ستنجح تركيا في إقناع إثيوبيا من خلال دبلوماسية الوساطة في التراجع عن الاتفاقية مع أرض الصومال؟”.
لماذا وافق طرفا النزاع على قبول الوساطة التركية؟
هناك مجموعة من العوامل الحافزة التي دفعت تركيا لاضطلاع بدور الوساطة وتقريب وجهات النظر بين البلدين، حيث تتمتع تركيا بعلاقات ممتازة مع كل من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الصومالي حسن شيح محمود، ولهذا السبب، ولذا تُعد تركيا وسيطًا موثوقًا به ومقبولًا لدى الطرفين، ويمكن توضيح مظاهر ذلك على النحو التالي:
- بالنسبة للصومال: في البداية، نجد أن الصومال استبعدت الوساطة مع إثيوبيا ما لم تلغِ أديس أبابا الاتفاق الذى أبرمته مطلع العام الجاري مع إقليم أرض الصومال الانفصالي، ولكن هذا الموقف قد تغير بدليل قبولها للوساطة التركية، حيث هناك تشابك كبير في المصالح بين تركيا والصومال، وهو ما تبلور منذ زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للصومال عام 2011، فمنذ تلك الزيارة، أولت تركيا اهتمامًا بالصومال من خلال تقديم المساعدات التنموية، ودعم مشاريع البنية التحتية، وتطور التعاون الثنائي بين البلدين، بافتتاح تركيا أكبر قاعدة عسكرية لها في عاصمة الصومال مقديشو عام 2017. كما نجد أن تركيا قد ساندت الصومال في أزمتها الأخيرة عندما أبرمت إثيوبيا وأرض الصومال اتفاقًا يمنح إثيوبيا حق الوصول البحري والتجاري إلى سواحل أرض الصومال، وهو ما ينتهك وحدة وسلامة الأراضي الصومالية؛ إذ أبرمت تركيا اتفاق دفاع مع الصومال في فبراير 2024، ويهدف هذا الاتفاق لإنشاء قوة مشتركة من البلدين لحماية سواحل الصومال ومياهها الإقليمية والاستثمار في الموارد البحرية الصومالية لمدة 10 سنوات. ستكون هذه القوة المشتركة نشطة لمدة 10 سنوات فقط. وبعد ذلك، سيكون للصومال قوته البحرية الخاصة لأداء هذه المهمة. نجد أن الاتفاق العسكري بين الصومال وتركيا، قد يعيق خطط إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر.
- بالنسبة لإثيوبيا: طلبت إثيوبيا من تركيا في مايو 2024 القيام بدور الوسيط بين مقديشو وأديس أبابا، وذلك في ضوء الخبرة الدبلوماسية التي تتمتع بها تركيا والتزامها ببناء السلام. كما نجد أن إثيوبيا ترى في تركيا وسيط مقبول، حيث حرصت تركيا على دعم ومساندة حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي آبى أحمد إبّان حرب التيجراي؛ إذ وقعت تركيا اتفاق تعاون عسكري مع إثيوبيا، بموجبه قد تم بيع معدات عسكرية، وهو ما ساعد على وقف تقدم مقاتلي التيجراي. كما نجد أن تركيا من أكبر المستثمرين في إثيوبيا، حيث تستثمر الشركات التركية مليارات الدولارات في إثيوبيا.
ما المقاربة التركية لحل الأزمة بين الصومال وإثيوبيا؟
تتركز السياسة التركية حيال القرن الأفريقي على بناء شراكات مع دول المنطقة، مع تجنب الانخراط السلبي في النزاعات فيما بينها، وإن جهودها لحل الأزمات تقوم على تحقيق الاستقرار ودعم السلام، دون الانحياز إلى أي طرف، ورغم الشراكة الاستراتيجية التي تجمع تركيا بالصومال، فإن أنقرة تُولي اهتمامًا بالغًا للحفاظ على علاقتها مع إثيوبيا وتطويرها في مختلف المجالات، ولذا تسعى أنقرة لاستثمار علاقاتها الجيدة مع كلٍ من مقديشو وأديس أبابا للعب دور الوسيط؛ إذ تبذل تركيا جهودًا حثيثة لتهيئة بيئة ملائمة لعقد محادثات لحلحلة التوتر بين الصومال وإثيوبيا، من خلال عقد سلسلة من جولات التفاوض، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
- الجولة الأولى: تمحورت مظاهر الوساطة التركية في الجولة الأولى بين الصومال وإثيوبيا في استضافة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مطلع شهر يوليو 2014، نظيريه الإثيوبي والصومالي في أنقرة، وقد أسفر هذا الاجتماع عن توقيع الوزراء الثلاثة على بيان مشترك بعد إجراء محادثات صريحة وودية فيما يتعلق بحل الخلافات بين البلدين. وبحسب بيان الخارجية التركية فإن وزيرا الصومال وإثيوبيا جددا التزامهما بالحل السلمي للخلافات. كما نجد أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قام بزيارة إلى الجانب الأثيوبي مطلع شهر أغسطس 2024 لإجراء مناقشات مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ووزير الخارجية الإثيوبي تايي أتسكي سيلاسي، لمناقشة العلاقات الثنائية ودفع عملية المصالحة بين إثيوبيا والصومال للأمام.
- الجولة الثانية: قبيل انعقاد هذه الجولة، حرصت القيادة التركية على إجراء اتصالات هاتفية مع قادة الصومال وإثيوبيا، فقد أجرى الرئيس التركي 10 أغسطس 2024 اتصالًا هاتفيًا مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبى أحمد، وتم التأكيد أن الخطوات التي ستتخذها إثيوبيا لإزالة مخاوف الصومال بشأن وحدتها وسيادتها وسلامة أراضيها من شأنها أن تسهل عملية المصالحة. بالإضافة إلى ذلك، فقد ناقش الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العلاقات الثنائية والتوترات الإقليمية والتطورات العالمية في مكالمة هاتفية التي تم إجراؤها 11 أغسطس 2024، مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، حيث أكد الرئيس أردوغان على أهمية التعاون بين البلدين. وفي ضوء التواصل بين الأطراف المعنية، قد انطلقت الجولة الثانية في 13 أغسطس 2024، وركزت هذه الجولة على تحقيق مجموعة من الأهداف، والتي تتمحور حول سد الفجوات ومعالجة المخاوف، فقد حاولت تركيا معالجة المخاوف القائمة وحل القضايا بطريقة تعود بالنفع، ليس فقط على الصومال وإثيوبيا بل على المنطقة بأكملها، وكذلك إيجاد حل مقبول للطرفين حيث تسهم الاجتماعات في استكشاف صيغ محددة يمكن أن تشكل إطارًا لحل الخلافات وتوحيد الأطراف حول حل مقبول للطرفين، كما تم الاتفاق خلال هذه الجولة على استمرار عملية التفاوض، والاجتماع مرة أخرى 17 سبتمبر المقبل لجولة ثالثة، على أمل اختتام هذه العملية بنجاح.
تقييم الوساطة التركية
يُحاول هذا الجزء الإجابة عن التساؤل المتعلق بمدى إمكانية نجاح تركيا في إقناع إثيوبيا من خلال دبلوماسية الوساطة في التراجع عن الاتفاقية مع أرض الصومال؟، وهو ما يتطلب استكشاف فرص نجاح الوساطة التركية لحلحلة الأزمة بين الصومال وإثيوبيا، وهو ما يُمكن استعراضه، وذلك على النحو التالي:
- سيناريو نجاح المفاوضات: يمكن القول إن الوساطة التركية يمكن أن تنجح، إذا توصل الطرفان إثيوبيا والصومال إلى أرضية مشتركة، بحيث يتم إزالة المخاوف لدى الصومال بعدم اعتراف إثيوبيا باستقلال أرض الصومال. كما نجد أن الصومال لا يمانع وصول إثيوبيا إلى منفذ بحري، ولكن الصومال يعترض على وصول إثيوبيا إلى البحر عبر أراضي الإقليم الانفصالي لأرض الصومال. وفي حال نجاح المفاوضات، فهذا سيزيد من نفوذ تركيا في القرن الأفريقي، وهو ما ينعكس على زيادة الحضور التركي في المنطقة بمظاهره المختلفة، سواء فيما يتعلق بالحضور الدبلوماسي، والحضور الاقتصادي والذي يتمثل في القيام بمشاريع استثمارية وتجارية، وكذلك الحضور العسكري للمساعدة في تقليل التهديدات الأمنية والتي تتمثل في الإرهاب.
- سيناريو فشل المفاوضات: تفشل المفاوضات إذا تمسكت إثيوبيا بالمقاربة التي تستند إلى أن من حق إثيوبيا إبرام اتفاق مع أرض الصومال، وذلك على اعتبار أن أرض الصومال لها الحق في عقد شراكات مع الدول الخارجية، إلى جانب المكاسب التى ستجنيها إثيوبيا من وراء هذا الاتفاق؛ إذ ستمنح الصفقة إثيوبيا -وهي دولة غير ساحلية- إمكانية الوصول التجاري والعسكري المباشر إلى البحر الأحمر. وبموجب الاتفاق، وافقت أرض الصومال على استئجار ميناء عسكري في خليج عدن و20 كم من ساحل أرض الصومال إلى إثيوبيا لمدة 50 عامًا. واتصالًا بما سبق ذكره، نجد أن الوساطة التركية قد أثارت اعتراضًا من جانب أرض الصومال، وهو ما اتضح جليًا في تصريح موسى بيحي عبدي رئيس أرض الصومال الذي أدان الاقتراح الذي تقدم به وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بأن يتم منح إثيوبيا حق الوصول إلى البحر من خلال صفقة مع الصومال، مؤكدًا أن مثل هذا السيناريو غير محتمل مثل “شروق الشمس من الغرب”، كما رفض الرئيس بيحي فكرة أن الصومال يمكن أن يمثل أرض الصومال في الشئون الدولية أو تتفاوض نيابة عنها. وتتمحور رؤية أرض الصومال بأنه من أجل تامين إثيوبيا الوصول إلى البحر، فيجب على إثيوبيا التعامل بشكل مباشر مع أرض الصومال على أساس مبدأ المساواة بين الدول. وأكد أن موقف أرض الصومال، كما هو موضح في مذكرة التفاهم التي وقعتها مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في يناير 2024، هو أن إثيوبيا تعترف بأرض الصومال كدولة ذات سيادة في مقابل ممر بحري بطول 20 كيلومترًا.
اتصالًا بما سبق ذكره، نجد أن إثيوبيا قد رأت قيام الصومال بتوقيع بروتوكول تعاون عسكري مع مصر في 14 أغسطس 2024، وكذلك طلب مصر المشاركة في بعثة الاتحاد الأفريقي الجديدة في الصومال، سلوكًا استفزازيًا على خلفية التوتر بين البلدين بسبب سد النهضة. علاوة على ذلك، ترى إثيوبيا أن التحالف بين مصر والصومال موجه ضدها، ولذا ربما سيؤدي ذلك إلى تعنت إثيوبيا وتمكسها بالاتفاق الذي تم إبرامه مع أرض الصومال مطلع العام الجاري، وهو ما سيؤدي إلى إخفاق الوساطة التركية.
وفى الختام، يمكن القول إن هناك تحديات تواجه الوساطة التركية، حيث لم تتمكن الجولات الدبلوماسية التي قامت بها تركيا من حلحلة التوتر بين الصومال وإثيوبيا، ويبدو أن إثيوبيا ترتكز على استراتيجية “استنزاف الوقت”، بمعنى الإعلان عن الانخراط في مفاوضات لحل الأزمة، ولكن على أرض الواقع تمضي في تحقيق مصالحها على حساب الدول المجاورة. والدليل على ذلك أن إثيوبيا قد انخرطت في مفاوضات سد النهضة لأكثر من عقد من الزمان، ولكن نجد أن سلوكها قد اتسم بالتعنت، حيث لم تأخذ في الاعتبار مصالح دولتي المصب (مصر والسودان)، ولم يتم التوصل لاتفاق قانوني مُلزم بشأن ملء وتشغيل السد.