بعد مرور عام على الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (٥+١) في منتصف يوليو ٢٠١٥، وحملة الضغط على طهران بإعادة فرض العقوبات، التي تم رفعها بموجب الاتفاق، وفرض أخرى جديدة ليس على النفط والاقتصاد الإيراني، ولكن على شركائها التجاريين؛ صعّدت الإدارة الأمريكية من ضغوطها على النظام الإيراني بإرسال حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس أبراهام لينكولن”، وفرقة من قاذفات القنابل، وبطارية صواريخ باتريوت، إلى مياه الخليج العربي. وفي المقابل، يمارس النظام الإيراني حملة ضغط مضادة، الأمر الذي دفع البعض إلى توقع نشوب مواجهة عسكرية بين الطرفين.
بيد أن بعض التقارير الصحفية الأمريكية التي استندت إلى تصريحات لمسئولين أمريكيين لم تُسمِّهم تشير إلى انقسام داخل الإدارة الأمريكية حول التصعيد العسكري ضد إيران. ويثير ذلك تساؤلات حول ما إذا كانت الولايات المتحدة جادة في توجيه ضربة عسكرية ضد النظام الإيراني؟ وإذا لم يكن الرئيس “دونالد ترامب” يرغب في صراع عسكري مع طهران، فما الهدف من التحركات العسكرية، وإعادة انتشار القوات الأمريكية في مياه الخليج العربي؟.
معوقات أمريكية للحرب
على الرغم من التصعيد المتبادل بين الولايات المتحدة وإيران، ودفع بعض مستشاري الرئيس “ترامب”، وفي مقدمتهم مستشار الأمن القومي “جون بولتون”، للاشتباك مع الأخيرة؛ فإن احتمالات المواجهة العسكرية بينهما تتراجع، ليس لأن الدولتين حريصتان على تجنبها، ولكن لجملة من الأسباب الأمريكية، التي تتمثل فيما يلي:
أولًا- حرص الرئيس الأمريكي “ترامب” على إنهاء انخراط القوات الأمريكية في حروب وصراعات منطقة الشرق الأوسط، حيث أوضح أكثر من مرة منذ أدائه اليمين الدستورية في العشرين من يناير 2017 أنه يريد إنهاء الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة في المنطقة، وليس بدء حرب جديدة. ففي ديسمبر الماضي أعلن “ترامب” عن سعي إدارته لسحب القوات الأمريكية من سوريا، وتخفيض عدد القوات الأمريكية المتواجدة في أفغانستان إلى النصف، وعدم رغبته في مزيد من المشاركة في الحرب الأهلية اليمنية. وتتفاوض الإدارة الأمريكية حاليًّا مع حركة “طالبان” لإنهاء أطول حرب خاضتها القوات العسكرية الأمريكية خارج أراضي الولايات المتحدة. وفي هذا الشأن، نفى الرئيس الأمريكي تقارير صحفية تتحدث عن نية إدارته إرسال 120 ألف عسكري إلى الشرق الأوسط لمواجهة إيران.
ثانيًا- خبرة فوضى العراق: فليس هناك من شكٍّ لدى الكثيرين بشأن انتصار الولايات المتحدة في أي حرب ستخوضها ضد إيران، ولكن هناك تخوفات من نتائجها، حيث سيصاحبها انهيار النظام الإيراني، الأمر الذي من شأنه أن يخلق ذات الفوضى والصراع الداخلي الذي شهدته الدولة العراقية في أعقاب الحرب الأمريكية ضد نظام “صدام حسين” في مارس 2003. وتذهب تحليلات أمريكية إلى أن الفوضى التي ستشهدها طهران ستتفوق على تلك التي شهدتها بغداد، لأن إيران بها ثلاثة أضعاف عدد سكان العراق، وأربعة أضعاف مساحتها، وخمسة أضعاف مشكلاتها.
وبجانب درس الحرب الأمريكية في العراق، تتصاعد المخاوف داخل الولايات المتحدة من أن يتلاعب مسئولو إدارة “ترامب”، وخاصة مستشار الأمن القومي “بولتون”، في تقارير الاستخبارات الأمريكية حول التهديد الإيراني، وتقديم معلومات كاذبه لدفع واشنطن لخوض حرب ضد طهران كما فعلت إدارة “جورج دبليو بوش” في عام ٢٠٠٢؛ لتسويغ حربها ضد نظام “صدام حسين”.
ثالثًا- عدم حصول الرئيس “ترامب” على إذن من الكونجرس لخوض حرب ضد إيران: يسعى المشرّعون منذ فوز الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في السادس من نوفمبر الماضي لاستعادة المؤسسة التشريعية دورها الدستوري في إعلان الحرب، وتحريك الجنود الأمريكيين خارج أراضي الولايات المتحدة. وقد تمثل ذلك في تمرير مجلسي النواب والشيوخ لأول مرة منذ صدور قانون سلطات الحرب لعام ١٩٧٣ قرارًا مشتركًا يدعو الرئيس الأمريكي إلى سحب القوات الأمريكية من المشاركة في الأعمال القتالية الدائرة في اليمن التي تقودها المملكة العربية السعودية ضد الحركة الحوثية منذ مارس ٢٠١٥، أو التي تؤثر عليها. لكن “ترامب” استخدم حقه الدستوري (الفيتو) في معارضته للقرار.
ولهذا، حذر السيناتور الديمقراطي بلجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ “بوب مينينديز” إدارة الرئيس “ترامب” من أي إجراء عسكري بدون موافقة المشرعين، حيث قال إن الكونجرس لم يصرح بالحرب ضد إيران. وأضاف أن على الإدارة إذا ما كانت تفكر في القيام بعمل عسكري ضد طهران أن تحصل على موافقة السلطة التشريعية قبل القيام به.
وفي خضم أجواء التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران، أرسل أربعة مشرعين أمريكيين (السيناتور “كريس فان هولين”، و”إد ماركي”، و”جيف ميركلي”، و”بيرني ساندرز”) رسالة إلى الرئيس “ترامب” يعربون فيها عن قلقهم من تضخيم التهديدات الإيرانية، وتشويه التقارير الاستخباراتية عن طهران، ودفع الولايات المتحدة إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط.
ويقول أعضاء مجلس الشيوخ الأربعة، إن تقييمات الإدارة الأمريكية بشأن طموحات إيران النووية “غير متسقة”. ويدللون على ذلك بما قاله مدير الاستخبارات الوطنية “دان كوتس” بجلسة استماع في يناير الماضي بأنه لا يعتقد أن إيران تقوم حاليًّا بالأنشطة الرئيسية لإنتاج قنبلة نووية. وفي فبراير الماضي، دعمت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تأكيدات “كوتس”.
لكن معارضة الكونجرس للتحركات العسكرية ضد إيران قد تقلّ بعد أن يُطلِعَ وزيرا الخارجية “مايك بومبيو” والدفاع بالوكالة “باتريك شاناهان” المشرّعين على التهديدات التي تمثّلها إيران للمصالح الأمريكية وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط.
رابعًا- رفض الرأي الأمريكي خوضَ الولايات المتحدة حربًا جديدة في الخارج: بعد التكلفة الباهظة (البشرية والمالية) التي تكبدتها نتيجة حربها في أفغانستان (٢٠٠١) والعراق (٢٠٠٣) أضحى الرأي العام الأمريكي لا يدعم خوض القوات الأمريكية مواجهات عسكرية في الخارج، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، لأن التدخل العسكري الأمريكي خلال العقدين الماضيين أخفق في تحقيق الاستقرار والأمن بها. وخلال آخر ثلاثة انتخابات رئاسية أيد الأمريكيون المرشح الذي وعد بسياسة خارجية أقل تدخلًا في شئون الدول، وتقليل الانخراط العسكري الأمريكي في الصراعات الخارجية.
ومع قرب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر من العام القادم، لن يكون في مصلحة الرئيس “ترامب”، الذي يسعى لفوز بفترة رئاسية ثانية، توريط الولايات المتحدة في حرب جديدة في منطقة الشرق الأوسط، قد تكلفه خسارة الانتخابات، وقاعدته الانتخابية التي تعارض أن تخوض واشنطن حربًا جديدة في منطقة الشرق الأوسط.
استراتيجية مزدوجة
تتبنى إدارة الرئيس “دونالد ترامب” استراتيجية مزدوجة تجاه إيران. يقوم محورها الأول على استمرار حملة الضغط المتزايدة على طهران بعد انسحابها الأحادي من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية، وتسمية الحرس الثوري وبعض الميليشيات الشيعية التابعة لها على أنها “منظمات إرهابية”.
ويؤسس المحور الثاني على ردع النظام الإيراني عن اتخاذ خطوات تصعيدية أو تهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة ردًّا على استمرار حملة التصعيد الأمريكي ضده، بإعادة نشر قواتها في المنطقة، وتأهبها للرد على أي تهديد إيراني بشن ضربات عسكرية ضد طهران والميليشيات التابعة لها المنتشرة في عدد من الدول العربية، وهو ما عبرت عنه تغريدة للرئيس “ترامب” في التاسع عشر من مايو الجاري، قال فيها: “إذا أرادت إيران القتال، فستكون هذه نهايتها الرسمية”.
ولا تهدف الولايات المتحدة من نشر بعض القطع العسكرية والأفراد في مياه الخليج العربي إلى شن حرب عسكريّة ضد إيران، بحسب تصريحات العديد من المسئولين الأمريكيين، وفي مقدمتهم الرئيس “ترامب” الذي صرح خلال لقائه مع الرئيس السويسري “أولي ماورر”، الذي تلعب بلاده دور الوسيط الدبلوماسي بين الولايات المتحدة وإيران، بأنه يأمل ألا تكون واشنطن في طريقها لخوض حرب مع طهران، وإنما لاستعادة الردع ضدها، والذي فقدته الولايات المتحدة بسبب الاتفاق النووي بحسب تصريح “براين هوك” المبعوث الأمريكي الخاص إلى إيران، وذلك لإجبار النظام الإيراني على الموافقة على اتفاق نووي أكثر صرامة من الاتفاق القائم الآن، أو تهيئة ظروف حرجة بدرجة كافية للإيرانيين الساخطين ليطيحوا بحكومتهم.
وفي إطار التوجه الأمريكي لاستعادة قدرة الولايات المتحدة على ردع إيران، يحاول مسئولو الإدارة الأمريكية إيصال رسالة واضحة لقادة إيران بأن أي هجوم على المصالح الأمريكية سيُواجَه بانتقام ساحق، وأن عليهم ألا يحاولوا القيام بذلك. وفي هذا الشأن قال “هوك” إن “العبء يقع على عاتق إيران لتتصرف كدولة طبيعية.. ولا يقع العبء علينا لتخفيف ضغطنا”.
البحث عن مخرج
بعد فترة من التصعيد ضد إيران، والذي أثار مخاوف الكثيرين داخل الولايات المتحدة وخارجها، يسعى الرئيس “ترامب” إلى كبح جماح تيار المواجهة مع طهران داخل إدارته بإعطاء الدبلوماسية الأمريكية فرصة للبحث عن طرق لنزع فتيل التوترات.
وفي إطار البحث عن مخرج للتصعيد المتبادل بين الولايات المتحدة وإيران، تَوَاصَلَ وزير الخارجية “مايك بومبيو” مع السلطان “قابوس بن سعيد”، سلطان سلطنة عمان، التي كانت منذ فترة طويلة وسيطًا بين الغرب وإيران، ومقر قناة اتصال سرية في عام 2013 عندما كانت إدارة “باراك أوباما” تتفاوض على اتفاق نووي مع طهران. وقد أعلنت “حنينة المغيري” سفيرة السلطنة بالولايات المتحدة عن استعداد بلادها للتوسط بين واشنطن وطهران. وبعد أربعة أيام من اتصال “بومبيو”، زار وزير خارجية عُمان “يوسف بن علوي”، إيران في العشرين من مايو الجاري في إطار جهود السلطنة لحلحلة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، ومنع نشوب مواجهات كثيرة بينهما.
وتقوم العراق التي تربطها علاقات بين الولايات المتحدة وإيران بوساطة بين الطرفين لإنهاء التوتر بينهما قبل أن يصل إلى مواجهات عسكرية تزيد من عدم الاستقرار بالمنطقة، ولأن بغداد ستكون أول المتأثرين في حال اندلاعها.
كما طلب “بومبيو” من المسئولين الأوروبيين المساعدة في إقناع إيران بخفض التوترات التي تصاعدت بعد أن أشارت الاستخبارات الأمريكية إلى أن طهران وضعت صواريخ على قوارب صغيرة في الخليج العربي، الأمر الذي أثار المخاوف من أن يشن النظام الإيراني ضربات عسكرية ضد قوات الولايات المتحدة بالمنطقة أو ممتلكاتها أو تلك الخاصة بحلفائها. وخلاصة القول، رغم التصعيد المتبادل بين الولايات المتحدة وإيران، وإعلان مسئولي الدولتين أن دولتهما لا ترغبان في الدخول في حرب؛ إلا أن الاستراتيجية التي تتبناها إدارة “ترامب” محفوفة بالمخاطر، وقد تقود إلى اشتباك عسكري غير مقصود في ظل تزايد ضغط واشنطن على طهران، ونشر قوات عسكرية أمريكية إضافية في المنطقة، وممارسة النظام الإيراني بعض الممارسات الاستفزازية التي تهدف لردع الولايات المتحدة عن شن هجوم عسكري ضده أو الميليشيات التابعة له. ولتيقن الطرفين من خسارتها في أي مواجهة عسكرية، فإنهما لم يغلقا باب الحوار الدبلوماسي أو يرفضا الوساطات التي قد تُنهي التصعيد المتبادل بينهما.