يرى البعض أن وصول “بوريس جونسون” لرئاسة الحكومة البريطانية، بعد انتخابه رئيسًا لحزب المحافظين الحاكم، يعكس طلبًا لقطاعات بريطانية وأوروبية بتبني سياسات ترامبية، وبزعامات لها كاريزما تشبه كاريزما “ترامب” المبنية على “تسفيه” النخب، والإعلاء من شأن القومية المتعصبة. ويُقال أيضًا إن “جونسون” يتبنى نفس خطاب “ترامب”، ونفس السياسات الحمائية الرافضة للعولمة والكارهة للهجرة. لكن مثل هذه المقولات لا تصمد كثيرًا أمام اختبارات الواقع؛ فالشخصيتان وسياساتهما تلتقيان وتتشابهان في القليل وتختلفان في الكثير أيضًا.
ويسوق المدافعون عن فكرة التشابه بين الرجلين بعض الحجج؛ منها مباركة “ترامب” لـ”جونسون”، ودعمه وكيله للمجاملات له، والتشابه بين الشعار الرئيسي لكل منهما. فـ”جونسون” يقول إنه سيعيد الأمجاد البريطانية، و”ترامب” يقول إن الولايات المتحدة ستكون عظمى مرة أخرى. أضف إلى ذلك أن سعي “جونسون” إلى إخراج المملكة المتحدة من الاتحاد يصب في مصلحة سياسة “ترامب”.
لكن المدافعين عن هذا الرأي يتجاهلون العديد من مواطن الخلاف بين الشخصيتين والتي قد تعرقل هذا الانسجام المتوقع. وعلى أقل تقدير لن يكون هذا الانسجام تبعية مطلقة من “جونسون” لـ”ترامب”.
الخلفية والسمات الشخصية
الخلفية التي أتى منها كل منهما تؤثر على رؤيتهما للعالم، ولبلادهما، ولطبيعة المهام السياسية، وعلى قرارتهما وكيفية اتخاذها بشكل كبير.
“ترامب” رجل أعمال لم يحترف السياسة، ويتعامل مع المواقف السياسية كما الصفقات بمنطق حسابات المكسب والخسارة المالية والاقتصادية فقط. وكان مؤيدًا للحزب الديمقراطي في بداية القرن الحالي وتحول عنه. صحيح أن “ترامب” و”جونسون” يبحثان عن المجد الذاتي، ويتصور كل منهما أنه المنقذ، لكن مسار كل منهما مختلف. “ترامب” دخل في الحياة السياسية مؤخرًا، على عكس “جونسون” العاشق لـ”تشرشل” ابن النخبة الذي ظل عقدًا هامشيًّا متبنيًا لمقولات لم يصدقها أحد عن الخطر الألماني قبل أن تتحقق وقبل أن يقود المملكة إلى نصر مبين، وأن يقول عنه التاريخ إنه كان فعلًا المنقذ في الحرب العالمية الثانية برغم فشله في مناصب سابقة. وكان “جونسون” منذ صغره يحلم بأن يصبح ملكًا على العالم كله؛ فاتخذ مبكرًا مسار العمل الحزبي والسياسي والصحفي.
ويلاحظ أن “جونسون” هو ابن نخبة الحكم، ومساره هو مسار أبناء النخبة؛ فقد نشأ في مدرسة أيتون العريقة التي أفرزت العديد من رجال النخبة البريطانية، ثم في جامعة أكسفورد التي تعد هي وكامبريدج من أهم مؤسسات إنتاج رجال الدولة البريطانية.
لذا فإن “جونسون” يُعد أكثر وعيًا بالنظام السياسي وتأثيره. وبرغم أنه ظل هامشيًّا، مُصدِّرا لصورة “مهرج” “أرعن”، يقول الشيء وعكسه، ويعاني من تقلبات وعدم استقرار (أرجعها المحللون إلى تأثره بمرض والدته التي كانت الشخص الأكثر قربًا له وقت تنقلات والده الكثيرة وعمله ببروكسل، ما أدى إلى إنتاج تلك الشخصية التي تشعر بالحاجة إلى أن يكون محبوبًا وتنجح في سعيها إلى هذا)، إلا أنه يمتلك قدرة هائلة على تحديد أهدافه وتحقيقها، ويتعامل ببراجماتية شديدة في المواقف التي يتخذها. في المقابل، يبدو لنا أن “ترامب” يريد “أفضل صفقة” مع تحديد لما لا يريده، ولسقف بالغ الارتفاع لما يريده، وهو يعلم في أغلب الأحوال أنه لن يحصل على ما يطالب به كاملًا. أي إنه يبدو أن هدفه الرئيسي أن يحصل على الحد الأعلى الممكن دون تحديد دقيق له.
“ترامب” ابن أغنياء جدد لا يهتمون كثيرًا بالسياسة، وهو شخص يحكم قبضته على فريقه، ويضمن ولاءه، معتمدًا على قسوة بالغة وعلى الخوف. مواقف “ترامب” متقلبة، وليس من الواضح إن كان هذا مقصودًا حتى يتصدر دائمًا الأخبار وليفقد الحلفاء والخصوم توازنهم، أم إنه غير مقصود ويأتي كنتيجة لتهور وعدم إلمام بالتفاصيل ولحسابات خاطئة؟
البرامج والتطلعات
تختلف رؤية كلٍّ منهما لكيفية تحقيق رفعة بلاده، وهو اختلاف كبير وجذري ويشمل ملفات كثيرة. “ترامب” يؤمن بالسياسات الحمائية، ويريد عودة فكرة “أمريكا أولًا” التي سادت بين الحربين العالميتين. ولا يؤمن بوجوب الدفاع غير المشروط عن النظم الديمقراطية الليبرالية في العالم، وكان هذا الالتزام من ثوابت سياسة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. ويتخذ عن اقتناع موقفًا متشددًا من قضايا الهجرة غير الشرعية، وموقفًا معاديًا لسياسات مقاومة الاحتباس الحراري، ولا يؤمن بأن النشاط البشري هو السبب في هذه الظاهرة. ويرى “ترامب” أن النظام العالمي الحالي القائم على قواعد قانونية ومؤسسات وآليات عمل جماعي أضر بالولايات المتحدة، وقيد سيادتها.
أما “جونسون” فهو يعادي أساسًا الاتحاد الأوروبي، لكنه ليس ضد كل آليات النظام الدولي، ويرغب في عودة بريطانيا العظمى مرة أخرى، لكن من منطلق مختلف تمامًا. بريطانيا كانت معقلًا للفكر الليبرالي المعولم، وكانت قوتها مرتكزة على شبكاتها وعلى تحكمها في البحار وعلى حجم علاقاتها وتأثيرها الخارجي. ويرى “جونسون” أن الاتحاد ليس ليبراليًّا بما يكفي، على عكس “ترامب” الذي يراه غارقًا فيها. ويرى “جونسون” أن الاتحاد يمثل مؤسسة بيروقراطية كثيرة القيود، معرقلة لكثير من الصفقات ولبناء علاقات ثنائية مفيدة للمملكة.
على جانب آخر، فإن “جونسون” يُعتبر من الأشخاص الأكثر ليبرالية داخل حزب المحافظين برغم تبنيه خطابًا متشددًا في السنوات الأخيرة، لكن هذا يرجع إلى رغبته في عدم خسارة تيارات بعينها، ولمنافسة “حزب البريكست” Brexit party ورئيسه “نايجل فاراج”. ومن ثم، نجد أن “جونسون” يؤمن بتنظيم الهجرة، ويؤمن بتقنين أوضاع المهاجرين غير الشرعيين منذ أن كان عمدة لندن. ونشير إلى إعلانه الأخير بأن الحكومة ستنظر في منح العفو وتسوية أوضاع بعض المهاجرين غير الشرعيين. وقد يستفيد من هذا ما يقرب من نصف مليون مهاجر. كذلك يؤمن “جونسون” بقضايا تغير المناخ، ويُعد أكثر تقبلًا لقضايا المثليين وما شابهها على العكس من “ترامب”.
وقد صرح “جونسون” مرات بأن الهجرة مفيدة للبلاد، وأكد على ضرورة إلغاء فكرة الحد الأقصى الذي وضعته “تيريزا ماي” (مائة ألف مهاجر سنويًّا). ويتقارب “جونسون” مع رؤية “ترامب” فقط في محاولة تنفيذ نظام الهجرة الأسترالي القائم على النقاط (تُحسب نقاط للفرد وفقًا لمهنته، وخبرته، والعديد من الأشياء الأخرى، وتحدد الأولويات وفقًا لحاجة الدولة من مهن). لكن هناك من اعترض على هذا النظام، قائلًا إنه صعب التطبيق في بريطانيا، خاصة أن الاحتياج الأكبر يكون لمن يقوم بأعمال لا تحتاج إلى مهارات، هذا بالإضافة لتداعياته الاقتصادية المكلفة.
سياسات “ترامب” الاقتصادية والداخلية تبدو ناجحة، وقد تكون عامل جذب لـ”جونسون”، خاصة أنها تتقارب مع فكر حزب المحافظين فيما يخص التخفيضات الضريبية وما شابه. ووفق مؤشرات الاقتصاد الأمريكي لعام 2018، فقد نجح الاقتصاد الأمريكي في خلق العديد من الوظائف، ما أدى إلى انخفاض معدل البطالة إلى 3.7%، وهو أقل معدل منذ السبعينيات. وقد عززت سياساته الحمائية والضريبية التي هدفت لتخفيض معدلات الضرائب النمو الاقتصادي ليبلغ 4.1%. ووصل الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي إلى 20.4 تريليون دولار وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي لعام 2018، ما جعل اقتصاد الولايات المتحدة يصل إلى 25.1% من حجم الاقتصاد العالمي.
السياسة الخارجية
تكثر التكهنات حول كيفية تعامل “جونسون” وإدارته للعلاقات الخارجية وتصوراته لما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ فمواقفه أقرب إلى المواقف الأوروبية في ملفات عديدة، منها إيران والبيئة، لكنه سيسعى إلى شراكة أكبر مع الولايات المتحدة التي تتخذ مواقف مختلفة -أكثر تشددًا- في ملفات أبرزها إيران، ذلك أن الرئيس “ترامب” يتبع استراتيجية “الإرغام دون حرب” من خلال خنق الاقتصاد الإيراني، وفي الوقت نفسه يبحث عن حلفاء ليبني قوة بحرية دولية تحمي حرية الملاحة في مضيق هرمز، حيث انضمت المملكة إلى تلك القوة بعد احتجاز سفينة لها. ومن المرجح أن يتعرض “جونسون” لمزيد من الضغوط من قبل “ترامب” لاتباع منهجه. ولا تريد المملكة التخلي عن الاتفاق النووي، بل تريد إنقاذه، وما زالت ترى أنه يحجم نشاط إيران النووي. وبشكل عام، ستخشى المملكة المتحدة دخول مغامرات وحروب غير محسوبة ومكلفة، ولا سيما في ظل توقع تراجع اقتصادي نتيجة للبريكست، خاصة في حال الخروج دون اتفاق.
ومن ثم، يمكن القول إن الاصطفاف الكامل مع إدارة “ترامب” مستبعد حتى لو تم إغراء “جونسون” باتفاق تجاري كبير مع الولايات المتحدة يعوضه عن علاقاته بالاتحاد. وسيظل الاتحاد لفترة طويلة هو الشريك التجاري والاقتصادي الرئيسي للمملكة، ذلك أن نصف التبادلات البريطانية هي مع الاتحاد، واللوائح والقوانين المنظمة للنشاط الصناعي والتجاري والاقتصادي والمحددة للمعايير الحاكمة له صُممت لتكون متسقة مع تشريعات الاتحاد، وهي مختلفة كثيرًا عن التشريعات الأمريكية، ولن يتغير كل هذا -على فرض إمكانه- بسرعة.
ومن المرجّح أن “ترامب” سيحاول تعظيم المكاسب الأمريكية في أي اتفاق يعقده مع المملكة المتحدة. ويقول بعض المراقبين إن “ترامب” يرى الولاء في اتجاه واحد، بمعنى أن الدول تظل حليفته ما دامت تنفذ ما يريده. ومن المرجح أن يتردد “جونسون” قبل وضع كل “البيض” في سلة واحدة، وأن يحاول الاحتفاظ بعلاقات مع الاتحاد، لا سيما وأن فرنسا حليف عسكري مهم.
هناك ملفات شائكة أخرى عالقة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، فلكلٍّ منهما مواقف متباينة من الصين. بريطانيا أكثر ترحيبًا بالتعامل معها، فقد سبق لـ”جونسون” أن صرح بأنه “متحمس للغاية” لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية. ويرجع هذا الموقف إلى رغبة المملكة المتحدة في الاستفادة من معدلات النمو الصينية ومن انخفاض تكلفة تكنولوجياتها، وفي تحجيم التصعيد معها فيما يخص مسائل الأمن في بحر الصين الجنوبي. وقد اتضح موقف المملكة المتحدة الذي خالف الولايات المتحدة بشكل كبير حتى الآن فيما يخص التعامل مع شركة هواوي وتنفيذها لشبكات الجيل الخامس. فلم تمنع التعامل معها، ولكنها توصلت لحل وسط يحجم مشاركتها ويزيد من الرقابة عليها برغم ضغوط الولايات المتحدة والمستمرة لجعل المملكة تمنع وجود هواوي بشكل كامل. ويعد تعيين المحامي السابق “دومينك راب” وزيرًا للخارجية ذا دلالات مهمة؛ فالرجل يؤمن بالنظام العالمي وقواعده، ولا يميل للتصعيد في ملفي الصين وإيران، وهذا يتفق وقناعات “جونسون”.
في ضوء كل ما سبق، نجد أن مقولة التطابق الكامل بين القائدين لا تستند إلى مضمون السياسات، ولا يعني هذا أننا نستطيع أن نستبعد رأي خصوم “جونسون” فيه، من أن لا تحيزات له، وسيعمل ما يسمح له بحسم الانتخابات، أو أن تحيزاته مضرة. ولا نستطيع نستبعد رأي أنصاره من أنه شخص غير متشدد ومنفتح. “جونسون” يظل شخصًا غير متوقع بسبب تقلباته الفكرية والسياسية الكثيرة. ما هو أكيد هو أن التصريح بأنه يمثل “ترامب بريطانيا” يحمل من الخطأ أكثر مما يحمل من الصواب.