أسفر التدمير الممنهج للقطاع الصحي في غزة عقب أحداث السابع من أكتوبر عن تأثيرات مباشرة وغير مباشرة. تمثّلت التأثيرات المباشرة في استهداف البنية التحتية للمنشآت الصحية والكوادر الطبية؛ مما أدى إلى خسائر مادية وبشرية فادحة. أما التأثيرات غير المباشرة، فتجلّت في زيادة الضغط على قطاع الرعاية الصحية نتيجة النقص الحاد في المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية، إضافةً إلى تفشي الأمراض بسبب الظروف المعيشية القاسية، ومحدودية وصول المساعدات، والقيود المفروضة على الحركة.
في ظل هذا الواقع، يناقش المقال سيناريو الاستجابة الطارئة، والذي يهدف إلى وضع حلول فورية وفعالة لإعادة تشغيل القطاع الصحي، من خلال تحديد الأولويات العاجلة لضمان استمرار تقديم الرعاية الصحية الأساسية. كما يستعرض المقال الجهود المطلوبة من الجهات المانحة والمنظمات الدولية لدعم إعادة الإعمار لضمان استدامة الخدمات الصحية في غزة خلال الأشهر المقبلة. وقد قسمت خطة الاستجابة الفورية إلى ثلاثة محاور؛ هي ” إعادة تشغيل المرافق الصحية الأساسية – تأمين الامدادات الطبية والحرجة – الدعم النفسي والصحة العقلية”.
تقدير تكلفة الإصلاح
أفاد البنك الدولي في تقريره الأخير الصادر في فبراير 2025 بعنوان “غزة والضفة الغربية: التقييم المؤقت السريع للأضرار والاحتياجات” بأن تقديرات الدمار اللاحق بالقطاع الصحي “الخاص بالبنية التحتية والمنشآت” يبلغ ما يقرب من مليار و300 مليون دولار، بينما قدرت حجم الخسائر المادية التي نتجت عن: فقدان الدخل – خسائر العمالة – والتكاليف الناجمة عن النزوح، بحوالي 6 مليارات و300 مليون دولار.

وقدر البنك الدولي احتياجات التعافي وإعادة الإعمار في القطاع الصحي لمختلف أنحاء القطاع بنحو أكثر من 7 مليارات دولار أمريكي، مقسمة بين تكاليف إعادة الإعمار واحتياجات تقديم الخدمات. وتبلغ الاحتياجات قصيرة الأجل 4.3 مليارات دولار وتركز على الاستجابة الإنسانية لاستعادة وتوسيع الخدمات الأساسية، وإعادة بناء البنية التحتية الصحية، ومعالجة الاحتياجات الفورية مثل الصحة العقلية وإعادة التأهيل والتغذية والأمراض غير المعدية.
وتبلغ الاحتياجات المتوسطة إلى طويلة الأجل 2.7 مليار دولار، وتركز على إدراج الخدمات الوقائية مثل التأهب للطوارئ والاستجابة لها لمعالجة احتياجات الصحة العامة الناشئة، وتوسيع نطاق الموارد البشرية الصحية لتحل محل العدد الكبير من العاملين الذين فُقدوا. وتعتبر احتياجات تقديم الخدمات في مرحلة التعافي ملحة بشكل خاص، مع التركيز بشكل كبير على معالجة تفشي الأمراض العقلية والتغذية والأمراض المعدية. بالإضافة إلى ذلك، يعد إخلاء المرضى واستعادة أنظمة المعلومات الصحية أمرًا ضروريًا لضمان استمرارية الرعاية.
المرحلة الأولى: الاستجابة الطارئة
تهدف هذه الخطة إلى استئناف الخدمات الصحية العاجلة وإيجاد بدائل للمرافق المدمرة، وذلك خلال فترة تتراوح بين ثلاثة إلى ستة أشهر. وقد تم بناء إطار الخطة استنادًا إلى عدة عوامل؛ أبرزها حجم الأضرار ونسبة الدمار التي لحقت بالقطاع الصحي، وأولوية توفير الخدمات العاجلة للنازحين وسكان القطاع، بالإضافة إلى احتياجات النظام الصحي والتكلفة المقدرة من قِبل البنك الدولي والتي تبلغ 4.3 مليارات دولار. وتنقسم تلك الخطة إلى عدة محاور تتمثل أبرزها فيما يلي:
- إعادة تشغيل المرافق الصحية الأساسية
تمثل إعادة تشغيل المرافق الصحية في غزة تحديًا كبيرًا بسبب حجم الدمار الواسع، وارتفاع أعداد المصابين، وتزايد الاحتياجات الإنسانية؛ مما يستلزم اتباع نهج شامل يجمع بين الإصلاح الفوري والتخطيط طويل الأجل. ويعد التقييم السريع للأضرار في البنية التحتية الصحية خطوة أساسية في هذا النهج، إلى جانب تقييم احتياجات السكان وفقًا للكثافة السكانية ومعدلات النزوح الداخلي. ويسهم ذلك في تحديد الأولويات الطبية العاجلة، وضمان توفير المعدات والأدوية الأكثر إلحاحًا، وإعادة توزيع الموارد بطريقة أكثر عدالة وفاعلية. ويشمل هذا المحور ما يلي:
- إدخال حاويات مسبقة الصنع prefabricated containers
تُعرف باسم “مرافق الرعاية الأولية المعيارية“، وتُستخدم لدعم علاج المرضى في المستشفيات والعيادات المتضررة، لا سيما في حالات الطوارئ وجهود إعادة الإعمار بعد الكوارث الطبيعية أو النزاعات المسلحة. وقد اعتُبرت هذه الوحدات من أبرز مشاريع الاستجابة والتعافي التي تبنتها منظمة الصحة العالمية خلال الحرب الروسية الأوكرانية، كما تم استخدامها على نطاق واسع في الكوارث الطبيعية، مثل زلزال هايتي 2010 وزلزال تركيا وسوريا 2023.
تحتوي هذه المرافق على مجموعة متنوعة من المعدات الطبية، بما في ذلك أجهزة الأشعة، غرف العمليات المصغرة، وحدات العناية المركزة، والمختبرات الطبية؛ مما يتيح تقديم خدمات طبية متكاملة في بيئات الأزمات. وتتميز بسهولة النقل والتركيب؛ حيث يمكن تجميعها وتثبيتها في غضون 10 أيام إلى أسبوعين فقط لكل وحدة. كما توفر حلًا مرنًا ومستدامًا لمشكلة نقص المرافق الطبية، إذ تُعد حلًا مؤقتًا لكنها قادرة على العمل كبديل للمرافق التالفة لمدة تصل إلى 10 سنوات؛ مما يجعلها خيارًا فعالًا في الأوضاع الطارئة وإعادة الإعمار. ونظرًا لانخفاض عدد أسرّة العناية المركزة إلى 81 والطوارئ إلى 258 سريرًا فيحتاج قطاع غزة حوالي 80 – 100 حاوية.

صورة توضيحية لمرافق الرعاية الأولية المعيارية
- التوسع في إنشاء المستشفيات الميدانية المتنقلة
أفادت منظمة الصحة العالمية بأن هناك ما يقرب من 10 مستشفيات ميدانية توجد حاليًا في محافظات دير البلح وخان يونس ورفح، يعمل ستة منها بصورة كاملة وأربعة بصورة جزئية، وتوفر هذه المستشفيات الميدانية طاقة استيعابية تزيد عن 600 سرير. مما يستدعي التوسع في إنشاء المستشفيات الميدانية في المناطق المتضررة الأخرى في شمال غزة ليكون الحاجة لـ10 مستشفيات ميدانية أخرى حتى تعوض النقص القائم بالفعل في عدد الأسرّة الذي انخفض من 2536 إلى 1847.
في هذا الإطار، وقعت جامعة القدس اتفاقية تعاون والهيئة الخيرية الهاشمية، ومؤسسة Kids Operating Room (Kids OR)، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، بالإضافة إلى المؤسسة العربية الدولية للإعمار في فلسطين، بهدف إنشاء ثلاثة مستشفيات متنقلة حديثة في قطاع غزة لتلبية الاحتياجات الصحية الطارئة للأطفال والنساء المرضى والمصابين، جديرًا بالذكر أن مؤسسة (Kids OR) تمتلك خبرة طويلة في إنشاء المستشفيات في مناطق الحروب حول العالم.
- تحويل المباني غير الطبية إلى مستشفيات مؤقتة
في حالات الكوارث والأزمات، يُلجأ إلى المباني المتاحة لتقديم خدمات الرعاية الطبية العاجلة في المناطق المنكوبة، وذلك بناءً على مجموعة من العوامل، أهمها التأكد من سلامة المبنى إنشائيًا، وتوافر الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء، بالإضافة إلى اختيار المواقع القريبة من التجمعات السكانية ومناطق النزوح. ويمكن تحقيق ذلك من خلال وضع خطة طوارئ تتضمن قوائم بالمباني غير المتضررة، إلى جانب تأمين الدعم الدولي لضمان توفر الإمدادات والمعدات الطبية اللازمة.
جدير بالذكر أنه خلال الأزمات السابقة في غزة، تم تحويل العديد من المباني غير الطبية إلى مستشفيات ميدانية، بما في ذلك المساجد والمدارس وحتى بعض قاعات المناسبات، وذلك لتلبية الاحتياجات الطبية الطارئة وتخفيف الضغط على المرافق الصحية القائمة. في هذا السياق يحتاج قطاع غزة لتحويل ما يقرب من 15 لـ 20 مبنى إلى مستشفى حتى يصل إلى عدد الأسرّة والمستشفيات العاملة لما قبل الحرب.
- تأمين الامدادات الطبية الحرجة والعاجلة
أفاد البنك الدولي بأن عمليات الإغلاق الإسرائيلية والتصعيدات السابقة على مدى السنوات الست عشرة الماضية قد أثرت بشدة في الأنظمة الصحية في غزة. وأدى هذا إلى نفاد أكثر من 40 في المائة من الأدوية الأساسية، وأدى التأخير الحرج في الإحالات الطبية إلى ارتفاع معدلات الوفيات، مع وجود بعض الحالات الصحية غير القابلة للعلاج في قطاع غزة.
لذلك، تعتمد خطة الاستجابة الطارئة على عدة محاور لضمان وصول الأدوية والمعدات الأساسية إلى المستشفيات والمراكز الصحية في الوقت المناسب.
أولًا: تحديد الاحتياجات العاجلة والملحة والتي تشمل الأدوية الأساسية والمعدات الطبية، وأدوات الجراحة الضرورية الكافية للتعامل مع الحالات الطارئة وذلك بالتنسيق بين وزارة الصحة الفلسطينية والمنظمات الدولية.
ثانيًا: توفير شحنات عاجلة تغطي الأدوية الأساسية، والمستهلكات الطبية، ومواد المختبرات.
ثالثًا: حصر أعداد حالات الأمراض غير السارية لضمان إمدادهم بالخطة العلاجية اللازمة لهم، مثل مرضى غسيل الكلى وأمراض القلب والأوعية الدموية لا سيما مرضى السرطان، يواجه هؤلاء المرضى أخطارًا صحية كبيرة نتيجة عدم حصولهم على الأدوية والرعاية الصحية اللازمة. والذي يبلغ عددهم حوالي 827100 ألف حالة.
رابعًا: استمرار دخول المساعدات الطبية، واستقدام فرق طبية دولية متخصصة وتوفير الحماية لهم لضمان وصولهم إلى المناطق المتضررة وتقديم الخدمات الطبية بجانب إعادة توزيع الكوادر الطبية داخل القطاع للاستفادة المثلى من الموارد البشرية.
خامسًا: تعزيز المخزون الاستراتيجي للأدوية الضرورية (مثل المضادات الحيوية، أدوية الأمراض المزمنة، أدوية الطوارئ).
- الدعم النفسي والصحة العقلية
تعرض سكان قطاع غزة إثر الحرب لصدمات نفسية حادة حيث أفادت الأونروا في تقرير لها بالشراكة مع اليونسيف أن ثلث سكان القطاع بحاجة لدعم نفسي وأن هناك انتشارًا واسعًا للاضطرابات النفسية التي تستلزم التدخل مثل: اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب واضطرابات النوم والآثار النفسية طويلة الأمد على الأطفال والمراهقين. وبناءً على ذلك يتطلب دعم الصحة النفسية خطة عاجلة تتضمن العلاج النفسي، التأهيل الاجتماعي، والتدريب على إدارة الأزمات النفسية وذلك عن طريق ما يلي:
- إنشاء مراكز دعم نفسي في المستشفيات الميدانية.
- إنشاء منصات رقمية توفر استشارت نفسية عن بعد وتدعم التواصل مع أطباء نفسيين دوليين.
- توفير كوادر متخصصة في الصحة النفسية.
- إعادة تأهيل الناجين من الإصابات الجسدية والنفسية.
- توفير برامج دعم نفسي موجهة للكوادر الطبية والعاملين في المجال الطبي.
- توفير برامج دعم نفسي للأطفال والنساء.
ختامًا، تتطلب خطة الاستجابة الطارئة لإعادة إعمار غزة تلبية فورية من المجتمع الدولي؛ حيث يُعدّ التمويل المستدام أمرًا حاسمًا في تنفيذ الخطة المقترحة، وتتمثل الجهات المانحة فيما يلي:
- البنك الدولي الذي يمد منظمة الصحة العالمية بالتمويل اللازم لإعادة تأهيل المستشفيات وتوسيع الخدمات الصحية بالتعاون مع جهات أخرى مثل الأونروا واليونيسيف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومؤسسة kids or.
- منظمة الصحة العالمية، التي تقوم بتقديم الدعم التقني والفني.
- الاتحاد الأوروبي الذي يقوم بتمويل مشاريع البنية التحتية الصحية والتدريب الطبي.
- الدول العربية والإسلامية، مثل مصر وقطر والسعودية والكويت والإمارات وتركيا، التي تقدم المساعدات المالية وإرسال الفرق الطبية، وتسهم في بناء المستشفيات الميدانية.
- تؤدي المنظمات الإنسانية الدولية، مثل الصليب الأحمر وأطباء بلا حدود، دورًا مهمًا في تقديم الدعم العاجل من خلال المستشفيات المتنقلة والإمدادات الطبية الطارئة.