تبنى الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” عقب قراره بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (5+1) في مايو 2018، استراتيجية “الضغوط القصوى” من أجل إرغام طهران على القبول بالتفاوض حول اتفاق نووي جديد، وكذلك حول برنامجها للصواريخ الباليستية، الذي يمثل تهديدًا لأمن حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بجانب تعديل السلوك الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة.
وتحدث “ترامب” في السادس عشر من الشهر الجاري عقب اجتماع مع مسئولين بإدارته عن احراز تلك الاستراتيجية تقدمًا كبيرًا في الملف الإيراني، حيث صرح بأن النظام في طهران يريد التحدث مع الولايات المتحدة. وفي الوقت الذي لم يذكر فيه الرئيس الأمريكي تفاصيل بشأن ذلك التقدم، تحدث وزير خارجيته “مايك بومبيو” عن استعداد الجمهورية الإسلامية للتفاوض بشأن برنامجها للصواريخ الباليستية لأول مرة.
وقد ذكر وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف” في مقابلة مع شبكة “إن بي سي” الإخبارية في الخامس عشر من يوليو استعداد إيران للتفاوض حول برنامجها الصاروخي بشرط وقف الولايات المتحدة مبيعاتها من الأسلحة وتقديم الدعم العسكري لمنافسي دولته الإقليميين (السعودية والإمارات). لكن المتحدث باسمه قال إن الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته قد أساءا تفسيرات تصريحات “ظريف”. ووصفت بعثة طهران بالأمم المتحدة تصريحات الوزير الإيراني بأنها “افتراضية”، وقال المتحدث باسمها “علي رضا مير يوسف” إن صواريخ إيران غير قابلة للتفاوض بأي شكل أو شرط.
وفي مقابل حديث الرئيس الأمريكي وعدد من صقور إدارته عن نجاح استراتيجية “الضغوط القصوى”، تكشف التطورات على أرض الواقع عن أنها تأتي بنتائج عكسية، حيث دفعت طهران إلى مزيدٍ من التصعيد، والضغط على الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين والدوليين من خلال أوراق الضغط المتعددة على تملكها. وحتى الآن لم تنجح جهود الإدارة الأمريكية في إرغام طهران على قبول التفاوض، أو تعديل سلوكها في المنطقة. وهو الأمر الذي دفع كثيرًا من الكتّاب والمحللين الأمريكيين خلال الأيام الماضية إلى الحديث عن فشل تلك الاستراتيجية.
ملامح الاستراتيجية الأمريكية
في إطار تبني الإدارة الأمريكية استراتيجية “الضغوط القصوى” ضد إيران، أعاد الرئيس “ترامب” فرض العقوبات الأمريكية التي كانت قد رُفعت في السابق عقب خطة توقيع العمل الشاملة المشتركة، التي استهدفت بالأساس قطاع النفط الإيراني الذي يُعد عصب اقتصاد الدولة، في محاولة لخفض صادرات طهران من النفط إلى الصفر. كما فرضت عقوبات ثانوية على كل من يُجري معاملات تجارية مع طهران، ومنعه من العمل داخل الولايات المتحدة.
ولم تقتصر العقوبات الأمريكية على النظام الإيراني فقط وقياداته ومصادر دخله، بل إنها طالت وكلاءه في المنطقة، وفي مقدمتهم “حزب الله” اللبناني والحوثيون في اليمن. كما صنفت إدارة “ترامب” الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية، وهي المرة الأولى التي تُصدر فيها واشنطن مثل هذا التصنيف بحق مؤسسة تابعة لحكومة دولة أخرى. وفي التاسع من يوليو الجاري، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على مسئولين في “حزب الله” مدعومين من إيران لتسهيل أجندة الحزب “الخبيثة” وتقديم خدمات لطهران، وفقًا لبيان الوزارة.
وفي إطار تطبيق الإدارة الأمريكية حملةَ “الضغوط القصوى” ضد النظام الإيراني، أرسلت الولايات المتحدة حاملة الطائرات “يو إس إس أبراهام لينكولن”، وسفينة حربية، وقاذفات من طراز “بي 52″، وبطارية صواريخ “باتريوت” إلى منطقة الخليج العربي لردع طهران عن اتخاذ أي خطوات تستهدف مصالح الولايات المتحدة أو حلفاءها في منطقة الشرق ردًّا على سياسة الإدارة الأمريكية تجاهها.
وفي أعقاب تهديد إيران للملاحة الدولية، وإسقاط طائرة استطلاع أمريكية بدون طيار، أعلن سلاح الجو الأمريكي إرسال مقاتلات من طراز F-22 إلى قاعدة “العديد” في قطر، لأول مرة بهدف حماية القوات والمصالح الأمريكية في منطقة عمليات القيادة المركزية للجيش الأمريكي.
وتسعى الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف عسكري دولي لحماية حركة الملاحة البحرية في كلٍّ من مضيق هرمز وباب المندب من أي اعتداءات محتملة قد تشنها قوات إيرانية أو الميليشيات المسلحة الموالية لها، والتي تنتشر في عددٍ من دول المنطقة.
وفي إطار المزيد من الضغط على إيران، فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات جديدة على شخصيات إيرانية بارزة على رأسها المرشد الأعلى “علي خامنئي” لكونه المسئول عن “السلوك العدواني” للنظام الإيراني، وقادة إيرانيون كبار في مؤسسة الحرس الثوري التي تقود أنشطة إقليمية تزعزع الاستقرار في المنطقة.
نتائج عكسية
أدت استراتيجية “الضغوط القصوى” التي تتبناها الإدارة الأمريكية تجاه إيران من أجل إرغامها على التفاوض على اتفاق نووي جديد، يزيد من القيود المفروضة على طموحها النووي غير السلمي، وتهذيب السلوك الإيراني في المنطقة، إلى نتائج عكسية، تتمثل أبرزها فيما يلي:
1- تشدد النظام الإيراني: عملت استراتيجية “الضغوط القصوى” التي تتبناها إدارة الرئيس “ترامب” على تقويض نفوذ التيار الإصلاحي داخل إيران، الذي يسعى إلى عدم تحول طهران إلى دولة “ثورية”، وهو هدف أمريكي على المدى الطويل كما أعلن وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” من قبل، في مقابل تزايد نفوذ تيار المتشددين الذين لا يثقون في الولايات المتحدة، ويعارضون التقارب معها.
2- التنصّل من بعض الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥: كان من المتوقع أن يؤدي الانسحاب الأمريكي أولًا من الاتفاق المُقيِّد للسعي الإيراني لامتلاك سلاح نووي، أن تتنصل طهران من بعض التزاماتها، ولا سيما مع تزايد العقوبات الأمريكية وسحب الشركات الأوروبية استثماراتها خوفًا من العقوبات التي ستفرضها عليها الإدارة الأمريكية في حال استمرارها في العمل داخل إيران، ما أثر سلبيًّا على اقتصاد الدولة، ومستويات معيشة المواطن الإيراني.
ولذلك، أعلنت إيران أنها ستتجاوز الحد المسموح لها بشأن مقدار الوقود النووي الذي يمكن أن تخزنه بموجب الاتفاق النووي، والمحدد بـ٣٠٠ كلجم. وبجانب ذلك، أعلنت أيضًا استئناف تخصيب اليورانيوم، وتجاوز الحد المسوح به (3.67%) في خطة العمل الشاملة المشتركة مع انتهاء مهلة الـستين يومًا التي حددتها طهران للدول الأوروبية للوفاء بالتزاماتها وفقًا للاتفاق. وقد أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن نسبة تخصيب اليورانيوم في إيران تجاوزت الحد المسموح به في الاتفاق النووي.
وفي إطار تصعيد الضغوط الإيرانية المضادة على الولايات المتحدة والقوى الأوروبية التي لم تلتزم من جانبها بالاتفاق النووي، بحسب الكثير من تصريحات المسئولين الإيرانيين، هدد “بهروز كمال فاندي” (المتحدث باسم وكالة الطاقة الذرية الإيرانية) بوصول نسبة التخصيب إلى 20% وأكثر من ذلك في حال استمرار المواقف الدولية الحالية من الاتفاق.
وتشير كثير من الكتابات الغربية إلى أن إعادة تخصيب إيران لليورانيوم قد يسمح لها على المدى الطويل بامتلاك برنامج نووي غير سلمي. ولكن النظام الإيراني حتى الآن بعيد عن الحصول على المواد والوسائل اللازمة لإنتاج سلاح نووي، فضلًا عن أنه لا يسعى للحصول على تلك القدرات راهنًا.
ولا ترى إيران أن تنصّلها من بعض الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاق النووي يشكل انتهاكًا مباشرًا لشروطه، لكنها تقول إنها تمارس حقها في الرد على الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق بصورة أحادية، وردًّا على ما تصفه “الإرهاب الاقتصادي” الذي تمارسه إدارة “ترامب” ضدها.
3- فقدان الولايات المتحدة دعم الحلفاء والقوى الكبرى: أدى قرار الرئيس “ترامب” بالانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي، وتهديد الإدارة الأمريكية حلفاءها الموقّعين على الاتفاق بفرض عقوبات ثانوية على شركاتها في حال استمرارها في إقامة علاقات تجارية واستثمارية مع طهران، إلى افتقاد واشنطن دعم الكثير من الحلفاء الأوروبيين والقوى الدولية كالصين وروسيا في تصعيدها ضد إيران، بل تبنيهم سياسات تتعارض مع توجهات الرئيس “دونالد ترامب” تجاه طهران.
4- تعزيز إيران لنفوذها في المنطقة: دفعت استراتيجية “الضغوط القصوى” إيران إلى استثمار وزيادة أوراق الضغط التي تملكها ضد الولايات المتحدة وحلفائها بزيادة دورها الإقليمي، المرفوض أمريكيًّا ومن الدول الخليجية الحليفة للولايات المتحدة، والعمل على تهديد أمنها واستقرارها بطرق مباشرة وغير مباشرة من خلال دعم الميليشيات الشيعية المسلحة الموالية لها. فضلًا عن تهديد الملاحة الدولية، واستهداف ناقلات النفط في منطقة الخليج العربي.
5- اتخاذ النظام الإيراني خطوات استفزازية لدفع الولايات المتحدة للانخراط العسكري مجددًا في منطقة الشرق الأوسط، في وقت تسعى فيه إدارة “ترامب” إلى الحد من انخراطها العسكري في أزمات المنطقة، ورفض الانخراط في حرب جديدة في الشرق الأوسط، ولا سيما مع بداية الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في نوفمبر من العام القادم (٢٠٢٠).
إخفاق الاستراتيجية الأمريكية
إن استراتيجية “الضغوط القصوى” التي تنتهجها إدارة الرئيس “ترامب” تجاه إيران، أخفقت بحسب الكثير من الكتابات الأمريكية لغياب الهدف الرئيسي من ورائها، وهو ما إذا كان إرغام طهران على القبول بالتفاوض حول اتفاق نووي جديد يقوض من فرص امتلاكها سلاحًا نوويًّا عسكريًّا، أم تغيير النظام الإيراني الحالي، أم احتواء النفوذ الإقليمي للجمهورية الإسلامية الذي يهدد أمن واستقرار الشرق الأوسط، وحلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج العربي.
وفي هذا السياق، يرى “جون ميرشايمر” (أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو) في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في الأول من يوليو الجاري تحت عنوان “إيران تهرع نحو بناء سلاح نووي، وترامب يعجز عن ردعها”، أن سياسات الإدارة الأمريكية التي تسعى إلى منع إيران من امتلاك أسلحة نووية تأتي بنتائج عكسية، حيث إنها تعطيها الحافز القوي للحصول على أسلحة نووية. فمبررات طهران اليوم لامتلاكها أقوى من أي وقت مضى، إذ تواجه الدولة تهديدًا وجوديًّا من الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. وهو الأمر الذي سيجعل -في الوقت ذاته- من الصعب على واشنطن بشكل متزايد منع حدوث ذلك.
ويُضيف “ميرشايمر” أنه من الصعب أن تستسلم إيران -على الأرجح- للمطالب الأمريكية، حيث لا يوجد دليل على ذلك، لأن السجل التاريخي يشير إلى أن القوة العظمى قد تفرض عقوبات هائلة على خصومها، لكنها نادرًا ما تتسبب في استلام الدولة المستهدفة. فضلًا عن أن الدول تُحجم عن الاستسلام للضغط القسري، لأنه قد يغري قوى أقوى منها لتصعيد مطالبها هي الأخرى ضدها.
خلاصة القول، إن تطورات التصعيد الأمريكي-الإيراني كشفت خلال الأيام الماضية عن مدى تخبط الإدارة الأمريكية، في الوقت الذي تخترق فيه إيران القيود النووية التي تضمنها الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥، بداية من تجاوز الحد الأقصى لإجمالي مخزون اليورانيوم المخصب الذي يُسمح بالاحتفاظ به، وتجاوز حد تخصيب اليورانيوم المنصوص عليه بالاتفاق. وقد كان هذا متوقعًا في أعقاب الانسحاب الأمريكي الأحادي من خطة العمل الشاملة المشتركة لعام ٢٠١٥.
وحتى وقتنا هذا، فشل الرئيس الأمريكي في إرغام إيران على الجلوس على طاولة المفاوضات من جديد، كما أخفق في إيجاد بديل أفضل للاتفاق النووي لعام ٢٠١٥، فضلًا عن أنه جعل الأمور أكثر سوءًا مما كانت عليه من قبل.