رغم إدانة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” للعنصرية والتعصب وتفوق البيض في أعقاب عمليَّتَيْ إطلاق النار اللتين وقعتا في “إل باسو” بولاية “تكساس” (٣ أغسطس الجاري) و”دايتون” بولاية “أوهايو” (٤ أغسطس الجاري) واللتين أودتا بحياة ما لا يقل عن ٣١ شخصًا، وتأكيده أن الكراهية ليس لها مكان في الولايات المتحدة؛ إلا أن تصريحاته وسياساته خلال ما يزيد عن عامين ونصف العام بالبيت الأبيض كانتا محفزتين لتزايد خطاب الكراهية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وتنامي المشاعر المعادية للمهاجرين بين البيض الذين صوتوا له في انتخابات الثامن من نوفمبر ٢٠١٦.
وتُشير كثير من التقارير إلى أن مرتكب حادث إطلاق النار بمدينة “إل باسو” الواقعة على الحدود مع دولة المكسيك، والتي يشكل الناطقون بالإسبانية فيها نحو 85% من سكانها، استخدم لغة “ترامب” العنصرية. حيث حذر في بيان له قبل الحادث نشره على موقع 8chan من “غزو” لاتيني لولاية “تكساس”، وهو ذات المصطلح الذي استخدمه الرئيس الأمريكي في وصف الهجرات اللاتينية إلى الولايات المتحدة.
خطاب “ترامب”
منذ توليه منصبه في العشرين من يناير ٢٠١٧، والرئيس “دونالد ترامب” يعمل بقوة على إذكاء الانقسام العرقي داخل الولايات المتحدة، بتضمين خطاباته وتصريحاته وكذلك تغريداته على حسابه بموقع “تويتر” مفردات عنصرية، تؤجج من التعصب بين الأمريكيين، وتدفع إلى انتشار خطاب الكراهية بينهم.
وتتجلى أبرز ملامح خطاب الرئيس الأمريكي المفعم بالعنصرية، والتعصب، والكراهية، وتفوق البيض، في انتقاداته بتغريدات على حسابه بموقع “تويتر” في منتصف يوليو الماضي لنائبات تقدميات ديمقراطيات بمجلس النواب يُطلق عليهنّ “الفريق Squad”، لكنه لم يسمّهن، بعد تشكيكه في انتمائهن الأمريكي. وقد طلب منهن العودة إلى بلدانهن الأصلية التي أتين منهن.
وعلى الرغم من عدم تسمية الرئيس للنائبات الأربع بمجلس النواب الأمريكي اللاتي يقصدهن بتغريداته؛ فإنها على الأرجح تشير إلى: “ألكسندريا أوكاسيو كورتنيز” من نيويورك، و”أيانا بريسلي” من ماساتشوستس، و”رشيدة طليب” من ميشيجان، والرابعة من مواليد الصومال وهي النائبة “إلهان عمر” من مينيسوتا.
وفي استمرار لاستهداف أعضاء بالكونجرس الأمريكي من أصول إفريقية، انتقد “ترامب” رئيس لجنة الرقابة في مجلس النواب “إيليا كامينجز”، المعارض للعديد من سياساته تجاه قضية الهجرة، حيث وصف منطقته الواقعة في “بالتيمور” بـ”فوضى مثيرة للاشمئزاز وموبوءة بالفئران والقوارض”.
ومع اندلاع أعمال العنف في مدينة “شارلوتسفيل” بولاية “فيرجينيا”، يومي 11 و12 أغسطس 2017، بين متظاهرين من القوميين البيض ومحتجين مناوئين لهم، والتي بلغت ذروتها بمقتل شخص وإصابة كثيرين عندما دهست سيارة أشخاصًا معارضين لمسيرة لليمين المتطرف؛ صرح “ترامب” بأن مسئولية تلك الأعمال تقع على الطرفين، وهو الأمر الذي أثار موجة غضب عارمة بين قادة الحزبين “الجمهوري” و”الديمقراطي” على حد سواء؛ لعدم إدانة الرئيس صراحة التصرفات العنصرية التي أضحت في ازدياد منذ انتخابه.
الرئيس الأمريكي يستخدم خطابًا عنصريًّا عند تناول قضية المهاجرين إلى الولايات المتحدة، وكثيرًا ما يستخدم لفظ “الغزو” لوصف المهاجرين وطالبي اللجوء اللاتينيين. على سبيل المثال، استخدم “ترامب” هذا اللفظ سبع مرات في دقيقة واحدة في تجمع لحملته الانتخابية لعام ٢٠٢٠ بولاية “فلوريدا” في ٩ مايو الماضي. وعندما سأل الجمهورَ عما يجب فعله حيال هذا “الغزو” صاح أحد الحضور: “أطلقوا النار عليهم”، وقد كان رد الرئيس هو الابتسام، ولم يعلن رفضه لتلك الإجابة.
وفي هذا السياق، يُشير تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن حملة “ترامب” للانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢٠ نشرت أكثر من ألفي إعلان على موقع “فيسبوك” تتضمن كلمة “غزو” ضمن مجموعة من الإعلانات التي تركز على الهجرة، وهي القضية التي يركز عليها الرئيس للفوز بولاية ثانية في نوفمبر من العام القادم. وقد استخدم “ترامب” الكلمة ذاتها في الإشارة إلى المهاجرين بصورة متكررة خلال تغريداته بحسابه بموقع “تويتر”.
تزايد العنصرية
أشارت كثير من استطلاعات الرأي الأمريكية إلى أن رئاسة “ترامب” خلال أول عامين لها زادت من توتر العلاقات العرقية داخل الولايات المتحدة، وأنها تعمل على زيادتها، حيث أظهر استطلاع للرأي لشبكة CBS الإخبارية في يناير من العام الجاري أن ستة من عشرة أمريكيين يرون أن العلاقات العرقية داخل الدولة سيئة بشكل عام.
وتاريخيًّا، لم تكن العلاقات العرقية داخل الولايات المتحدة متوترة بهذا الشكل، حيث كانت الرؤية الإيجابية لها مرتفعة مع تنصيب الرئيس السابق “باراك أوباما” في عام ٢٠٠٩، حيث أظهر استطلاع الرأي لشبكة CBS وصحيفة “نيويورك تايمز” أن ٦٦٪ من الأمريكيين يرون أنها كانت جيدة، ولكنها بدأت في التوتر بداية من عام ٢٠١٤، مع تزايد حالات إطلاق أفراد شرطة بيض الرصاص على مواطنين أمريكيين من أصول إفريقية.
ويرى الأمريكيون أن الرئيس “ترامب” يساهم في توتير العلاقات العرقية داخل المجتمع الأمريكي، حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه “مركز بيو للأبحاث”، ظهرت نتائجه في أبريل الماضي، أن ٥٦٪ من الأمريكيين يقولون إن “ترامب” جعل العلاقات العرقية داخل الولايات المتحدة أسوأ مما كانت عليه في السابق.
وكانت للأمريكيين تقييمات سلبية كذلك لتعامل “ترامب” مع الأقليات العرقية والإثنية والدينية. فوفقًا لنتائج استطلاع أجرته وكالة “أسوشيتد برس” بالتعاون مع مركز أبحاث بجامعة “شيكاغو” في فبراير من العام الماضي، فإن ما يقرب من ٦ من كل عشرة أمريكيين يعتبرون تصرفات “ترامب” ضارة بالمواطنين الإسبانيين والمسلمين. وقال نصفهم إنها كانت سيئة تجاه الأمريكيين من أصول إفريقية. وأظهرت نتائج الاستطلاع أن ٥٧٪ من الأمريكيين يعتبرون “ترامب” عنصريًّا.
وترتفع نسبة الأمريكيين الذين يرون أن “ترامب” أضر بالعلاقات العرقية بين الديمقراطيين، حيث أظهر استطلاع “بيو” أن ٨٤٪ منهم يعتقدون أنه قد ساهم في تدهور العلاقات العرقية. وتنخفض تلك النسبة بين الجمهوريين، بينما وافق اثنان من كل عشرة منهم على ذلك، ورأى ثلثهم أن الرئيس الأمريكي حقق تقدمًا نحو تحسين العلاقات العرقية، بينما قال الربع إنه حاول ولكنه فشل.
وفي هذا السياق، خلصت دراسة قام بها فريق من جامعة “شمال تكساس” مؤخرًا إلى أن المقاطعات التي استضافت حملة “ترامب” الانتخابية لعام 2016 شهدت زيادة بنسبة 226٪ في حوادث الكراهية المُبلّغ عنها، مقارنة بالمقاطعات المماثلة التي لم تستضف مثل هذا التجمع.
تداعيات على السياسة الخارجية
ترى “سوزان رايس” (السفيرة الأمريكية السابقة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة بإدارة “باراك أوباما” الأولى، ومستشارة الأمن القومي السابقة بالإدارة الثانية) في مقال بصحيفة “نيويورك تايمز” في السابع من أغسطس الجاري بعنوان: “عندما يكون الرئيس متعصبًا ينتشر السم”، أن السياسة العنصرية للرئيس “دونالد ترامب” داخل الولايات المتحدة، ومهاجمة الأقليات بها؛ تنال من مصداقيتها كدولة رائدة في الدفاع عن انتهاكات حقوق الإنسان في الخارج، خاصة قمع الأقليات في بلدان أخرى، وهو الأمر الذي من شأنه أن يزيد من انتهاكات الأنظمة الديكتاتورية حول العالم، لوجود رئيس بالبيت الأبيض يتبنى سياسات متشابهة تحط من شعبه.
كما ترى “رايس” أن أمريكا المنقسمة والضعيفة التي يدفع إليها الرئيس “ترامب”، تجعل الولايات المتحدة غير قادرة بشكل متزايد على الاتحاد في مواجهة التهديدات الخارجية، فضلًا عن أن منافسيها وخصومها -ولا سيما روسيا- يعملون بقوة على استغلال تلك الانقسامات ومفاقمتها لتقويض مصادر القوة الأمريكية، وهيمنتها على النظام الدولي.
وتؤكد “رايس” أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لا يزال يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتقويض الديمقراطية الأمريكية، وإثارة الصراعات الداخلية؛ من خلال إذكاء تطرف تيار تفوق البيض، والتضخيم من غضب الأمريكيين من أصول إفريقية من وحشية الشرطة في محاولة لقمع أصواتهم. وتخلص إلى أن تصدعات الداخل الأمريكي هي أكبر تهديد للأمن القومي الأمريكي.
قضية انتخابية
يستغل المرشحون الديمقراطيون المتنافسون للفوز ببطاقة الحزب في الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في نوفمبر 2020 حالة الغضب الأمريكي من تزايد جرائم العنصرية داخل المجتمع، وتزايد حوادث إطلاق النار التي تكشف عن تنامي خطاب الكراهية بين الأمريكيين، لتكون أولى قضاياهم الانتخابية لاستهداف “ترامب”، حيث ذكر المتنافس الديمقراطي ونائب الرئيس الأمريكي السابق “جون بايدن” في واحدة من أكثر الخطب النارية في حملته الانتخابية أن الرئيس الأمريكي بشكل صريح وضمني أذكى لهيب التفوق الأبيض داخل المجتمع الأمريكي بلغته وتصريحاته. ويضيف أنه يتردد كثيرًا في استخدام عبارة “التفوق الأبيض”، وإن استخدمها فإن ذلك لا يكون عن اقتناع؛ خوفًا من فقدان أصواتهم في الانتخابات الرئاسية القادمة.
وقد وصف “بيتو أوروك” (المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية القادمة، وعضو الكونجرس السابق عن “إل باسو”) الرئيسَ “ترامب” بأنه قومي أبيض، وأن خطاباته تذكره بألمانيا النازية. وقال “أوروك” في تصريحات لشبكة “سي إن إن” الإخبارية إن هناك رابطًا بين تعليقاته العدائية ضد المسلمين والمهاجرين والملونين وزيادة جرائم الكراهية داخل المجتمع الأمريكي.
ومن جانبها، تقول “إليزابيث وارين” (المرشحة الديمقراطية والسيناتور عن ولاية ماساتشوستس) إن “التفوق الأبيض ليس مرضًا عقليًّا”، وإنه يجب تسمية الأمور بأسمائها وهي “الإرهاب الداخلي”، وتدعو إلى إدانه الرئيس “دونالد ترامب” لتضخيم هذه الأيديولوجيات القاتلة.
خلاصة القول، إن خطابات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” وتغريداته على موقع “تويتر” تعملان على زيادة المشاعر المعادية للمهاجرين بين الأمريكيين، وتغذي نظريات المؤامرة لدى المؤمنين بتفوق البيض، حيث تَلقى تصريحاته تأييدًا بينهم، ما يولّد المزيد من جرائم العنف وجرائم الكراهية داخل المجتمع الأمريكي، وهو ما يخلّف عددًا من القتلى يفوق الذين قُتلوا في الهجمات الإرهابية التي شهدتها الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، وهو الأمر الذي سيؤثر في التحليل الأخير على الدور الدولي للولايات المتحدة، وعلى كونها دولة رائدة في الدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات.