ما إن تقرر توجيه لائحة اتهام ضد “بنيامين نتنياهو” في ثلاث قضايا فساد كبرى، استغل فيها وظيفته لتحقيق مبالغ طائلة دون وجه حق، حتى تباينت الآراء في إسرائيل بين من يرى أنها نهاية “نتنياهو” (وبالتالي فقد تم إطلاق رصاصة الرحمة على “الثعلب العجوز” بعد مراوغات طويلة من جانبه)، ومن يؤكد أنه لا يزال لـ”نتنياهو” حظوط ليست بقليلة تتيح له الإفلات، بل والاستمرار في تولي المناصب العليا، وأنه جرت مياه كثيرة في النهر منذ استقالة “إسحاق رابين” من ولايته الأولى كرئيس وزراء بسبب الفساد. بل إن الأوراق قد اختلطت رأسًا على عقب مقارنة بما جرى منذ 11 عامًا فقط حينما أيد “نتنياهو” بشدة قرارًا يقضي بإقالة أي رئيس وزراء يتم تقديم لائحة اتهام ضده. فما الذي تغير داخل هذه المنظومة؟ وهل بدلًا من أن يتوارى المتهم بالفساد ويقدم ترضيات للرأي العام ولمنظومة القضاء، كما حدث سابقًا مع رئيس الوزراء “رابين” أو رئيس الوزراء “وايزمان”، فقد صار للفساد حصانة وسمات تجنبه دفع فاتورة باهظة حتى في حالة كشف أمره؟ وما هو موقف الرأي العام الإسرائيلي من الوقائع الحالية مقارنة بوقائع جرت في عهود سابقة؟ كل هذا يقودنا إلى التساؤل: هل سيفلت “نتنياهو” هذه المرة أيضًا؟
مصير “نتنياهو”
قد يجدر بنا في البداية توضيح أنه منذ 11 عامًا، حين تم توجيه اتهامات بالفساد لرئيس وزراء إسرائيل آنذاك “إيهود أولمرت”، ظهرت على السطح آليات تعامل، كان لها دلالاتها. فقد اجتمع الكنيست اجتماعًا حاسمًا قرر في نهايته رفع الحصانة عن رئيس الوزراء، وبأغلبية 61 عضو كنيست تمت الموافقة على إقالة أي رئيس وزراء يُقدم لمحاكمة خلال ثلاثين يومًا على الأكثر. والملاحظ أنه كان على رأس الموافقين، وربما كان الصوت الذي حسم تمرير القرار، “بنيامين نتنياهو” نفسه الذي يتشبث اليوم باستمراره في مناصبه طالما لم تتم إدانته بعد!
وإذا كانت استطلاعات الرأي بالصحف الأربع اليومية الكبرى في السنوات السبع الأخيرة تظهر أن غالبية الإسرائيليين يعتقدون أن نتنياهو “فاسد”، وأن قطاع الأعمال أيضًا يسوده الفساد؛ فإنه في المقابل لا توجد ثقة كبيرة –وفق استطلاعات الرأي- في المستشار القانوني للحكومة.
تفسير التغير المكشوف في مواقف “نتنياهو” وانقسام المجتمع بشأن حجم تورطه في الفساد لا يقتصر على مقولة الكيل بمكيالين، حيث يمكن إرجاع هذا التناقض إلى أربعة عوامل:
1- باتت منظومة التحقيق والإحالة للقضاء في إسرائيل بطيئة للغاية، مما يسمح بالضغط على الشهود أو بالتلاعب في الأدلة.
2- أصبح الرأي العام الإسرائيلي متساهلًا بعد أن رأى “رابين” يعود مرة أخرى للترشح في الانتخابات، بل ويفوز، وبعد أن رأى “آرييه درعي” يعود للوزارة، بل ويتولى نفس الوزارة (الداخلية).
3- يُصر “نتنياهو” على حماية مساعديه، بل وإعادتهم للمشهد وللمناصب العليا، مما يدفعهم لحمايته وأن يكون ولاؤهم له متجاوزًا حتى أبسط قواعد الشفافية ومحاربة الفساد.
4- ابتزاز اليمين الإسرائيلي المتشدد وقطاعات من المتدينين للمنظومة القضائية وتشويهها بانتظام، مما قلص في كثير من الأحيان قدرتها على المناورة وحرية اتخاذ القرارات دون دعم وتأييد من الرأي العام.
وإذا ما تطلعنا للمستقبل سنجد أنه من غير المتوقع حدوث تحسن بقدر ملموس في المدى المنظور في هذا الملف بشكل عام، وملف “نتنياهو” بشكل خاص، إلا من خلال انقلاب داخل حزب الليكود ذاته، وهو ما عبر عنه المدون الإسرائيلي “تومار أفيطال” حيث كتب لـ”هآرتس”: لن تكون هناك ضمانة لأن يأتي لنا رئيس وزراء مهما كان انتماؤه الحزبي يعمل بنزاهة ومن أجل المواطنين، لأننا نسير على طريق معتم ومليء بالعثرات، ولذا احتمالية نجاة القائد من فخ الفساد شبه معدومة. مع ملاحظة أن رئيس الوزراء السابق في السجن، ونتنياهو مهدد بالسجن، وكل من حوله من مساعدين وأقارب تورطوا في فساد. وأن الجميع يدعم أنصاره، ويوطد علاقاته مع رجال أعمال كبار، سواء للحصول على امتيازات حالية، أو ضمان وظيفة لائقة بعد التقاعد”.
وزارة “العدل”.. حلقة الضعف الكبرى
يمكن للمراقب بقدر من التدقيق ملاحظة أنه على رأس المعارضين للتوجهات المتراخية ضد الفساد في إسرائيل، والمطالبين بتحرير منظومة القضاء في إسرائيل، عدد من وزراء العدل منهم وزير العدل السابق “دانيال فريدمان” الذي اتهم المستشار القانوني للحكومة بأنه يجامل “نتنياهو” ويوفر له سبيلًا للإفلات، خاصة في قضية فساد صفقة الغواصات والسفن. فما الذي منعهم من فرض إجراءات صارمة ضد “نتنياهو”؟ خاصة أنه في المقابل عند تقييم احتمالات إفلات “نتنياهو” بفساده سنجد أنه لا يمكن الاستهانة بها؛ فمن المؤيدين وزير العدل “أمير أوحانا”، ومن قبله الوزيرة السابقة “إييلت شاكيد”.
المواقف المتناقضة -حسب الهوى السياسي- تصدر من وزارة العدل التي تقع في شارع “صلاح الدين” وهو أهم شارع تجاري في القدس الشرقية في حي باب الساهرة، أي إن وزارة العدل الإسرائيلية نفسها تقبع على أرض محتلة مغتصبة فقط بجدارة السلاح، فهل ستكون منصفة متجردة في مواجهة الفساد؟ ويمكن أن نلاحظ أيضًا أنه من الصعب على وزير العدل أن يتخذ مواقف في الكنيست وخارجه تجاه رئيس حكومته، وهو ما تجلى كذلك في أول رد فعل مصور لنتنياهو بعد الإحالة للتحقيق، حيث أكد لأنصاره أنه مستمر، وأن من سيقرر مصيره هم الناخبون فقط. بل وألمح إلى معاقبة الشرطة والنيابة العامة بعد أن يجتاز المحاكمة.
كل ذلك، مع الوضع في الاعتبار أيضًا أن وزراء العدل في إسرائيل كانوا دومًا سياسيين مع استثناءين وحيدين، حين تم اختيار أستاذ جامعة “دانيال فريدمان” للمنصب ومن بعده المحامي “يعقوف نئمان”، ومع ذلك تورط الأخير مع “نتنياهو” في قضايا فساد (الإدلاء بشهادات كاذبة، وتأجيل انعقاد لجان لصالح فاسد آخر شهير هو وزير الداخلية “آرييه درعي”)، حيث تم إبعاده عن منصب وزير العدل في حكومة “نتنياهو” الأولى، لكنه حصل في النهاية في عام 1996 على منصب وزير المالية، وإن كان قد اضطر للاستقالة فور تقديم لائحة اتهام ضده بعد شهر واحد من توليه المنصب. لكن الأغرب أنه عاد وتولى وزارة العدل في حكومة “نتنياهو” الثانية. ولهذا لن يكون من المستغرب أن يكون وزير العدل الإسرائيلي غير متحمس لمحاكمة “نتنياهو” وسط تصريحات من قضاة سابقين –من بينهم القاضي “دانيال أرنست”- بأن تلك الاتهامات ستسقط في المحاكمة.
محاكمة “درعي” دشنت مرحلة جديدة
إذا أعدنا قراءة حالة “آرييه درعي” -زعيم حزب شاس الديني ووزير الداخلية الأسبق- كنموذج على التحول النوعي في التعامل مع الفساد الحكومي في إسرائيل، فهي بالفعل بداية تدشين مرحلة من التبجح أو التحول النوعي في الفساد داخل إسرائيل، وهو ما سار على نهجه “نتنياهو” إلى حد بعيد مع بعض الاختلافات، حيث تم توجيه اتهامات لدرعي بالفساد لتلقيه رشى وأموالًا بغير وجه حق، ولتأسيسه جمعية وهمية لدعم المساجين السابقين في القدس واستغلال ميزانيتها لمقاصد أخرى، لكنه ماطل وسوّف واستغل حق الصمت، ورفع دعاوى تراجع عنها في اللحظة الأخيرة، فتأجلت إدانته لمدة 9 سنوات كاملة، خاصة بعد تعيين مستشار قانوني للحكومة مقرب منه في صفقة مع “نتنياهو”. وحتى بعد إدانته خرج الزعيم الروحي لحزب شاس والحاخام الأكبر السابق لإسرائيل مدافعًا عنه ومفتيًا بأنه “بريء” في تحد سافر لمنظومة القضاء، زاعمًا أن الأمر يتعلق باضطهاد من الغربيين لذوي الأصول الشرقية الذين ينتمي لهم “درعي” وحزب شاس. وحين تقرر سجنه كان هناك عشرات الآلاف من أنصاره يحتشدون على باب السجن تأييدًا ودعمًا له! وفي النهاية خرج “درعي” من السجن بعد عامين ليتولى نفس الوزارة من جديد. وفي عام 2016 لاحقت “درعي” “جولة جديدة” من الاتهامات، وتمت إحالته للمحاكمة فقط في عام 2019 بتهمة: الاحتيال وغسيل الأموال والتهرب من الضرائب في مجال العقارات بشكل خاص. والمثير للسخرية أن هذه الوقائع الجديدة تمت بعد قيام الحاخام الأكبر السابق والزعيم الروحي لحزب شاس -الذي كان قد دعمه قبل دخوله السجن- بالتصريح بأنه يعتبر “درعي” “لصًّا”، وأن حوالي 40% من الناخبين يعرفون ذلك، لذا فإنه يعزله من رئاسة الحزب.
ومن المحطات التي يجدر بنا إعادة لفت الأنظار إليها -كحلقة في سلسلة- قصة “تننباوم” عقيد الاحتياط بالجيش الإسرائيلي الذي تاجر في المخدرات مع عناصر من “حزب الله”، فتم اختطافه والإفراج عنه فقط في تبادل أسرى، وهو ما كشف عن وجود دوائر فاسدة على مستويات عدة داخل الجيش الإسرائيلي وصل الأمر بها إلى حد بيع أسلحة للفلسطينيين يمكن أن يتعرض من باعها نفسه بعد ذلك لهجوم بها!
قائمة الفساد تضم أيضًا “عزار وايزمان”؛ فبعد أن كان وزيرًا للدفاع ورئيسًا للدولة تم توجيه اتهامات له بالفساد وتلقي رشى حين كان وزيرًا وعضو كنيست، لكن لتاريخه العسكري ولتقدم سنه تم التجاوز عنها بسبب عدم كفاية الأدلة أو سقوطها بالتقادم. ومع ذلك استقال من منصبه كرئيس للدولة. هذا بجانب انحراف جنسي لرئيس الدولة السابق “موشيه كتساف”، والوزير السابق “حاييم رامون”، وكذلك وزير الدفاع السابق “إسحاق مردخاي”.
إزاء هذا الواقع المعقد، طُرحت بعض الإجراءات لمواجهة ظاهرة الفساد، منها الإعلان عن جدول لقاءات المسئول واتصالاته الهاتفية إلا إذا كانت هناك حساسية ما وتلك يحددها قاضٍ، وإلزام السياسي بشفافية مطلقة في الإعلان عن مصادر دخله والأسهم التي يمتلكها، مع ملاحظة أن كمًّا كبيرًا من الفساد يتجاوز القانون تحت مسمى “قروض”، وإلزام المسئول بالإفصاح عن حجم نفقاته السنوية، والاكتفاء بولايتين فقط لرئيس الوزراء. لكن مثل هذه الإجراءات ستكون محل مقاومة بالطبع من المستفيدين من استمرارهم في السلطة وسيطرتهم شبه الكاملة على الإعلام ورجال الأعمال، نظرًا لأن ثقافة الفساد باتت سائدة في إسرائيل على أعلى مستويات، وهو ما يمكن أن نرصده من خلال توزيع غير عادل للمعونات على عدد سكان إسرائيل المحدود للغاية، وحجم التدفقات المالية من الولايات المتحدة وجهات أخرى داعمة والتي لم تنعكس على مستوى المعيشة، خاصة في أحياء جنوب تل أبيب وأحياء يتجمع بها ذوو الأصول الشرقية والإثيوبية وقطاعات لا يُستهان بها من المهاجرين من دول الكومنولث الروسي، مما يدل على فساد في توزيع الثروات والدخل.
وما يمكن استخلاصه في النهاية من رصد وقائع الفساد الحكومي الكبرى في إسرائيل في هذا السياق هو أن اليمين الذي طالما استفاد من فضح قضايا الفساد هو الذي يراوغ الآن لكي لا يترك مقاعد السلطة؛ فحين استقال “إسحاق رابين” بسبب فضيحة احتفاظ زوجته “ليئا” بحسابات بالدولار خارج إسرائيل بالمخالفة للقانون آنذاك حل محله (عام 1977) “مناحم بيجين” زعيم الليكود لأول مرة منذ قيام إسرائيل. وحين سقط “أولمرت” –بعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر فقط في المنصب بسبب وقائع فساد ارتكبها قبل شغله المنصب- وتم حبسه، حل محله زعيم الليكود أيضًا “بنيامين نتنياهو” (عام 2009). وفي المقابل يصر “نتنياهو” حتى الآن على عدم الاستقالة.
“الدولة العصرية” بآلياتها الإسرائيلية أكذوبة، لأن الفساد الأكبر هو التمييز العنصري غير المتوائم مع الحداثة. وعلى هذا وبالتدريج يصبح قبول الفساد وعدم الانزعاج من تفشيه أمرًا طبيعيًّا. وعلى هذا سيكون من المتوقع محاكمة “نتنياهو” إعلاميًّا في المقام الأول، لأن الجميع يعلم أن “نتنياهو” لن يستسلم بسهولة للإدانة التي ستكلفه مقعده المفضل، وفي الأغلب سنوات طويلة في السجن. كما أن تغير المزاج العام هو الداعم الرئيسي في مواجهة تبجح “نتنياهو” ومن حوله. في المقابل، نجد أن للمستشار القانوني للحكومة صلاحيات واسعة قد تدفع برئيس وزراء للسجن، لكنه مكبل بتوصيفه كـ”مستشار”، أي إن رؤاه يمكن قبولها أو رفضها في النهاية، في إصرار الكنيست والحكومات المتعاقبة على تكبيله.
أخيرًا، ربما يكون من أسباب “التعايش السلمي” مع الفساد الحكومي في إسرائيل محاولة جذب أعداد أكبر من المهاجرين حتى ولو جاءوا لأسباب اقتصادية ترتكز على ممارسات فاسدة لا تسنح مثلها في دول أخرى تحارب الفساد بصرامة، خاصة أن الحرس القديم كان أقل تبجحًا مقارنة بـالجيل الحالي بقيادة “نتنياهو”، هذا مع عدم إغفال أن أبرز منافسيه في اليسار ويسار الوسط تلاحقهم اتهامات بالفساد تتعلق بحوالي 50 مليون شيكل لشركة ترأسها “بيني جانتس” زعيم حزب “كاحول لافان”، وتتعلق بملايين أخرى -تحت ستار تمويل جمعية أهلية- استفاد منها “إيهود باراك” زعيم حزب العمل ووزير الدفاع ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق.