غالبية معتبرة فى أنحاء العالم المختلفة، ومنهم فى منطقتنا فى دوائر صنع القرار والمراقبين، ينحازون إلى تفسير سلوك الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بحسب سياساته المطروحة فى شمال العالم وجنوبه، أنها لا تنم عن رؤية متكاملة لقضايا بعينها، ولم تقف بعد عند حدود الخطة المتكاملة أيا كانت فحواها. إنما بدا التفسير الغالب اعتبارها سياسة «الضغط الأقصى» الذى يقوم به الرئيس من أجل الحصول على صفقة أكثر ملاءمة. فى تشبيه لافت جاء فى افتتاحية صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية، اعتبرت أن إستراتيجية ترامب مستوحاة من الملاكم «مايك تايسون» الذى يرى أن كل شخص بالتأكيد لديه خطة قبل أن يتلقى لكمة فى الأسنان، لهذا تتوقع الصحيفة أن يدخل الرئيس الجديد فى معالجته لأى من الملفات، بإحداث حالة من الصدمة أولا لتفتح أبواب التفاوض لاحقا، على أرضية التسليم بحصول الولايات المتحدة على أكبر قدر من العوائد، من وجهة نظره شخصيا، ليس بالضرورة أن يكون ذلك واقعيا أو منصفا بأى درجة.
هناك من الأمثلة التى جرت أخيرا ما يؤكد هذا التفسير، فما أصاب الكثيرين من دهشة عقب حديث الرئيس عن كندا والمكسيك، سرعان ما تم الوصول إلى تسويات متبادلة بينه وكل منهما. فقد تم الاتفاق على تأجيل فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على الواردات من هذين البلدين، على أن تقوم المكسيك بالتعزيز الفورى لحدودها الشمالية بقوة عسكرية، قوامها (10 آلاف جندى) مهمتهم الأساسية منع الهجرة غير الشرعية والتسلل ووقف تهريب المخدرات، فى المقابل تتعهد الولايات المتحدة بالعمل على وقف تهريب الأسلحة الأوتوماتيكية إلى المكسيك. كذلك توصلت كندا إلى اتفاق أعلن بموجبه رئيس الوزراء جاستن ترودو، التزام كندا بتعزيز أمن الحدود،والقيام بجهد منظم فى مكافحة تهريب «الفنتانيل» المخدر إلى الولايات المتحدة. تقرر أن يكون تعليق الرسوم الجمركية لمدة 30 يوما على الأقل، فيما تبدأ مجموعات العمل المشتركة بتنسيق الجهود ومتابعة جديتها، قبل النظر فى استمرارية حجب الرسوم التى يرى الرئيس ترامب أنها الوسيلة الفعالة، التى ستدفع كندا والمكسيك لمعالجة هذه الإشكاليات الحدودية، لذلك أصر بشكل صارم على أن تظل هذه الاتفاقات تحت مسمى التسويات «المؤقتة».
هذه نماذج جرت خلال أسابيع قليلة، وفى تسارع مثير، فضلا عن أمثلة مشابهة مع الدنمارك وبنما، وجاءت النتائج على نفس السياق تقريبا. لكن هناك ما يجرى بالداخل الأمريكى وتصفه المؤسسات الكبرى التقليدية، بأنه يحمل من الصدمات والرعب الحقيقى ما يفوق كل تداخلات الإدارة الجديدة مع دول العالم المختلفة. وفى هذا إشارة محددة للكيان غير الرسمى الذى يرأسه «إيلون ماسك» ويسمى بـ«إدارة فاعلية الحكومة»، ماسك قدم دعما ماليا هائلا لحملة دونالد ترامب الانتخابية تجاوز 250 مليون دولار، وهذا الدعم لم يكن مجرد استثمار سياسى كما هو المعتاد فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، بل جاء مع مطالب واضحة واتفاق بتمكين ماسك وفريق عمله من أدوار مؤثرة فى صنع القرار الفيدرالى، فى خطوة باتت تهدد بتغيير موازين القوة داخل المؤسسات الحكومية. منذ الإعلان عن دوره الجديد، بدأ ماسك بإعادة هيكلة واسعة داخل الإدارة الأمريكية، شملت تغييرات جذرية فى مواقع المسئولية العليا. فقد تم تسريح أو نقل عدد كبير من كبار الموظفين الذين لم يبدوا حماسة لمشروعاته، كما صدرت تعليمات جديدة لموظفى الحكومة، تحثهم على التعاون الكامل مع فريق ماسك أو مواجهة العواقب، فى إشارة واضحة إلى أن التغييرات لن تكون سطحية، بل ستصل إلى جوهر طريقة إدارة الدولة.
بين الخطوات الأكثر إثارة للجدل؛السماح لإيلون ماسك ببسط سيطرته على البنية التحتية التكنولوجية للحكومة الفيدرالية. فقد ضغط فريقه للوصول إلى بيانات الأنظمة الحكومية بحجة تحسين الأداء الأمنى والتشغيلى، خبراء الأمن السيبرانى فى أجهزة الاستخبارات الأمريكية اعتبروا هذه الخطوة تهديدا مباشرا للسيادة الرقمية للدولة. أدى هذا التحالف الجديد إلى موجة غير مسبوقة من الاضطرابات داخل الإدارة الفيدرالية، حيث استقال عدد كبير من المسئولين احتجاجا على التدخل المتزايد لرجل الأعمال فى عملية صنع القرار الحكومي. فقد اعتبر كبار الموظفين الذين غادروا مناصبهم؛ أن الأمر ليس مجرد تغييرات إدارية، بل إعادة تشكيل جذرية للدولة الأمريكية وفقا لرؤية ملياردير تكنولوجى، وليس وفقا لمصالح الشعب الأمريكى. ويثير هذا النفوذ غير المسبوق لماسك تساؤلات جوهرية، حول مستقبل الحكم فى الولايات المتحدة، وما إذا كانت البلاد تتجه نحو نموذج جديد كليا.
بتطبيق نموذج ما يجرى هناك على أزمة المنطقة الكبرى «القضية الفلسطينية»، نجد أن الأمر سيتجاوز سريعا مسألة قبول مصر والأردن لسكان قطاع غزة بشكل مؤقت، فهناك نوع من «الضغوط القصوى» تمارس الآن على الدولتين، لكن بالتفتيش فى «عقيدة ترامب» يتكشف بسهولة أن مخططه سيذهب أبعد من ذلك، وستبدو حينها أفكاره الخاصة بالتطوير العقارى فى غزة مجرد خطوة أولى، كى يمضى قدما لتحقيق «صفقة القرن» التى لم يتخل عنها منذ ولايته الأولى. تداخل «جاريد كوشنير» أخيرا على نحو مفاجئ والحديث عن أبراج «ساحل غزة» الرائعة المنتظرة، ليس عبثيا فهو عراب الصفقة السابقة التى دار بها على عواصم المنطقة الرئيسية. الثابت أن حرب غزة الأخيرة وما مضى من سنوات لهذا الفريق خارج الحكم، جعلهم يطورون الصفقة بمن يلزمها من تحسينات تتجاوب مع متغيرات الوضع الراهن، الأخطر فى هذا أن الرئيس الأمريكى يخفى صورة الصفقة النهائية عن الجميع، بمن فيهم الإسرائيليون بالمناسبة.
الصفقة المحدثة ترى أن الحل المستدام يجب أن ينصب على مفهوم «الوطن البديل» للفلسطينيين بالضفة وغزة، وهو الأردن بشكل أساسى وعلى مصر أن تساعد فى جزء منه باستضافة وإدماج نصيبها من سكان قطاع غزة. لذلك تتحرك الدولتان بكل قوة من أجل اجهاض الخطوة الأولى، المنتظر أن تتبعها خطوات أخرى معقدة ومركبة لها علاقة بأدوار عربية وأوروبية، داخل صفحات الصفقة التى ستشمل ضمن ما تشمله إزاحة الحكومة الإسرائيلية الحالية، التى ينصب لها بهدوء ما يسمى بـ«فخ العسل» ليأتى شركاء آخرون، يكونون جاهزين للعب الأدوار وقبول ما سيجرى إرساؤه على الأرض الموعودة!.
نقلا عن جريدة الأهرام
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية