تُعتبر العقوبات الاقتصادية إحدى أهم أدوات السياسة الخارجية الأمريكية وأشدها تأثيرًا، إذ إنها تُفقد الدولة المُستهدفة اتصالها بأكبر اقتصادات العالم وأهم مراكزه المالية، ويستتبع ذلك خسارتها جُزءًا كبيرًا من إمكاناتها ومُميزاتها الاقتصادية وقدرتها على جذب رؤوس الأموال الأجنبية. لذا، دأبت الإدارات الأمريكية -على اختلاف توجهاتها- على استخدام العقوبات الاقتصادية في حالة فشل الأدوات الدبلوماسية في تحقيق أهدافها.
في هذا السياق، وبدءًا من عام 1979 فرضت الولايات المُتحدة عقوبات اقتصادية على عددٍ من الدول، مثل: إيران، وكوريا الشمالية، وروسيا، وانتهاءً بتعميق العقوبات المفروضة على فنزويلا في يناير 2019، لتطال قطاع النفط، وخاصة شركة PDVSA النفطية المملوكة للحكومة.
وفي حالة إيران، أعلن الرئيس “ترامب” في 8 مايو 2019، أن الولايات المتحدة ستتوقف عن تنفيذ التزاماتها المُقررة بموجب اتفاق “خطة العمل الشاملة المتعددة الأطراف” (JCPOA) الموقّع في 2015 (الاتفاق النووي). وفي 5 نوفمبر، عادت إلى حيز التنفيذ جميع العقوبات الأمريكية السابقة التي توقفت بفعل الاتفاق على جميع الشركات التي تُجري معاملات مع أي من القطاعات الاقتصادية الأساسية الإيرانية، بما في ذلك الطاقة والبنوك والشحن والنقل البحري. كما تشتمل هذه العقوبات المعاملات المتعلقة بالنفط والمعاملات التي تُجريها البنوك الأجنبية مع البنك المركزي الإيراني.
ويحاول هذا المقال تناول أهم العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، وتحديد تأثيرها الحالي والمستقبلي على الاقتصاد الإيراني، والوقوف على مدى قدرة النظام الإيراني على استيعاب وتحمل هذه العقوبات في ظل الضغوط الأمريكية المُتزايدة على إيران، اقتصاديًّا وعسكريًّا.
أربعون عامًا من العقوبات
شهدت العلاقات الأمريكية الإيرانية توترات مُستمرة مُنذ سبعينيات القرن العشرين، حينما أنهت الثورة الإسلامية الإيرانية حُكم الشاه، واحتجزت دبلوماسيين أمريكيين كرهائن بعد اقتحام السفارة الأمريكية في طهران، حيث قامت إدارة الرئيس “جيمي كارتر” على إثر ذلك بفرض أول عقوبات اقتصادية على إيران، استهدفت منع الصادرات الإيرانية إلى الأسواق الأمريكية، وتجميد ما قيمته 12 مليار دولار أصولًا إيرانية في حوزة مؤسسات أمريكية، وفرض حظر شبه شامل على التجارة مع المؤسسات الإيرانية. وقد جاءت هذه العقوبات في إطار ما أُطلق عليه سياسة الطريقين Dual Track Policy، التي استهدفت تغيير سلوك النظام الإيراني الجديد.
وقد توالت العقوبات الاقتصادية على إيران طوال الأربعين عامًا الماضية، سواء كانت أمريكية أو أوروبية، أحادية الجانب أو أُممية، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المُتحدة، لكن النقلة النوعية في هذه العقوبات حدثت في عام 1996 عندما فرضت إدارة الرئيس “بيل كلنتون” حظرًا شاملًا على التجارة والاستثمار الأمريكيين في إيران، وهددت بفرض عقوبات على المستثمرين من دول أخرى في قطاع الطاقة الإيراني. ثم حدث تطور نوعي ثانٍ عام 2010 عندما تبنى الكونجرس الأمريكي قانون “العقوبات الشاملة والمحاسبة والإغلاق في إيران” أو ما عرُف اختصارًا بـ CISADA، الذي شدد العقوبات الأمريكية ضد الشركات التي تقوم بالاستثمار في قطاع الطاقة الإيراني، وفرض عقوبات جديدة على الشركات التي تبيع النفط المكرر إلى إيران. تلا ذلك قانون آخر مرره الكونجرس في عام 2011 أُطلق عليه “قانون ترخيص الدفاع الوطني” NDAA، والذي سمح للإدارة الأمريكية بفرض عقوبات في عام 2012 لمُعاقبة البنوك الأجنبية إذا استمرت في إجراء المعاملات النقدية مع البنك المركزي الإيراني.
وقد حدثت الانفراجة الأكبر في تاريخ العقوبات على إيران ككل في أكتوبر 2015 حينما توصلت مع مجموعة (5+1) إلى “الاتفاق النووي” السابق الإشارة إليه، والذي توقفت بموجبه عن تخصيب اليورانيوم عند مستويات مُرتفعة، وتفكيك جزء أساسي من بنيتها النووية، مع الإبقاء على مخزوناتها من اليورانيوم المُخصب والماء الثقيل تحت مستويات مُعينة، في مُقابل رفع العقوبات المفروضة بسبب برنامجها النووي. وقد جددت إدارة “دونالد ترامب” هذا الإعفاء مرة أخرى وأخيرة في مايو 2017، وما لبثت هذه الانفراجة أن تبددت بسبب تصميم إدارة “ترامب” على إعادة التفاوض حول الاتفاق بهدف تضمينه التزامات إيرانية أكثر وضوحًا وتحديدًا حول برنامجها للصواريخ الباليستية، وهو ما رفضته إيران بشكل قاطع واستمرت في إجراء تجارب صاروخية استهدفت تطوير مداها وقُدراتها التدميرية، ما أسفر عن إعلان الولايات المتحدة في مايو 2018 الانسحاب من الاتفاق النووي. وقد صاحب ذلك إعادة فرض العقوبات الاقتصادية من جديد في أغسطس 2018 وتشديدها لتطال جميع قطاعات الاقتصاد الإيراني، بما في ذلك القطاعان المالي والنفطي في نوفمبر من العام نفسه.
ومع ذلك، مُنحت استثناءات لمدة ستة أشهر من هذه العقوبات الاقتصادية للمشترين الرئيسيين الثمانية للنفط الخام الإيراني (الصين، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان، وتركيا، وإيطاليا، واليونان) لحين إيجاد مصادر بديلة ولتجنب حدوث صدمة في أسواق النفط العالمية. وفي الأول من مايو 2019 أنهت الإدارة الأمريكية جميع هذه الاستثناءات، وأعلنت استهدافها تخفيض الصادرات النفطية الإيرانية لمستوى الصفر، ما أدى إلى وضع ضغوط غير مسبوقة على النظام الإيراني.
الانعكاسات الاقتصادية للعقوبات
طالت العقوبات مُعظم أوجه النشاط الاقتصادي الإيراني، فوضعتها تحت ضغطٍ هائل كان له تأثيره على النمو الاقتصادي مُقارنة بالظروف العامة التي يمتلك فيها الاقتصاد الإيراني العديد من الموارد والإمكانات الضخمة التي تؤهله ليكون ضمن الاقتصادات العشرين الكبار في العالم. ونشير فيما يلي إلى تأثير العقوبات بموجاتها المختلفة على الاقتصاد الإيراني.
1- معدل النمو الاقتصادي
كان التأثير الأهم للعقوبات على معدل النمو الاقتصادي، حيث تعرض هذا النمو لهزات عنيفة في كل مرة يتم فيها تطبيق العقوبات حتى السياسية منها. ففي مارس 2008، تبنى مجلس الأمن القرار رقم 1803 الذي طالب إيران بالتوقف عن تخصيب اليورانيوم، وكان الاقتصاد الإيراني قد حقق معدل نمو حوالي 10% خلال الرُبع الأخير من عام 2007، لينخفض إلى 4.5% خلال الرُبع الأول من 2008، وليدخل في مرحلة انكماش بمعدل اقترب من 4% خلال الرُبع الرابع من العام ذاته. وتكرر الوضع مع تبني الكونجرس مجموعة من العقوبات المفروضة خلال الفترة (2010-2012)، ليتحول الاقتصاد الإيراني من معدل نمو بلغ 12.3% خلال الرُبع الأول من عام 2010، إلى معدل انكماش بلغ 6.6% تقريبًا خلال الرُبع الأول من عام 2013. ومع توصل الأطراف إلى الاتفاق النووي، حقق الاقتصاد الإيراني معدل حوالي 16.8% خلال الرُبع الرابع من عام 2016 بعد أن كان قد حقق انكماشًا بلغ 5.4% خلال الربع الرابع من عام 2015. وقد توقع صندوق النقد الدولي حدوث انكماش اقتصادي في إيران قدره 6% في 2019 إثر الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي واستئناف العقوبات. ويوضح الشكل التالي تأثير العقوبات على مُعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الإيراني.
شكل رقم (2): تأثير العقوبات على مُعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الإيراني
2- معدل التضخم
كان التأثير الثاني الأهمّ للعقوبات على معدلات التضخم. فقد دفعت العقوبات هذه المعدلات في اتجاه الارتفاع لتصل إلى مُعدلات قياسية، خاصة بعد كُل تطبيق لعقوبات اقتصادية واسعة المدى. على سبيل المثال، كان معدل التضخم قد تراوح خلال النصف الأول من عام 2006 بين 8-10%، لكن عندما بدأ تكوين إجماع دولي لاستصدار قرار من مجلس الأمن بشأن البرنامج النووي، ارتفع معدل التضخم ليصل إلى 14% في ديسمبر من العام نفسه عقب صدور القرار رقم 1737. وقد عزز هذه الموجة من الارتفاعات صدور قرار مجلس الأمن رقم 1803 في عام 2008، لتبلغ هذه الموجة سقفها في أكتوبر من العام نفسه بمُعدل تضخم بلغ 29%. كذلك شهدت مُعدلات التضخم حركة صعود أخرى مع بدء تطبيق قانون “العقوبات الشاملة والمحاسبة والإغلاق في إيران” CSIADA في عام 2010 لترتفع من 12% في الربع الرابع من 2010 لتصل في يوليو 2013 إلى 47%. كما اتخذ المؤشر ذات المسلك مع انسحاب الولايات المُتحدة من الاتفاق النووي، ليلامس 40% في نوفمبر 2018. ويتوقع صندوق النقد الدولي استمرار تلك الموجة خلال عام 2019 لتصل مستويات التضخم في المتوسط إلى 37%. ويوضح الشكل التالي تطور معدل التضخم بالتزامن مع تطور موجات العقوبات.
شكل رقم (3): تطور معدل التضخم في إيران بالتزامن مع تطور موجات العقوبات
3- قطاع النفط
تُعتبر إيران أحد أهم اللاعبين في سوق الطاقة العالمية، إذ تمتلك رابع أكبر احتياطي من النفط الخام وثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم. وعلى الرغم من هذه الاحتياطات الوفيرة من النفط الخام، فقد تأثر إنتاجها بسنوات من نقص الاستثمار وتأثير العقوبات الدولية، فبالمقارنة مع المملكة العربية السعودية التي تمتلك إيران حوالي 60% من احتياطاتها من النفط، فإن إيران تُنتج 40% فقط مما تُنتجه المملكة. ويُشكل هذا القطاع عصب الاقتصاد الإيراني، لذا فإن الضغط عليه يضع الاقتصاد بالكامل في وضع الأزمة، وهو ما يفسر استهدافه من جانب الولايات المُتحدة وحلفائها، بالإضافة إلى استهداف القطاعات الخدمية المرتبطة به، مثل قطاع الشحن البحري والقطاع المصرفي، بهدف توليد أكبر قدر ممكن من الضغوط على النظام الإيراني. ففي نوفمبر 2011 عندما أصدر الكونجرس “قانون ترخيص الدفاع الوطني” NDAA مستهدفًا في الأساس البنك المركزي الإيراني ليحد من قُدرته على جمع إيرادات بيع النفط، كان الإنتاج الإيراني قد بلغ 3.6 ملايين برميل يوميًّا، لينخفض مُتأثرًا بهذه العقوبات إلى 3.13 ملايين برميل بحلول مايو 2012. ثم جاءت عقوبات أمريكية جديدة استهدفت قطاع التأمين على الشحن البحري مقرونةً بحظر أوروبي على استيراد النفط الإيراني في يوليو، لتُقلص الإنتاج إلى 2.7 مليون في أكتوبر من العام نفسه.
ومع تجميد العقوبات بفعل تطبيق الاتفاق النووي في 2015، ارتفع حجم الإنتاج الإيراني من النفط من 2.8 مليون برميل يوميًّا ليصل إلى 3.83 ملايين برميل في مايو 2018، ليتجه للانخفاض مرة أخرى مع انسحاب الولايات المُتحدة من الاتفاق في مايو من العام نفسه إلى 3.4 ملايين برميل يوميًّا بحلول سبتمبر 2018. ويتوقع صندوق النقد الدولي انخفاض هذه المُعدلات خلال عام 2019 إلى 2.5 مليون برميل يوميًّا. ويوضح الشكل التالي تأثير العقوبات على حجم إنتاج النفط الخام الإيراني.
شكل رقم (4): تأثير العقوبات على حجم إنتاج النفط الخام الإيراني
قدرة النظام الإيراني على تحمل العقوبات
تعتمد الموازنة العامة الإيرانية بشكل رئيسي على عائدات النفط، إذ تُشكل حوالي 40٪ من ميزانية الحكومة للعام المالي الحالي، حيث تتوقع الموازنة الحالية تصدير 1.54 مليون برميل يوميًّا من النفط الخام ومكثفات الغاز بسعر 54.1 دولارًا للبرميل، وذلك بإجمالي إيرادات قدرها حوالي 30.4 مليار دولار، تبلغ حصة الموازنة منها حوالي 24 مليار دولار، بينما يخصص الباقي لصندوق التنمية الوطني الإيراني. وتُعادل هذه الحصة تقريبًا إجمالي مخصصات الأجور والمعاشات للعاملين بالحكومة، والبالغ عددهم تقريبًا 4.6 ملايين موظف ومتقاعد وبعض العمال غير الحكوميين.
وتعني الأرقام السابقة أنه حال وصول الصادرات النفطية حد الصفر الذي تستهدفه الإدارة الأمريكية، فإن الحكومة الإيرانية لن تكون قادرة على الوفاء برواتب العاملين لديها أو المُتقاعدين، وهو ما سيُشكل ضغطًا لا يستطيع النظام تحمله بأي حال، الأمر الذي قد يدفع النظام إلى اختيار أحد طريقين؛ الأول: اللجوء إلى إصدار نقود دون غطاء نقدي، وهو ما سيسبب ارتفاعًا أكبر لمُعدلات التضخم وبشكل سريع، الأمر الذي سيُثير المزيد من السخط على النظام ويدفع بالمواطنين إلى الشوارع للاحتجاج. والثاني: اللجوء إلى السحب من الاحتياطي النقدي الذي يبلغ في الوقت الحالي وفقًا لآخر التقديرات 58 مليار دولار، وهو ما سيعجزها عن توفير النقد الأجنبي اللازم للواردات، ما يعني ارتفاع أسعار السلع نتيجة نقص المعروض، وبالتالي ارتفاع التضخم، وبالتالي موجة جديدة من التظاهرات والضغوط الشعبية.
ورغم ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه من غير المُحتمل نجاح الإدارة الأمريكية في تخفيض الصادرات النفطية إلى مستوى الصفر، وذلك لسببين. أولهما، قدرة النظام الإيراني على تهريب النفط بوسائل عديدة، في ضوء ما أكدته تقارير عديدة حول نجاح النظام في تهريب كميات تتراوح بين (0.1-0.3) مليون برميل يوميًّا منذ بدء سريان الحظر الكامل وانتهاء الإعفاءات. ثانيهما، عدم قُدرة الولايات المُتحدة حتى الآن على تحقيق إجماع دولي على العقوبات المفروضة على إيران، في ضوء استمرار وجود مُعارضة من جانب الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، وهو ما سيخلق مُتنفذًّا للصادرات الإيرانية لدى هذه الجهات الثلاث على الأرجح، خاصة روسيا والصين اللتين تعتمدان بشكل أساسي على الصادرات الإيرانية.
ومُحصلة ذلك أن النظام الإيراني قد يكون قادرًا على تحمل عبء هذه العقوبات حتى مُنتصف عام 2020 حال عدم الدخول في حرب مُباشرة، من بعدها ستبدأ سلسلة من الضغوط العمالية والشعبية التي لا يستطيع النظام مواجهتها بغير القوة المُفرطة، لكن ذلك مرهون بعدم تدخل أي من حلفاء إيران لإنقاذها من الوضع الحالي، سواء عن طريق مُساعدات اقتصادية أو دبلوماسية تُخفف من الضغوط الحالية.