مع فوز الديمقراطيين بالأغلبية في مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، التي أُجريت في السادس من نوفمبر ٢٠١٨؛ تزايدت حدة الصراع التقليدي بين الرئيس والمشرعين الأمريكيين الذين يعملون على استعادة المؤسسة التشريعية لسلطاتها الدستورية في عملية صنع السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ولا سيما لاتخاذ “دونالد ترامب” منذ أدائه اليمين الدستورية في العشرين من يناير ٢٠١٧ سياسات ومواقف تتعارض مع السياسة الخارجية الأمريكية المستقرة منذ سبعة عقود.
وقد تجلّت أبرز ملامح هذا الصراع المحتدم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في إصدار مجلسي الشيوخ والنواب قرارًا مشتركًا (S.J. Res. 7) يدعو الرئيس الأمريكي إلى سحب القوات الأمريكية المشاركة في الأعمال القتالية الدائرة في اليمن التي تقودها المملكة العربية السعودية ضد الحركة الحوثية منذ مارس ٢٠١٥. لكن “ترامب” استخدم في السادس عشر من أبريل الجاري حقه الدستوري (الفيتو) في معارضته للقرار.
مشاركة بدون موافقة الكونجرس
استند مجلسا الكونجرس في قرارهما المشترك، الذي مرره مجلس الشيوخ في الثالث عشر من مارس 2019 بموافقة 54 عضوًا مقابل رفض 46 آخرين، ومرره مجلس النواب في الرابع من أبريل بموافقة 247 نائبًا ضد 175؛ إلى أن المؤسسة التشريعية هي التي لها الحق الدستوري منفردة بإعلان الحرب وفقًا للمادة الأولى من الدستور الأمريكي. وأنه لم يعلنها، كما لم يقدم تفويضًا قانونيًّا محددًا لمشاركة القوات الأمريكية في الأعمال القتالية التي يشنها التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية ضد الحركة الحوثية في اليمن.
ويرى المشرعون الأمريكيون أنه منذ عام ٢٠١٥ وأفراد من القوات الأمريكية ينخرطون في الأعمال القتالية التي تشنها قوات التحالف العربي في اليمن، حيث شكلت الولايات المتحدة خلية تخطيط مشتركة مع السعودية يُساعد فيها عسكريون أمريكيون في عمليات الاستهداف الجوي للتحالف بجانب تنسيق الأنشطة العسكرية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتزويد طائرات التحالف بالوقود. وأنه وفقًا لقانون سلطات الحرب لعام ١٩٧٣ فعلى الرئيس الأمر بعودة الجنود إلى أراضي الولايات المتحدة لأنهم يشاركون في أعمال عدائية خارجية بدون إعلان حرب أو إذن قانوني من الكونجرس.
ويزعم الكثير من أعضاء الكونجرس أن الدور الأمريكي المستمر في الصراع اليمني يتخطى تفويض عام ٢٠٠١، الذي مُنح للرئيس السابق “جورج دبليو بوش” بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الذي يبرر الأعمال القتالية الأمريكية خارج حدود الولايات المتحدة، ولذا يتطلب مشاركة القوات الأمريكية قوات التحالف العربي في حربها في اليمن موافقة الكونجرس.
ومن الجدير بالذكر أن معارضة المشرعين الأمريكيين لقيادة السعودية للتحالف العربي في حربه ضد الحوثيين في اليمن قد تزايدت بعد اتهام مسئولين سعوديين، وتقديرات استخباراتية أمريكية تتحدث عن تورط ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” في مقتل الصحفي السعودي وأحد كتاب صحيفة “واشنطن بوست” “جمال خاشقجي” في قنصلية بلاده بإسطنبول في أكتوبر 2018. أضف إلى ذلك ما خلفته الحرب من أزمة إنسانية، حيث تقدر بعض المصادر أن ما يقرب من ٥٠ ألف يمني قد قتلوا حتى الآن، ومن ضمنهم العشرات من المدنيين الذين قتلوا في الغارات الجوية السعودية باستخدام ذخائر أمريكية الصنع وفقًا لبعض التقارير الغربية والأمريكية التي تشير إلى أن القصف الذي تشنه قوات التحالف العربي والحصار المستمر أدى إلى انهيار شامل لاقتصاد البلاد، وأن ما يقرب من عشرة ملايين يمني يعيشون على شفا المجاعة، بينما يُعاني الآلاف من تفشي الأوبئة مثل الكوليرا التي تنتشر وسط الكارثة الإنسانية اليمنية الأكبر في العالم بحسب الأمم المتحدة.
ولهذا، يرى كثير من المشرعين الديمقراطيين وبعض الجمهوريين بمجلسي النواب والشيوخ أن غياب الدعم الأمريكي لقوات التحالف العربي قد يجبر المملكة العربية السعودية على إنهاء الحرب اليمنية.
أسباب رفض “ترامب”
رفض الرئيس الأمريكي جهود المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين للتأثير على سياسات إدارته تجاه المملكة العربية السعودية والحرب التي تقودها ضد الحركة الحوثية في اليمن لجملة من الأسباب، ذكرها في رسالته لمجلس الشيوخ بشأن استخدامه حق النقض على القرار المشترك لمجلسي الكونجرس. وتتمل هذه الأسباب فيما يلي:
أولًا- عدم مشاركة القوات العسكرية الأمريكية في الأعمال القتالية باليمن: أكد الرئيس وعدد من المسئولين السياسيين والعسكريين بالإدارة الأمريكية أكثر من مرة أن القوات الأمريكية لا تشارك في الأعمال القتالية الدائرة في اليمن، أو التي تؤثر عليها، باستثناء عمليات مكافحة الإرهاب ضد تنظيمي “القاعدة في شبه الجزيرة العربية” و”داعش”.
وقد ذكر “ترامب” في رسالته أنه ما من أحد من أفراد القوات الأمريكية يقوم بقيادة القوات العسكرية للتحالف الذي تقوده السعودية، أو تتشارك معها في القيادة، أو ترافقها في عملياتها العسكرية في اليمن، أو التي تؤثر عليها. وقصر الدور الأمريكي منذ بداية العمليات العسكرية في عام ٢٠١٥ على تقديم الدعم المحدود للدول الأعضاء في التحالف، من خلال مشاركة المعلومات الاستخباراتية والدعم اللوجيستي وتعبئة وقود الطائرات غير الأمريكية أثناء التحليق، والتي تم توقفها حسبما أعلنت وزارة الدفاع في العاشر من نوفمبر 2018.
ثانيًا- حماية حياة الأمريكيين ببعض دول التحالف: ذكر “ترامب” في رسالته أن الدعم الأمريكي لقوات التحالف العربي يهدف لحماية حياة أكثر من ٨٠ ألف أمريكي يقيمون في بعض دول التحالف، لأن الحوثيين يستخدمون بدعم من إيران الصواريخ والطائرات بدون طيار والقوارب المتفجرة لاستهداف مناطق مدنية وعسكرية في مناطق يقصدها المواطنون الأمريكيون.
ثالثًا- محاولة إضعاف سلطات الرئيس الدستورية: يرى “ترامب” أن القرار المشترك بما تضمنه يُعد تدخلًا في سلطته الدستورية بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة. وكذلك إضعاف قدرات القوات العسكرية الأمريكية على إدارة الاشتباكات العسكرية بكفاءة وفاعلية، والانسحاب بطريقة منظمة في الوقت المناسب.
رابعًا- تقويض جهود الولايات المتحدة للحفاظ على استقرار وأمن منطقة الشرق الأوسط، حيث إن القرار المشترك -وفقًا لرؤية الرئيس “ترامب”- يضر بالعلاقات الثنائية للولايات المتحدة مع حلفائها بالمنطقة، وجهود الإدارة المستمرة لمنع الإصابات بين المدنيين، ومنع انتشار التنظيمات الإرهابية والمتطرفة مثل تنظيمي “القاعدة” و”داعش”. ناهيك عن أنه يشجع السلوك الإيراني “الخبيث” في اليمن، ودور طهران الإقليمي المزعزع للاستقرار والأمن في الشرق الأوسط.
خامسًا- أن السلام هو سبيل إنهاء الصراع في اليمن: لا يرى الرئيس “ترامب” أن الخطابات السياسية مثل “القرار المشترك” هي السبيل لحل الصراع اليمني الذي يحتاج إلى تسوية يتم التفاوض عليها، ولكن قدرات الولايات المتحدة في مشاركة شركائها الإقليميين لدعم عملية السلام في اليمن بقيادة الأمم المتحدة مقيدة؛ لترك مجلس الشيوخ -بحسب الرئيس الأمريكي- مناصب دبلوماسية رئيسية شاغرة. ولهذا فقد دعا المجلس إلى التحرك للموافقة على المرشحين لتولي المناصب المهمة في مجال السياسة الخارجية الأمريكية للمساعدة في حل الصراعات، ومنع وقوع ضحايا مدنيين، وتعزيز جهود استعادة الرهائن الأمريكيين في اليمن، وهزيمة الإرهابيين الساعين لإلحاق الأذى بالولايات المتحدة.
وقد أثار استخدام الرئيس “ترامب” حقَّ النقض على القرار المشترك لمجلسي الشيوخ والنواب، حالةً من الغضب بين المشرعين الأمريكيين، حيث قال السيناتور الديمقراطي “تيم كين” إنه “يظهر للعالم أن الرئيس ترامب مصمم على الاستمرار في دعم حرب تقودها السعودية تسفر عن مقتل الآلاف من المدنيين، وتدفع الملايين إلى حافة المجاعة”. وأضاف منتقدو إدارة “ترامب” أن استخدام الرئيس حقَّ النقض يشجع النظام السعودي على تبني سياسات متهورة، والاستمرار في “حربه الوحشية” في اليمن على حساب القيم الإنسانية الأساسية والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
أدوات الكونجرس لاستعادة دوره
أدوات الكونجرس لاستعادة دوره
يحاول الكونجرس منذ فترة ليست بالقصيرة استعادة دوره في عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية، لا سيما إذا كان الرئيس يتخذ قرارات تتعارض مع الأسس التقليدية لتوجهات الولايات المتحدة الخارجية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتهدد مكانة واشنطن في النظام الدولي كقوة مهيمنة، وكذلك المؤسسات والشركات الدولية التي تخدم بالأساس المصلحة والأمن القومي الأمريكي.
وقد تنوعت أدوات المؤسسة التشريعية لاستعادة دورها كقوة مؤثرة في القرار الأمريكي الخارجي، ومعادلة نفوذ السلطة التنفيذية إذا كانت تشذ عن القيم والمبادئ التي حكمت السياسة الخارجية على مدار سبعة عقود مضت. وتتمثل أولى تلك الأدوات في محاولات الكونجرس استعادة سلطته الدستورية بإعلان الحرب، أو التفويض بمشاركة القوات الأمريكية في النزاعات والصراعات الخارجية. وقد تزايدت تلك المحاولات مع تزايد أعداد المشرعين الرافضين لإرسال الرئيس “ترامب” مثل الرؤساء الأمريكيين السابقين قوات للمشاركة في حرب خارجية دون الحصول على موافقة المؤسسة التشريعية، في محاولة لاغتصاب حقه الدستوري، حيث يستغل التفويض باستخدام القوة العسكرية الذي مُنح مباشرة لإدارة الرئيس السابق “جورج بوش” الابن في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠١١ لتوجيه قوات أمريكية لشن عمليات عسكرية ضد أي منظمة ترتبط بتنظيم “القاعدة” المتهم بتنفيذ تلك الهجمات الإرهابية، في توريط للقوات الأمريكية في أعمال قتالية لم يُخوّل الكونجرس الرئيسَ بإشراك الجنود الأمريكيين فيها. وما يزيد من رفض المشرعين لتلك الحرب أنها أدت إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة، وفقًا للكثير من التقارير الحقوقية الغربية.
وعلى الرغم من صعوبة تخطي الكونجرس الأمريكي فيتو الرئيس على القرار المشترك بشأن الحرب اليمنية، لأن نسبة المؤيدين له لا تتخطى ثلثي الأعضاء؛ إلا أن تصويت مجلسي الشيوخ والنواب للمرة الأولى في التاريخ الأمريكي على إنهاء مشاركة القوات العسكرية الأمريكية غير المصرح بها في نزاع أجنبي، يحمل رسالة إلى الرئيس “ترامب” بأن الكونجرس -وليس هو- من يملك حق إعلان الحرب والتفويض بإرسال القوات الأمريكية للمشاركة في القتال خارج أراضي الولايات المتحدة، وكذلك رفضه انخراط القوات العسكرية الأمريكية في النزاع اليمني.
ومع فشل خطوة وقف الكونجرس الدعم الأمريكي لقوات التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية من خلال قرار ملزم؛ فإنه يملك جملة من الأدوات الأخرى للتأثير على السياسة الأمريكية تجاه الرياض، ومنها قيام المشرعين بمنع صفقات أسلحة جديدة لها، وفرض عقوبات على مسئولين سعوديين يعتقد أنهم متورطون في مقتل الصحفي “خاشقجي”، وكذلك المتورطين في حصار شحنات الإمدادات الإنسانية إلى اليمن. فضلًا عن تمرير مشاريع قوانين تتصدى لانتهاكات حقوق الإنسان التي تتحدث عنها تقارير المنظمات الحقوقية الدولية. وكذلك خفض المخصصات المالية الدفاعية المتعلقة بالدعم العسكري الأمريكي لقوات التحالف العربي في اليمن.
وتمنح سلطة (المحفظة) الكونجرس سلطات تسمح له بأن يضغط على الرئيس لإنهاء التدخلات العسكرية الخارجية التي يرى المشرعون أنها غير ضرورية، أو لا تتوافق مع الأمن القومي والمصلحة الأمريكية. فبمجرد قطع التمويل يمكن للمؤسسة التشريعية أن تجبر الرئيس من الناحية القانونية على إعادة القوات الأمريكية من منطقة الصراع وإنهاء مهمتها.
وقد ظهرت مؤشرات عدة على تحدي الكونجرس لسياسات وقرارات الرئيس الأمريكي، ومنها رفض اقتراحه بخفض المخصصات المالية لوزارة الخارجية إلى الثلث خلال عامه الأول في البيت الأبيض، حيث رفض الجمهوريون والديمقراطيون الاقتراح، واستخدموا سلطتهم في وضع ميزانية تحمي تمويل الدبلوماسية الأمريكية.
وفي عام ٢٠١٧ أقر الكونجرس بأغلبية ساحقة مشروع قانون يفرض عقوبات على روسيا بسبب تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أُجريت في نوفمبر ٢٠١٦. وعلى عكس مشاريع القوانين المماثلة لم يضمن هذا المشروع نصًّا يسمح للرئيس بالتنازل عن العقوبات من جانب واحد. كما أيد المشرعون قرارات تؤكد دعم الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو)، حيث تقدم مجموعة من الحزبين في العام الماضي بتشريع يمنع الرئيس من ترك الحلف بدون موافقة مجلس الشيوخ.
خلاصة القول، على الرغم من مناورات الكونجرس لاستعادة دوره وسلطاته الدستورية في عملية صنع السياسة الخارجية، وموازنة دور الرئيس؛ إلا أن الأخير لا يزال يحتفظ بنفوذ هائل في صياغة القرار الأمريكي الخارجي، وقد تنامى بمرور الوقت بغض النظر عن الضوابط والتوازنات المنصوص عليها في الدستور الأمريكي.
وهذا هو الحال فيما يتعلق بإرسال القوات الأمريكية للمشاركة في الأعمال القتالية في الخارج؛ فمع أن الدستور يمنح المؤسسة التشريعية سلطة إعلان الحرب، والجهود المتضافرة التي يبذلها المشرعون الأمريكيون لاستعادة الكونجرس نفوذه في إعلان الحرب، وارسال القوات الأمريكية إلى الخارج؛ فإنهم فشلوا في التوصل إلى صيغة بديلة لتفويض عام ٢٠٠١ الذي يجيز استخدام القوة العسكرية في الخارج، والذي استخدمه الرؤساء السابقون (جورج دبليو بوش، وباراك أوباما) لتبرير الأعمال العسكرية في الخارج التي تتجاوز النزاعات المرتبطة بهجمات الحادي عشر من سبتمبر.