شهدت الحدود اللبنانية السورية تصعيدًا غير مسبوق ولافتًا خلال الأيام القليلة الماضية، نتيجة اشتباكات بين قوات الأمن السورية، ومسلحين تابعين للعشائر اللبنانية القاطنة في القرى الحدودية السورية المتاخمة للحدود اللبنانية، عقب إطلاق قوات الأمن السورية عملية عسكرية يوم 6 فبراير 2025، في قرى ريف حمص الغربي، لا سيما قرى حاويك وجرماش وهيت، بهدف مكافحة الاتجار بالمخدرات وتفكيك معامل الكبتاجون، أسفرت عن سقوط عدد من القتلى والمصابين، ناهيك عن تنفيذ عمليات خطف متبادلة. ثم سرعان ما اتسع نطاق الاشتباكات ليتجاوز الحدود السورية إلى الحدود اللبنانية؛ مما دفع الجيش اللبناني للتحرك من أجل حماية حدوده الشمالية الشرقية المحاذية لمناطق التصعيد السوري، وهو ما يدفع للتساؤل حول دوافع نشوب الاشتباكات الحدودية السورية اللبنانية، وما تحمله من دلالات ضمنية؟
انطلاقًا مما سبق، يهدف المقال لمناقشة كيف تطورت الأوضاع لتتحول من طاولة المباحثات العشائرية الخاصة بضبط الحدود، لاندلاع اشتباكات متقطعة يعقبها إطلاق عملية عسكرية سورية ضد مسلحي العشائر الرابطة على الحدود السورية، وما لذلك ارتباط باتفاق وقف إطلاق النار في لبنان وانسحاب الجيش الإسرائيلي من كامل الأراضي اللبنانية، بالإضافة إلى مناقشة الدوافع/ المحفزات التي تقف وراء اندلاع هذه الاشتباكات، والتي تتراوح ما بين دوافع معلنة، ودوافع غير معلنة مرتبطة بأجندة الإدارة السورية الجديدة، وشبكة تحالفاتها الإقليمية.
أولًا: ما بين السلمية ورفع السلاح: الاشتباكات الحدودية السورية اللبنانية
ترافق الحدود اللبنانية السورية الممتدة لنحو 370 كيلومترًا، العديد من المشكلات الأمنية الأزلية العابرة للحدود، التي تفاقمت مع ما تشهده الساحتان اللبنانية والسورية من تطورات أمنية وسياسية سريعة، كان آخرها إطلاق القوات الأمنية السورية عملية عسكرية في المناطق الحدودية السورية، لا سيما في قرى ريف حمص الغربي، خاصة قرى حاويك وجرماش وهيت التي يسكنها لبنانيون من عشائر آل جعفر وزعيتر ومدلج، استهدفت من وصفتهم بـ”المطلوبين المتورطين في تهريب الأسلحة والممنوعات”، تمكنت خلاله من تحرير عنصرين من قوات الأمن السوري كانا قد اختُطفا خلال المواجهات التي استخدم خلالها أسلحة ثقيلة ومتوسطة، بما في ذلك قذائف مدفعية ودرونز، بعضها تجاوز الحدود السورية، وسقطت داخل الأراضي اللبنانية، في عملية أسفرت عن سقوط عدد من القتلى والمصابين بين الأطراف المشتبكة، بالإضافة إلى الجانب اللبناني، كما تم خلال الاشتباكات عمليات اختطاف متبادلة بين العشائر اللبنانية المسلحة في سوريا وقوات الأمن السورية.
ولقد وردت معلومات بشأن تدخل الجيش اللبناني كوسيط بين القوات السورية ومسلحي العشائر للإفراج عن المختطفين، إلى أن تطور الوضع الميداني للاشتباكات واتَّسع نطاقه ليشمل الأراضي اللبنانية عقب تعرض قرى في محافظة الهرمل اللبنانية الحدودية المقابلة لسوريا لإطلاق نار من الجانب السوري في 8 فبراير، أسفر عن وقوع قتلى وإصابات من المواطنين اللبنانيين؛ مما دفع الجيش اللبناني لإرسال تعزيزات عسكرية إلى منطقة القاع الحدودية، مع إصدار أوامر لوحداته العسكرية بالرد على مصادر النيران التي تطلق من الأراضي السورية، والانتشار في المنطقة الحدودية، مع انسحاب مسلحي عشائر الهرمل خلف قوات الجيش، عقب مطالبة العشائر الجيش اللبناني بالتدخل لحماية البلدات الحدودية، في ظل استمرار التصعيد العسكري داخل الأراضي السورية وتداعياته على المناطق اللبنانية المجاورة، وذلك بالتوازي مع فتح بيروت قناة اتصال دبلوماسي مع سوريا عبر إجراء الرئيس اللبناني “جوزيف عون”، اتصالًا هاتفيًا مع الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع يوم 7 فبراير، اتفقا خلاله على التنسيق لضبط الأوضاع ومنع استهداف المدنيين.
تأتي هذه المواجهات في أعقاب فشل مبادرة عشائرية كان من المقرر عقدها لتنظيم وضبط الحدود بين البلدين وبالتالي وضع حد لكافة أنشطة الجرائم، بعد أن دعت عشائر العليوي السورية ممثلين عن العشائر اللبنانية إلى اجتماع في بلدة السماقيات السورية لمناقشة سبل الحد من عمليات التهريب العابرة للحدود عبر المعابر غير الشرعية، إلا أن الاجتماع لم يُعقد، وتبعه تصعيد أدى إلى اندلاع اشتباكات بين قوات الأمن السورية ومسلحي العشائر اللبنانية في سوريا، دفعت الأولى لإطلاق عملية عسكرية لاستعادة السيطرة والأمن على المناطق الحدودية اللبنانية مع سوريا، انتهت بتمكن قوات الأمن السورية من السيطرة على نحو 17 قرية ومزرعة، من بينها حاويك والسماقيات وزيتا وبلوزة وسقرجا.
وفي 11 فبراير 2025، أعلنت إدارة أمن الحدود السورية سيطرتها على كامل الحدود مع لبنان في مناطق الاشتباك ونشر قواتها على مفارق القرى التي مشطها الجيش السوري، عقب انسحاب فلول نظام الرئيس السابق “بشار الأسد” والمسلحين باتجاه الأراضي اللبنانية بالتنسيق بين إدارة العمليات العسكرية والجيش اللبناني، كما تمكنت قوات أمن الحدود السورية من ضبط أسلحة ومعامل لتصنيع المخدرات ومطبعة لتزوير العملة الأجنبية خلال عمليتها العسكرية. علاوة على ذلك، أفادت مصادر بأن الحملة الأمنية التي شنتها إدارة العمليات في ريف حمص الغربي متواصلة وتتجه شرقًا نحو معبر جوسيه، بعد سيطرة إدارة العمليات على العديد من القرى الحدودية ذات الغالبية الشيعية، وإخلائها من حاملي الجنسية اللبنانية، منها: حاويك وأكوم، وزيتا وتلالها، ومطربا وجرماش وبلوزة، ضمن حملة تمشيط استهدفت تجار المخدرات وعصابات التهريب في تلك المناطق، وهو ما يُشير في مجمله إلى تحركات سورية أمنية مستقبلية لإحكام السيطرة على معظم الحدود السورية اللبنانية.
بل إنه من اللافت، تنفيذ الطيران الإسرائيلي ضربات استهدفت معبر قلد السبع – جرماش الحدودي مع سوريا في جرد الهرمل اللبنانية يوم 9 فبراير، بالتزامن مع الاشتباكات المندلعة بين قوات الأمن السورية ومسلحي العشائر على طول الحدودية السورية، وهو ما يكشف عن وحدة الرؤى والموقف والأهداف بين الإدارة السورية الجديدة، والحكومة الإسرائيلية في سوريا، والتي تأتي في حقيقة الأمر انعكاسًا للأرضية المشتركة والتوافقية الرابطة بين الجانبين، منذ اللحظة الأولى من اندلاع الفصائل المسلحة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام، عمليتها العسكرية ضد النظام السوري السابق، والتي أدت إلى إسقاطه في 8 ديسمبر 2024.
علاوة على ذلك، ليس من الممكن فك الارتباط بين موعد انطلاق الإدارة السورية الجديدة عمليتها العسكرية ضد مسلحي العشائر المرابطين على الحدود السورية، ومدى التزام إسرائيل بانسحاب قواتها من الجنوب اللبناني وفق اتفاق وقف إطلاق النار، والموعد المعدل المتفق عليه بانسحاب الجيش الإسرائيلي يوم 18 فبراير؛ فالمدقق في انعكاسات الاشتباكات على طول الحدود السورية على الداخل اللبناني، يكشف عن أهداف خفية متجاوزة الحدود السورية للإدارة السورية ومن ورائها تل أبيب، تتمثل في تشتيت قوات الجيش اللبناني، وتقويض قدرته على الصمود مع تزامن التحديات الأمنية والعسكرية وتفاقمها، وبالتالي الترويج إلى عجز الجيش اللبناني عن الوفاء بالتزاماته الواردة في اتفاق وقف إطلاق النار، التي تتضمن نزع سلاح حزب الله، وانسحابه إلى ما بعد نهر الليطاني، ونشر الجيش اللبناني قواته وفرض سلطته على طول الحدود الجنوبية اللبنانية، وهو ما يمنح لتل أبيب فرصة لتبرير رفضها الانسحاب الكامل من جنوب لبنان.
وبالفعل وتحديدًا في 18 فبراير 2025، أكد وزير الدفاع الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” أن الجيش سيبقى في خمس نقاط مراقبة داخل الأراضي اللبنانية، لـحماية البلدات الحدودية شمال إسرائيل، متوعدًا بالرد على أي انتهاكات من قبل حزب الله، مُشيرًا إلى أن وجود القوات الإسرائيلية في النقاط الخمس سيكون بشكل مؤقت؛ لضمان أمن إسرائيل، وأنه بمجرد تطبيق لبنان لالتزاماته باتفاق وقف إطلاق النار بشكل كامل، فلن تكون هناك حاجة للبقاء في تلك النقاط.
ثانيًا: دوافع اندلاع الاشتباكات الحدودية السورية اللبنانية
من خلال رصد تطورات المشهد الأمني على الحدود اللبنانية السورية، والتي اتسعت من دائرة المباحثات إلى حد الاشتباكات المسلحة بين القوات الأمنية السورية ومسلحي العشائر اللبنانية داخل القرى الحدودية السورية، مع تجاوز الاشتباكات النطاق الجغرافي اللبناني، ليمتد داخل الأراضي اللبنانية، يُمكن الخروج بعدد من الأسباب/ الدوافع التي وقفت وراء إشعال الوضع الحدودي اللبناني السوري، والتي تكشف في الوقت ذاته عن أهداف معلنة وغير معلنة من هذه الاشتباكات، والتي يُمكن مناقشتها على النحو التالي:
- ملاحقة عناصر حزب الله وتفكيك الحاضنة الشعبية له
منذ اليوم الأول لسقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، بل وقبل انهيار النظام، عملت الإدارة السورية الجديدة عبر ما شكلته من قوات أمنية، على مطاردة فلول نظام الرئيس السابق، وتصفية قياداته، بالإضافة إلى القضاء على القوات المتحالفة معه والمنتشرة على أرض الواقع، لا سيما حزب الله اللبناني، وذلك كأحد الأهداف الرئيسية للإدارة السورية الجديدة والقوى الإقليمية المحركة لها، وهو ما ينصرف بطبيعة الحال إلى استكمال العمل على تدمير مواقع تمركز عناصر حزب الله، ومخازن التسليح، وقطع طرق الإمداد لعناصر حزب الله على جانبي الحدود السورية اللبنانية، وتطهير الأراضي السورية من كافة عناصر الحزب وتفكيك الحاضنة الشعبية الخاصة بها على طول الحدود السورية اللبنانية.
فلطالما شكلت الحدود اللبنانية السورية الممتدة على نحو 370 كم محل اشتباك بين الجانبين السوري واللبناني، خاصة في المناطق الشمالية الشرقية حيث مدينة حمص، التي يقطنها مواطنون لبنانيون من الأغلبية الشيعية والتي تحولت مع مرور الوقت إلى نقطة تمركز لوجيستي لعناصر حزب الله ومراكز تسليح، ومنطقة عبور رئيسية لعمليات التهريب المتعددة الأنماط من سلاح ومخدرات ووقود وغيرها من أنماط الجريمة، ناهيك عن تحول المناطق الحدودية السورية اللبناينة لحاضنة شعبية لعناصر الحزب في ظل التداخل العشائري والسكاني الممتد بين الهرمل اللبنانية والقصير السورية، خاصة أن أجزاء واسعة من المناطق الحدودية السورية اللبنانية غير مُرسمة، وهو ما جعلها منطقة سهلة الاختراق تقع خارج نطاق المراقبة والرصد الأمنيين، بينما تخضع للسيطرة العشائرية، وهي حزمة من التحديات والأخطار التي تحولت على إثرها المنطقة الحدودية الرابطة بين الأراضي السورية واللبنانية لواحدة من أكثر المناطق الحدودية حساسية.
- إحكام السيطرة على المعابر غير الرسمية على طول الحدود السورية اللبنانية
إن أحد الأسباب الرئيسية من إطلاق قوات الأمن السورية عمليتها الأمنية في ريف حمص ضد مسلحي العشائر اللبنانية القاطنة في سوريا، وذات الصلة بالسبب السالف الإشارة إليه، هو سحب البساط من تحت أقدام العشائر الممتدة عبر الحدود اللبنانية السورية، عبر فرض الإدارة السورية الجديدة سيطرتها بشكل تدريجي على المعابر غير الرسمية الممتدة على طول الحدود السورية اللبنانية، والتي بلغت نحو 17 معبرًا خاضعًا لسيطرة العشائر ويحمل كذلك أسماءها، هذا بخلاف ما تُمثله المعابر الحدودية الرسمية الستة من معضلة متعلقة بعمليات التهريب العابرة للحدود ذات الصلة بمختلف أنماط الجريمة.
خريطة (1): المعابر الرسمية الستة بين سوريا ولبنان

بالإضافة إلى أن سيطرة الإدارة السورية الجديدة على المعابر غير الرسمية، يمنحها فرصة قوية للتحكم في حركة مرور الأفراد عبر الحدود، وبالتالي تسيير حركة ونقل الأفراد المواليين للإدارة السورية، نظير منع العناصر الموالية لحزب الله والتابعة له من الدخول إلى الأراضي السورية، كسبيل لقطع الطريق أمام أي خطط إيرانية وأخرى تابعة لحزب الله لإعادة تجميع صفوفها مرة أخرى في الداخل السوري واستعادة نفوذها مرة أخرى، لتكون كتلة حرجة ضاغطة على الإدارة السورية الجديدة، ونواة لتشكيل تحالف للقوى المعارضة المسلحة، وهو ما يُفسر قيام الجيش اللبناني في 17 فبراير بالإعلان عن إغلاق عدة معابر غير قانونية في مناطق “حوش السيد علي” و”القاع” ومنطقة طرق “القصير– الهرمل” و”الدورة- القاع”، في خطوة يبدو أنها جاءت بالتنسيق مع الإدارة السورية الجديدة.
- التهجير القسري للبنانيين وفك الارتباط بين الساحتين السورية واللبنانية
إن أحد الأسباب الضمنية التي تقف وراء الاشتباكات بين قوات الأمن السورية، ومسلحي العشائر اللبنانية القاطنة على الحدود السورية، هو فك الارتباط بين الساحتين السورية واللبنانية، مع محاولة تفكيك التلاحم العشائري الممتد عبر الحدود، عبر خلق بيئة نافرة وغير مناسبة لبقاء المواطنين اللبنانيين القاطنين على الحدود السورية، لدفعهم على العودة القسرية إلى لبنان في ترجمة ضمنية لسياسة “التهجير القسري” التي يبدو أن الإدارة السورية الجديدة تنتهجها تجاه مواطني لبنان القاطنين في الأراضي السورية، وهو ما يُمكن تلمسه في إخلاء القوات السورية القرى الحدودية محل الاشتباك من حاملي الجنسية اللبنانية، كما سبق وأن أغلقت الإدارة السورية الجديدة حدودها في وجه حاملي الجنسية اللبنانية، مع إعطاء استثناءات محدودة لمن لديه إقامة سورية، مع السماح لحاملي الجنسية اللبنانية بالعبور تجاه لبنان من جهة سوريا، في إجراء اعتمدته سوريا على أرض الواقع دون اتخاذ قرار رسمي ومعلن.
يأتي هذا الإجراء الضمني الذي يبدو أن الاشتباكات المندلعة بين مسلحي العشائر اللبنانية وبين قوات الأمن السورية، جاءت لتطبيقه عبر أداة السلاح وخلق بيئة أمنية مضطربة، لعدة أسباب؛ يعود أولها: إلى رصد تدفقات كبيرة من اللبنانيين المتجهين إلى سوريا في الآونة الأخيرة عقب سقوط نظام بشار الأسد -دون تقديم إحصائية محددة حول أعدادهم- في ظل الحديث عن صفقة عقدها عدد من السوريين الموجودين في لبنان مع عدد من اللبنانيين من أجل إعادة ممتلكاتهم التي تركوها بشكل مفاجئ في سوريا مع سقوط نظام الأسد، نظير مبالغ مالية، وهو ما أثار شكوكًا حول كون هذه التحركات ذات صلة بعناصر حزب الله، ومرتبطة بمحاولاتهم لإعادة تجميع صفوفهم في الداخل السوري، مع الاحتماء بالعشائر اللبنانية المتمركزة على الحدود السورية، وهو ما دفع الإدارة السورية الجديدة لتقييد حركة اللبنانيين المتجهين إلى سوريا.
أما بالنسبة لثاني الأسباب: فتتمثل في الرد بالمثل على السياسة اللبنانية التعسفية تجاه السوريين القاطنين في بيروت البالغ عددهم أكثر من مليوني سوري وفق آخر تقديرات رسمية لبنانية صادرة في فبراير 2025، والتي شملت تنفيذ عمليات ترحيل قسرية تعسفية، وإخلاءات قسرية، خاصة أن 80٪ من السوريين في لبنان لا يملكون إقامات شرعية، وهو ما منح الممارسات اللبنانية غطاء قانونيًا وشرعيًا لسياساتها التعسفية تجاه اللاجئين السوريين، إلى جانب منع السوريين من الدخول إلى لبنان إلا بعد إجبارهم على إصدار بطاقة إقامة بوجود كفيل ودفع مبلغ ألفي دولار أمريكي، بالإضافة إلى ما يُعاني منه اللاجئون السوريين منذ سنوات من تصاعد خطاب العداء والكراهية تجاه اللاجئين السوريين الموجه من الحكومة اللبنانية، والتي كانت بمثابة وقود حي لسلسة من الاعتداءات العنيفة والعنصرية التي تعرض لها السوريون، والتي جاءت بالتوازي مع تصاعد المطالب الشعبية التي تُنادي بترحيل السوريين من بيروت.
بل إن تدهور الوضع الأمني في بيروت مع تحول الساحة اللبنانية من ساحة إسناد للمقاومة في غزة إلى ساحة حرب مع إسرائيل، أسفرت عن موجات متزايدة من النازحين في الداخل اللبناني، فاقم من حجم التحديات الاقتصادية والأخطار الأمنية التي يواجهها اللاجئون السوريون في البلاد، والتي وصلت لحد استبعادهم من الملاجئ والمساعدات الإنسانية ومنح أولوية الحصول عليها والاستفادة بها للمواطن اللبناني.
خريطة (2): أماكن تمركز العائدين السوريين في مدن سوريا خلال الفترة (8 ديسمبر2024- 13 فبراير 2025)

أما بالنسبة لثالث الأسباب: فتتمثل في تصفية الحاضنة الشعبية لعناصر حزب الله الممتدة عبر الحدود السورية اللبنانية والتي تتجاوز الحدود الجغرافية والعاكسة لحجم التداخل العشائري العابر للحدود، بما يضمن تجفيف مصادر تمويل ودعم الحزب، من خلال فرض الإدارة السورية الجديدة سلطتها ونفوذها على كامل المناطق الحدودية، بما في ذلك المعابر غير الرسمية، وبالتالي التحكم في حركة المرور والشحن العابرة للحدود وضخ مزيد من الأموال في خزينة الدولة السورية الخاضعة لسلطة الإدارة السورية الجديدة، لا سيما أن العملية العسكرية في ريف حمص جاءت مع رصد الحدود السورية تدفق موجات من السوريين العائدين إلى بلادهم عبر الحدود اللبنانية منذ سقوط نظام بشار الأسد. بل إن مدينة حمص احتلت -وفق تقديرات وكالة الأمم المتحدة لشئون اللاجئين- مرتبة متقدمة من بين المدن السورية كإحدى أكثر المدن التي تمركز فيها السوريون العائدون بواقع 63.005 ألف سوري، وذلك خلال الفترة ( 8 ديسمبر 2024 – 13 فبراير 2025)، وذلك من إجمالي 279.620 ألف سوري عائد إلى بلاده، انطلق 54% منهم من لبنان -كإحدى مناطق اللجوء- إلى سوريا.
نهاية القول، يبدو أن الحملة الأمنية للإدارة السورية الجديدة تأتي ضمن سلسلة من الحملات الأمنية التي أطلقتها الإدارة الجديدة لإحكام سيطرتها على ربوع البلاد، ولقضم أظافر بقايا نظام الرئيس السابق بشار الأسد، وتصفية وكلائه في سوريا، لا سيما حزب الله، على أن يتضمن ذلك تطهير الحاضنة الشعبية له داخل الأراضي السورية لضمان قطع الطريق أمام إعادة تجميع صفوفه مرة أُخرى، إلى جانب العمل على تفكيك الارتباط بين الساحتين السورية واللبنانية كأحد شروط تفكيك محور المقاومة الإقليمي التابع لطهران، وإخفاق أي محاولات من قبل إيران ووكلائها لاستعادة نفوذها مرة أخرى.
علاوة على ذلك، كشفت الاشتباكات الحدودية عن الذراع الإسرائيلي الخفي الداعم للإدارة السورية الجديدة في ما تنتهجه من سياسات وخطوات، تأتي اتساقًا مع الأهداف الإسرائيلية في سوريا، والتي تتجاوز في حقيقتها الحدود السورية، ليشمل الملف اللبناني، بما يعني توظيف تطورات الداخل السوري لخدمة الحفاظ على بقاء القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان.