لم يكن هناك أسعد منّي حينما صرح الرئيس “عبدالفتاح السيسي” في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة بأن مصر تدخل حضارة جديدة، فهذه الحضارة هي ما أدعو إليه في جميع كتاباتي المستقبلية منذ سنوات، وهي الكتابات التي تعكس رؤية مستقبلية لمصر في المستقبل القريب، وهي رؤية تمحورت حول مؤسسات الأمن القومي باعتبارها الأكثر إدراكًا للمخاطر الأمنية، وهي: الجيش، ووزارة الخارجية، والمخابرات العامة، لأنها بحكم تعاملها اليومي تدرك المخاطر القادمة من الخارج، الإقليمية والعالمية، ولذا فإن معايير الإنجاز فيها عالمية أيضًا لتتناسب مع مستوى المخاطر المتوقعة.
وفي إطار هذه المخاطر العالمية أدرك العلماء أنه رغم أن عمر الإنسان على الأرض يُقدر بحوالي 12 مليون عام؛ إلا أن عمر أقدم الكتابات البشرية لا يتجاوز 6000 عام فقط ممثلة في بعض المعابد والمسلات وأوراق البردي المصرية، وبعض الألواح الطينية في بلاد الرافدين، وبعض المعابد والأواني الفخارية في الصين والهند، أي إن عمر المعرفة بأبسط صورها البدائية لا يتعدى ستين قرنًا فقط من بين اثني عشر مليون سنة عاشها الإنسان على سطح الأرض.
لكن المفارقة الحقيقية ليست في أن معرفتنا بتاريخنا على الأرض محدودة للغاية إذا ما قورنت بمدة حياتنا على الأرض، ولكن المفارقة الحقيقية أن اختراع أول تكنولوجيا للمعلومات على وجه البسيطة يرجع إلى عام 1544 حينما اخترع “جوتنبرج” المطبعة، أي منذ قرابة خمسة قرون فقط.
وتزداد أهمية هذه المفارقة إذا علمنا أن جميع مظاهر النهضة والعمران التي نعيشها اليوم، بما تشمله من سفر عبر الكواكب، والانتقال من دولة إلى أخرى خلال عدة ساعات؛ كلها إنجازات ارتبطت بالقرن العشرين فقط. وتزداد أهمية المفارقة أكثر إذا علمنا أن الراديو قد انتشر خلال 38 عامًا ليصل إلى 50 مليون مستهلك، بينما أخذ التليفزيون 13 عامًا ليصل إلى نفس العدد من المستهلكين، وتقلصت المدة لأربع سنوات فقط بالنسبة للإنترنت، وإلى عام واحد للفيسبوك، وهو ما يعني انكماش الزمن مع زيادة سرعة تبادل المعلومات وانتشار الشبكات كتنظيم اجتماعي، وهو ما انعكس على التحولات المجتمعية للثورة العلمية. فإذا كانت الثورة في بولندا عام 1989 أخذت 10 سنوات، فإنها في المجر أخذت 10 أشهر، وفي ألمانيا الشرقية تقلصت المدة إلى 10 أسابيع، وفي تشيكوسلوفاكيا وصلت إلى 10 أيام وفي رومانيا إلى 10 ساعات فقط.
ولنفهم مغزى التاريخ وأهميته في جوهر علاقته بالمعلومات، فإننا نؤكد أن سرعة تداول المعلومات التي كانت في عام 1865 حوالي 30 ألف كلمة في الدقيقة في عصر التلغراف، وصلت في عام 1991 إلى 192 ألف كلمة في الدقيقة بالكمبيوتر، ووصلت في عام 2010 إلى حوال 5 ملايين كلمة في الدقيقة، ثم إلى 9 ملايين كلمة في الدقيقة في عام 2014، وهو ما يدعونا إلى أهمية التعرف على دور سرعة تداول المعلومات في حياتنا، ومدى تطور وسيلة نقلها والبنية التحتية اللازمة لها، وفي انعكاسات كل ذلك على تحولات الدولة الوطنية نتيجة انتشار استخدام الإنترنت والتشبيك منذ مطلع التسعينيات في القرن العشرين، خاصة أننا اعترفنا بهذه الدولة كفاعل وحيد في العلاقات الدولية في صلح وستفاليا عام 1648. ولكنها في ذلك الحين كانت تتسم ببساطة شديدة، فقد كان صلح وستفاليا أوروبيًّا بين ملكيات مطلقة، وكانت مؤسسات الدولة محدودة ليس بها برلمانات ولا أحزاب ولا جماعات ضغط ولا مجتمع مدني؛ فكل هذه المؤسسات ظهرت بعد ذلك تباعًا لأسباب مختلفة. ومن هنا تظهر أهمية التجمعات الثقافية أو الصالونات التي أثارت أوجه النقص في الدولة، ومهدت للثورات، خاصة الإنجليزية والفرنسية والأمريكية، وما طرحته من مبادئ غيرت جوهر وطبيعة الحياة السياسية والدولة الوطنية عما كان وقت صلح وستفاليا.
من المؤكد أننا أصبحنا نعيش في ظل حضارة جديدة يتزامن فيها لأول مرة في التاريخ الحدث السياسي ورد الفعل عليه، بل إن رد الفعل المجتمعي قد يسبق في كثير من الأحوال رد الفعل الرسمي، ويضع عليه قيودًا. كذلك لأول مرة في التاريخ ندخل الزمن كأحد العوامل المهمة في التحليل السياسي، أي إن التحليل يأخذ بعين الاعتبار التطور الدينامي للحدث السياسي بعد أن كان الحدث ساكنًا استاتيكيًّا في جميع مناهج التحليل السياسي الخطي، مما أدى لخطأ معظم هذه التحليلات في عصر الثورة الرقمية. هذه الحضارة الجديدة ناتجة عن الثورة العلمية التي تجتاح العالم منذ مطلع السبعينيات، وهي ثورة ناتجة عن تفاعل المعلوماتية مع النانو تكنولوجي والبايوتكنولوجي. وغاية ما في الأمر أنها كانت بطيئة وكانت غير تفاعلية وتعتمد على وسائل نقل بطيئة بطبيعتها كالتلغراف والصحف والإذاعة والتليفزيون في ذلك الحين، فكانت آثارها بطيئة للغاية، إلا أن سرعتها تزايدت آلاف المرات نتيجة استخدام الإنترنت من جانب، ونتيجة اعتمادها على شبكات التواصل الاجتماعي من جانب آخر. والشبكات بطبيعتها تفوق سرعتها في تغيير القيم والأفكار أيًّا من وسائل الإعلام الأخرى بما فيها المطبعة والإذاعة والسينما والتليفزيون حتى وإن كانت هذه الوسائل منتشرة في كل بيت وفي كل حي.
الثورة الصامتة
نتيجة الثورة العلمية وطبيعتها التفاعلية وسرعتها، بدأت السياسات العالمية في التغير بصورة ملتبسة تجسدت فيما يلي:
أ- انطلاق قيم جديدة من ثلاث دول أوروبية فور تخلصها من الحكم الفردي، وهي اليونان والبرتغال بعد الحكم العسكري وإسبانيا بعد “فرانكو”، فإذا بالاقتصاد يتجه للرمزية، وإذا بالأزمات الاقتصادية تجتاح العالم من واشنطن ونيويورك إلى آسيا كلها، إلى روسيا وغرب أوروبا بأكملها. هذه القيم هي القيم الفكرية غير المادية، مثل: قيم التعبير عن الذات، وقيم العدالة الاجتماعية، وقيم التشاركية والتعاون مع الآخر، وقيم الكرامة الإنسانية والحرية، وهي إجمالًا عكس القيم الأبوية والقيم التقليدية وقيم التواكل والتكاسل والقيم المادية التي كانت سائدة في معظم دول العالم بدرجات متفاوتة.
ب- ظهور الحركات الاجتماعية التي تتبنى حماية البيئة من التدهور، والدعوة إلى إنقاذ أمن الأرض. وقاد هذه الحركات الاجتماعية في البداية حركات الخضر في العالم مما مهد إلى تحولها إلى أحزاب سياسية فيما بعد، ووصلت الآن إلى المرتبة الثانية أو الثالثة سياسيًّا على الأكثر في دول غرب أوروبا، فنقلت هذه القيم إجمالًا للمجال الإنساني والسياسي، مما أدى إلى تطور الفقه الدولي وظهور القانون الإنساني.
ج- ظهور تحولات عديدة في مفهوم الدولة ووظيفتها، وكان أهم هذه التحولات أن الأمن الإنساني أصبح وظيفة الدولة، أما مفهوم الأمن القومي فقد اتسع واتسم بالشمول السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأصبحت منطلقاته الإقليم.
د- ظهور حركات للإحياء الديني في جميع الأديان السماوية، وجميع فلسفات الشرق التي تقوم بوظيفتها ردًّا على دعوات العولمة التي سعت إلى تنميط العالم في قوالب قد لا تناسب معظم الدول. ووصل الأمر إلى سيادة الاتجاهات اليمينية والتطرف الديني والقومي على السواء لحماية الخصوصية الثقافية.
هـ- غيرت القيم الثقافية الجديدة من العادات الاجتماعية وطرق التفكير السائدة حينئذ، ولذا أطلق عليها “إنجلهاردت” “الثورة الصامتة”. وقد فسر العلماء هذه التغييرات الفكرية بأنها ناتج التطور التكنولوجي الذي ترتب عليه دخول هذه المجتمعات إلى عصر جديد ومرحلة جديدة من مراحل الحضارة الإنسانية. وشاعت بالفعل مختلف مفاهيم “الما بعدية” في تلك الفترة، مثل عصر ما بعد التصنيع، وما بعد الأيديولوجيا، وما بعد الحداثة، خاصة وأن انعكاسات الثورة الرقمية على المجتمع لم تكن قد تكاملت بعد، ولم تكن معظم مؤشراتها قد اكتملت في ذلك الحين.
تغير مفهوم السلطة والقوة
نتيجة هذه التحولات الفكرية تغيرت مقومات القوة. ففي عام ١٩٩٠، أكد عالِم الدراسات المستقبلية ورئيس الجمعية العالمية للدراسات المستقبلية في ذلك الحين “ألفين توفلر” وزوجته العالمة “هايدي توفلر” في مؤلفهما “تحول السلطة”، أن جميع هياكل السلطة على مستوى العالم تتجه للتحلل والتفكك نتيجة تغيير مقومات السلطة ذاتها، فبعد أن كانت تستند إلى العنف والثروة، أي سيف المعز وذهبه، أي القوات المسلحة والاقتصاد بالنسبة للدول، صارت تستند كذلك إلى المعلومة التي أصبحت ليست مجرد مكونًا من مكونات السلطة فقط، وإنما صارت أهم مكون لها لمرونتها ورخصها وعدم فنائها وتجددها حتى إنها أضحت قوة في حد ذاتها، وصار من يملك المعلومة ويتحكم في طرق نقلها والقدرة على التعامل معها هو الأقوى، ومن ثم هو الأكثر قدرة على السيطرة على المستقبل.
وبعد عام واحد من ظهور هذا المؤلف الهام، شهد العالم أجمع سقوط الاتحاد السوفيتي وانفراط عقده، وتحققت بالفعل نبوءة “ألفين” و”هايدي توفلر”، وكان السقوط مرتبطًا بنفس السبب الذي حدداه. والفضل في هذه الدقة يعود إلى أن الكتاب كان ناتج تجربة عملية على قرية يبلغ تعدادها قرابة 5000 نسمة أمكن ربطها بشبكة داخلية للكمبيوتر، لأن الإنترنت لم يكن معروفًا في ذلك الحين علنيًّا، وكانت التجربة لدراسة تأثير الإنترنت -مستقبلًا- على سلوك أهل القرية كنموذج مصغر للدولة.
وفي النصف الثاني من التسعينيات طوّر “جوزيف ناي” (الابن) أفكاره عن مفهوم القوة استنادًا إلى مقولة دخول المعلومة في مقومات السلطة بدراسته عن القوة الناعمة Soft Power أولًا وهي المكون الذي يجسد المعلومة في معادلة القوة ثم القوة الذكية Smart power التي هي ناتج تفاعل القوة الناعمة مع القوة الصلبة وظهور جيل جديد من الأسلحة الأكثر فاعلية والأكثر تدميرًا ذاتية التوجيه، بفضل دمج السلاح بالكمبيوتر بصور مختلفة، ثم القوة الافتراضية أو القوة السيبرية أو السيبرانية أخيرًا CYBER POWER بكل ما يرتبط بها من ذكاء اصطناعي، وتطوير أبحاث الإنسان الآلي لدمجه بالإنتاج والسلاح.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العقيدة العسكرية السوفيتية في عهد “خروشوف” كانت تستند إلى تطوير السلاح السوفيتي من خلال إدماجه بعلم السيبرنطيقا Cybernetics أو علم الحواسب الآلية، إلا أن هذه المحاولات توقفت عقب الإطاحة بـ”خروتشوف” من السلطة. ولعل هذا أحد أسباب السبق الروسي في علوم الفضاء في تلك الفترة.
ظهور المجتمع الشبكي والدولة الشبكية والعقلية الشبكية
في إطار هذه التحولات ظهر المجتمع الشبكي بخصائصه، بما في ذلك “التحليل الشبكي” الذي يُعد أول منهج تحليل “لا خطي” نابع من الثورة العلمية الرقمية؛ فأساس هذه التحليلات ارتبط بظهور أسس وأركان عصر المعلومات وبصورة أوضح نتيجة تطور تكنولوجيا المعلومات، استنادًا إلى إنجازات علم الفيزياء التي غيرت بالفعل مظاهر الحياة وزادت من سيطرته على الطبيعة بفضل نظرية الكوانتم وتطبيقاتها في الحياة، إلا أن هذه التطورات العلمية فيما بعد أثبتت أن الثورة المعلوماتية بكل ما حققته من إنجازات بما فيها الكمبيوتر ما هي إلا جزء من ثورة أكبر هي الثورة الرقمية التي شملت ثلاثة مجالات فغيرت بمنجزاتها العلاقات الاجتماعية، والمفاهيم السائدة، وفرضت حقائق سياسية جديدة أكثر واقعية، وأكثر تعبيرًا عن السعي لرفاهية الإنسان الفرد. وهذه الثورة الرقمية تشمل ثورة المعلومات السابق الإشارة إليها، وثورة البيوتكنولوجي التي تقوم على الاستنساخ وفك شفرة الجينوم وزراعة أعضاء مصنعة وتطوير طرق العلاج، فظهر الطب الجزيئي وبدأ تطوير استخدامات الهندسة الوراثية والخلايا الجذعية وطباعة الأعضاء البشرية كالقلب الذي أمكن زراعته في فرنسا، وأخيرًا ثورة النانو تكنولوجي التي تعتمد على إعادة التركيب الجزيئي للمواد واستخدام المادة في صورتها الجزيئية، ومن تطبيقاتها المعروفة نجحت محاولات عالم مصري في علاج السرطان بجزيئات الذهب. وهذه الثورات الثلاث متكاملة ومترابطة، بمعنى أن كلًا منها يؤدي إلى الثورتين التاليتين ومتفاعلة معهما.
وأدت هذه الثورة العلمية إلى سقوط جميع أنواع الحواجز من حياة الإنسان، وظهور عالم جديد غيّر من طريقة تفكيرنا وأسلوب حياتنا، وأهم ملامح هذا العالم هو سقوط الحواجز التي ميزت عصر ما قبل الإنترنت، وأهمها:
أ- سقوط جميع الحواجز الجغرافية والزمنية والسياسية والاقتصادية، مما يزيد من عمق التفاعل الإنساني وسرعته وطبيعته مما جعل العالم أكثر تفاعلًا كونيًّا، أي إن التفاعل لا يتوقف على دولة أو منطقة دون أخرى مما أدى إلى نتيجتين:
الأولى: موت الزمن نظرًا لتزامن التفاعل السياسي مع الحدث حتى وصل للتفاعل في الزمن الحقيقي للحدث، وموت المسافة بفضل ظهور المجتمع الشبكي والتفاعل السياسي المباشر. والثانية: فشل جميع النظم الثقافية التي تدعي احتكار الحقيقة مثل مختلف النظم الديكتاتورية التي تعكس حكمة الزعيم، ومثالها النظم الشيوعية والنظم الفاشية ونظم الفرد الواحد.
ب- سقوط الحواجز بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية نتيجة تغيير طرق التفكير وظهور اهتمامات متعددة في الحياة، فسقطت الحواجز بين الإنسان والآلة، وظهرت مفاهيم جديدة للذكاء الاصطناعي واستخداماته.
ج- سقوط الأيديولوجيا مما أدى إلى ظهور النظم الثقافية المفتوحة التي تقوم على درجة عالية من التشاركية وتفسيرات مختلفة للنص الواحد وانهيار ثلاثية المؤلف والكتاب والقارئ، مما فتح المجال أمام التفكير المفتوح وأدى في النهاية لازدهار العلوم البينية.
د- إعلاء قيم التشاركية مما أدى لانتشار نظام الحكومة المنفتحة أو المدنية التي تسمح بمشاركة منظمات المجتمع المدني في الحكم، وتوليها الكشف عن الفساد والإسهام في تنفيذ بعض المشروعات لمحاربة الفقر في مناطق ذات طبيعة خاصة، مما يفسر الجدل حول قانون إتاحة المعلومات وحكومة الإنترنت وحوكمة المعلومة.
هـ- ظهور أقوى حركة إحياء ديني عرفها التاريخ الإنساني: كانت إحدى نتائج العولمة تنميط العالم ثقافيًّا في قالب واحد، فكان رد فعل الدول الوطنية حماية ما تتمتع به من خصوصية ثقافية في مواجهة العولمة التي استهدفت المركزية الثقافية الغربية. ولم يكن أمام هذه الدول إلا إحياء الدين أو الروح القومية، وتحول هذا الإحياء الديني إلى تطرف يميني، خاصة أن مفهوم الدين اتسع ليشمل إلى جانب الأديان السماوية المُنزَّلة الفلسفات الوضعية بالشرق الأقصى، والتي تطرح رؤية للإنسان والكون والحياة والموت، مثل البوذية والكونفوشيوسية والهندوسية، فتحول التطرف لديهم إلى تطرف قومي.
والملاحظة الرئيسية هنا أن تحولات المفاهيم الرئيسية لعلم السياسة وعلاقات السلطة، وتنظيم السلطة نفسها وإعادة هيكلتها، والقوة وتحولاتها، وعلاقة الدولة بالمجتمع، ودور المواطن، كان ناتج علاقة تفاعل ثلاثية الأبعاد، هي العلم ممثلًا في الثورة الرقمية وتطبيقاته المختلفة، أي التكنولوجيا والمجتمع. فقد تعرضت الدولة القومية لتغييرات على المستوى الكلي نتيجة استخدام الإنترنت، أي تغييرات في السلطة وهيكلها وعلاقات القوة التي تشكلها. كما أن بعض تطبيقات الإنترنت ساهمت في إحداث تغييرات على المستوى الجزئي للدولة مثل الوظائف، أو مفهوم الامتداد الإقليمي للدولة، أو إعادة تعريف المجتمع الخاضع للدولة، وذلك إضافة إلى استمرار تأثير القيم والأفكار والمبادئ السياسية السائدة في المجتمع للتغيير نحو القيم الذهنية غير المادية الدافعة للتقدم السياسي.
وكانت السمة الأولى لتحول الدولة الوطنية هي تشعب وانتشار الوظيفة الكونية للدولة. ففي السابق، كانت الدولة القومية تسيطر على مساحات شاسعة باعتبارها دولًا إمبراطورية تسيطر على التجارة عبر مسافات طويلة مطلوب تأمينها وعبر مدن اكتسبت بعدًا استراتيجيًّا واقتصاديًّا. اليوم نعود إلى كيانات مكانية لنمارس فيها عمليات اقتصادية معقدة يقوم بها فاعلون أكثر قوة استطاعوا تشكيل سوق رأس المال العالمي، وتشكيل سوق السلع العالمي عبر التجارة الإلكترونية، وسوق الإنتاج الصناعي الكوني، أي إن الأسواق أصبحت كونية. ويرجع ذلك إلى أن هذه الكيانات المكانية كان عليها أن تعيد تشكيل نفسها في سياق أقاليم قومية معينة وعلى درجة عالية من الرسمية للدولة الوطنية، مما أدى إلى مشاركة الدولة الوطنية لصياغة النظم الكونية. ويبدو هذا الدور في القدرات الفنية الجديدة المرتبطة بتطورات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتزايد المكونات غير القومية في نشاطات الدولة (مثل الكويز) نتيجة انهيار الحواجز الاقتصادية (الحمائية) وتشكيل استراتيجيات تتجاوز الدولة القومية (انهيار الحواجز السياسية أي السيادة). هذه الانهيارات للحواجز كانت طبيعية لانهيار الحواجز بين العلوم في مطلع السبعينيات وانهيار الحواجز بين الإنسان والآلة في القرن الـ21. ولذا أصبحت مستويات التحليل أربعة: الكون، الإقليم، الدولة، المحلية بصفة مؤقتة.
وكانت السمة الثانية لانعكاسات الثورة العلمية على تحول الدولة الوطنية هي رد كل ما هو قومي إلى السمات الجوهرية للمجتمع في الدولة بغض النظر عن جذور التحولات وتباين توقيت التحول، أي إن الهدف كان إعلاء المجتمع وليس الدولة، أي إعلاء للمواطن الفرد في: القانون، والسلطة، والهوية، والمواطنة، والإقليم، والأمن، والسوق والاقتصاد. وإجمالًا تحولات المجال العام. ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى فشل مفاهيم المواطنة الوسيطة التي تسيطر على جميع أنماط هذه المواطنة، سواء كانت قبلية أو مذهبية أو دينية أو طائفية، وهذا سبب رئيسي لموجة المطالب السياسية الشعبية في المنطقة العربية منذ اندلاع انتفاضة تونس في عام 2010 للآن، لأن المواطنة الوسيطة وبالتالي مختلف التقسيمات والانتماءات التي ترتبط بها فشلت فشلًا ذريعًا في تطوير الدولة الوطنية وفقًا لمتطلبات الثورة الرقمية وما حملته من قيم جديدة.
وكانت السمة الثالثة لتحولات الدولة الوطنية هي تغير الفاعلين الدوليين، فقد اتضح أن الدولة الوطنية بدأت في التغير إلى أشكال تختلف عن الأشكال القديمة؛ فالهيمنة اختلفت معاييرها، والدول ليست لديها سيادة كاملة على أراضيها واتخاذ القرار. كما أن الفاعلين الجدد يشملون مجموعة من الفاعلين الذين لا ينتمون إلى الدولة القومية، بل ينتمون إلى صور التعاون الدولي والصراعات عابرة الحدود، مثل: شبكات رجال الأعمال الكونية، وصور المواطنة العالمية للمحافظة على البيئة والمنظمات غير الحكومية. واتضح أن نظرية العلاقات الدولية أصبحت نظرية قاصرة بتأثير من الربط بين العولمة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة وتحولات القوة في العالم، فالعلاقات الدولية تركز على دور الدولة في النظام الدولي، وهذا النظام تحول هو الآخر إلى نظام عولمي بقيم أكثر عولمية، وتزايد فيه دور النشطاء غير المنتمين للدولة الوطنية بما في ذلك النشطاء الجيدون والنشطاء الأكثر سوءًا مثل الـhachtivists ومروجي الشائعات، وازدادت فيه العمليات العابرة للحدود، وتغيرت فيه معايير كفاءة الدولة للسيطرة على إقليمها ومواطنيها بفعل ظهور القانون الإنساني وتقنين علاقة الدولة بمواطنيها.
أما السمة الرابعة للتحولات في الدولة الوطنية فتتمثل في تعدد مستويات العولمة؛ فالمركز المالي في المدينة الكونية هو كيان محلي بالطبع، إلا أنها في الوقت نفسه هي جزء من سوق إلكترونية تم ترتيبها كونيًّا لتصبح مركزًا ماليًّا وسوقًا للتجارة الإلكترونية، وسوقًا للمواد الخام اللازمة للتصنيع، وسوقًا لقوة العمل. هنا أصبحت منظمة التجارة الدولية هي الكيان الكوني الذي نُصّب فاعلًا لحظة إدماجه في الاقتصاد القومي والسياسات العامة. ومن ثم أصبح ما هو كوني متعدد المستويات بدءًا من المستوى المحلي وهو مستوى المحافظة والدولة، وهو ما يؤكد أن سلوكيات الدولة الوطنية قد تغيرت عن ذي قبل، حيث كانت الدولة تضع كل ما هو فوق قومي فوق الدولة، بينما الآن تجعل من الكوني متعدد المستويات مثال تلك الأنواع الجديدة لفضاء التشغيل، أي مراكز الاتصال call centers الذي تستخدمه الشركات متعددة الجنسية كنمط من الـ out-sourcing وهي شبكات متعددة المستويات موزعة على نطاق واسع من المؤسسات الفرعية، ومثل شبكات سلاسل الإنتاج أو supply chain التي تعد من مظاهر التركيز على وظائف استراتيجية في موقع محلي وحيد أو مجموعة محدودة من المواقع. ومن ذلك أيضًا ديناميات الحياة في المدن الكونية الحديثة، إذ إن عمليات تشغيل الشركات فيها والأسواق الاقتصادية أكثر رقمية وكونية، والوظائف بها أكثر تعقيدًا واستراتيجية، وتتسم الاقتصادات فيها بأنها أكثر اندماجًا وترابطًا بغيرها من العمليات الاقتصادية خارجها وهو ما حدث للدول، فلم تعد أهمية الدول مستمدة مما تملكه في باطن الأرض من ثروات فقط وإنما مستمدة من أهمية الدولة للاقتصاد العالمي بما تنتجه من سلع وخدمات وما تطرحه فيها من قيمة مضافة للاقتصاد العالمي.
أما السمة الخامسة للتحول أن المستوى المحلي (محافظات) أصبح أكثر كونية. وهذا أمر ترتب على تعدد مستويات العولمة وتحليلها، فالممارسات والقوانين والسياسات المحلية قد تضاعفت تفاعلاتها العابرة للحدود (انهيار الحواجز بين ما هو خارجي وما هو داخلي) ومنها انتهاكات حقوق الإنسان، ومشروعات الحفاظ على البيئة والحركات الاجتماعية ومشروعات البنية الأساسية، لأنها كلها تقوم على تعبئة رؤوس أموال وخبرات دولية لحل مشكلات محلية. ومفهوم الخبرات هنا يعني استقدام خبراء دوليين والتعرف على التجارب الدولية وتطبيقها، أي إنها تستند إلى ديناميات كونية مع إدماجها جزئيًّا في مواقع قومية أو محلية وبخاصة مراكز رأس المال على الأقل.
من ناحية أخرى، فإن المدن الكونية كانت في الماضي قومية، إلا أنها اليوم تنتمي للمستوى الكوني العولمي بما في ذلك شبكات الحركات الاجتماعية الحديثة العابرة للحدود مثل شبكات المهاجرين وشبكات انتهاكات حقوق الإنسان، فهذه الصور من التفاعلات تمثل سياسات كونية بقدر ما تمثل تطبيقًا على المستوى المحلي أكثر منها نظامًا كونيًّا.
كذلك فإن سلاسل الإنتاج وشبكات التجارة الإلكترونية مظهر آخر من مظاهر الاقتصاد المعولم محليًّا، ففي المدن الكونية عادةً ما يجذب الاهتمام نحو الأماكن أو القطاعات الاستراتيجية في الاقتصاد الكوني بها، خاصة وأن التفاعلات فيما بين المدن الكونية عبر الحدود أكثر كونية، ومن ثم فالتركيز على ما هو فوق قومي ليس كافيًا، ولذا فمن المهم جدًّا التعرف على دور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التفاعلية في إعادة تحديد وضع المكون المحلي وربطه بتنظيمات أو مجتمعات شبيهة ذات موارد محدودة في مكان بعيد متماثل معيشيًّا.
أما السمة السادسة فكانت زيادة التفاعلات الكونية مع مكونات الدولة القومية، وظهور دور المدن الكونية، فهذه التفاعلات قديمة ولكنها ليست تفاعلات ما دون القومية فهي تفاعلات تأسست تاريخيًّا على ما سبق تنظيمه بوصفه إقليمًا قوميًّا، ولكن التطور الحديث جعل منها نمطًا تفاعليًّا دائمًا بين الكوني والمحلي في عصر العولمة، لأن جميع عمليات العولمة بدون أي استثناء تتم أساسًا داخل مؤسسات الدولة الوطنية من مؤسسات تنفيذية وقضائية وسياسية، سواء أكانت رسمية كالبرلمان والوزارات والمؤسسات العامة أو غير رسمية كالأحزاب وجماعات الضغط، وبالتالي فالعولمة بكل عملياتها امتدت إلى داخل مؤسسات الدولة الوطنية وإلى داخل امتداداتها الإقليمية إلى داخل المدن الكونية التي تزايدت أهميتها لهذا السبب، فالتمييز بين القومي وما دونه لم يعد كافيًا لفهم العمليات السياسية التي تتم داخل الدولة الوطنية.
وإذا كان النشاط الاقتصادي قد أصبح كونيًّا في الأسواق الثلاثة فإنه يعيد بالتالي تشكيل النظم القائمة، ويسهم أيضًا في إقامة نظم جديدة مستندة إلى ممارسات الفاعلين في الاقتصاد الدولي الجديد (مشروعات وشركات وأسواق) ومستهدفة تطوير نظم قيمه الحالية (أي تحرير الاقتصاد)، ومن هنا ظهرت شبكة متنامية من المدن الكونية يتضاعف عددها باستمرار ليصل إلى 50 مدينة تقريبًا تزايدت من خلالها الثروة والعمليات الاقتصادية القومية مع تكاثر الارتباطات الكونية لصالح رأس المال والتجارة والعمل، لأنها تشكل نطاقًا جديدًا للقوة (أو مجالًا عامًّا جديدًا) لصالح العولمة والكونية، بل ويشكل جغرافيا جديدة لمركزية العولمة تختلف عن نطاقات قديمة مثل الشمال والجنوب والشرق والغرب، فنحن نشكل اقتصادًا كونيًّا جديدًا وفق نظم جديدة وجغرافية جديدة ونظام جديد للقيمة.
مما تقدم يتضح أن الدولة الوطنية منذ ظهور الإنترنت قد اختلفت بصورة جوهرية في طبيعتها عنها قبل عالم الإنترنت، لأنها انتقلت من حالة محددة الزمان والمكان، أي يمكن نسبها إلى اقتصاديات وممارسات سياسية محددة، إلى حالة أو طبيعة مجردة تمامًا، فأصبحت كيانًا داخل الكوكب الأرضي تتشارك في المسئوليات مع باقي الدول في الحفاظ على هذا الكوكب، وفي الوقت نفسه تتحمل مسئوليات جسامًا بوصفها كيانًا استراتيجيًّا لدعم مختلف عمليات العولمة، خاصة وأن هذه العمليات لا يمكن أن تتم دون دعم هذه الدولة الوطنية ودون إتمام هذه العمليات في المؤسسات الوطنية المختلفة من ناحية ثالثة.
وفي هذا الإطار يتغير الدور الإقليمي للدولة، وتتغير علاقة مركز الدولة بمحيطها الداخلي (المحافظات) لدعم هذا الدور الإقليمي. ومركز الحركة هنا هي الصراع بين قيم دعمتها بالفعل العولمة خلال العقدين الأخيرين، ونجحت من خلالها في فرض هذه القيم حتى وإن كانت متعارضة مع القيم التي كانت سائدة من قبل مستثمرة الشبكات الاجتماعية كتنظيم جديد للمجتمع ووسائل نقل المعلومات الحديثة وبنيتها التحتية التي أضحت جزءًا من بنية تحتية عالمية لا بديل لها من أجل التقدم والتنمية، وهذا موضوع مقال قادم إن شاء الله، خاصة وأن الدولة الوطنية أضحت فاعلًا استراتيجيًّا لا بديل عنه لدعم وترشيد العولمة.