سلّط إعلان عددٍ من القبائل الليبية في برقة إغلاق كافة الحقول والموانئ النفطية شرق ليبيا (18 يناير 2020)، الضوءَ على حدود وطبيعة الدور الذي يمكن أن تقوم به القبيلة الليبية، باعتبارها طرفًا محوريًّا يمكنه التأثير على موازين القوى وترجيح كفة أيٍّ من أطراف النزاع في ليبيا، خاصة أن القبائل الليبية لعبت دورًا مهمًّا في التفاعلات والتشابكات في المشهد الليبي عبر التاريخ. وقد امتد هذا الدور ليحسم عددًا من المعارك الدائرة حاليًّا بين الجيش الوطني الليبي وحكومة “السراج”.
وقد فسرت هذه القبائل تحركها الأخير في ضوء محاولتها منع توظيف حكومة “السراج” لعوائد النفط في دعم العناصر والميليشيات المسلحة في طرابلس، فضلًا عن استخدامها في دفع أجور ورواتب المرتزقة الذين تعمل أنقرة على نقلهم من سوريا إلى ليبيا بهدف التأثير على التقدم الميداني والعسكري في ليبيا، خاصة في ظل عدد من التقارير التي تشير إلى أن تركيا ضاعفت جهودها في هذا الصدد، حيث وصل عدد العناصر التي تم نقلها للساحة الليبية -وفق بعض التقارير- إلى حوالي 2400 عنصر.
وتُعتبر القبيلة عنصرًا رئيسيًّا في ليبيا لا يمكن تجاهله في ظل التطورات الراهنة، إذ يصل إجمالي القبائل الليبية إلى ما يقرب من 140 قبيلة، موزعة بين الأقاليم الليبية الثلاثة: برقة شرقًا، وطرابلس غربًا، وفزان جنوبًا. ورغم تعدد القبائل واتساع مساحة انتشارها الجغرافي؛ إلا أن هناك ما يقرب من 30 قبيلة هي التي تملك عوامل التأثير والفاعلية في المشهد السياسي والاجتماعي الليبي.
في هذا السياق، بات من المهم الوقوف على التوزيع المناطقي والجغرافي لأبرز القبائل الليبية الفاعلة، وأوزانها النسبية، ودورها في التحولات والتطورات الحالية في الأزمة الليبية.
قبائل الشرق (إقليم برقة).. مواقف متباينة تنتهي بدعم الجيش الوطني
يُمثل إقليم برقة الجزء الشرقي من ليبيا، ويتكون من عدد من القبائل التي تتفاوت في أحجامها وأوزانها، ومن ثم قدرتها على التأثير. ويأتي في مقدمة هذه القبائل: العبيدات، والمغاربة، والبراعصة، والمسامير، والعواقير. وقد سيطرت هذه القبائل على أغلب المناصب والوظائف الأمنية والعسكرية داخل ليبيا. ومن أبرز الشخصيات التي تنتمي لقبائل الشرق: اللواء “أحمد المسماري” (المتحدث الرسمي باسم الجيش الليبي)، واللواء “عبدالرازق الناظوري” الذي يشغل منصب رئيس الأركان العامة للجيش الليبي، وكذا اللواء “ونيس بوخمادة المغربي” الذي يشغل منصب قائد القوات الخاصة التابعة للجيش الليبي، بالإضافة إلى اللواء “رمضان البرعصي” الذي كُلف في فبراير 2019 برئاسة جهاز الاستخبارات.
وحول موقف قبائل الشرق الليبي من التنافس والصراع السياسي القائم، فقد أعلنت دعمها المُطلق والكامل للتيار المدني والبرلمان الليبي في الشرق، ومناهضتها للقوى الإسلامية والعناصر الميليشياوية المتطرفة. وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال انخراط أبناء هذه القبائل في عملية الكرامة التي انطلقت في مايو 2014. كما شاركت هذه القبائل جنبًا إلى جنب مع الجيش الوطني الليبي في عدد من المعارك من بينها تحرير بنغازي ودرنة ومنطقة الهلال النفطي.
وعلى الرغم من التأييد والدعم الذي تمنحه هذه القبائل للجيش الوطني الليبي في الشرق، إلا أن الموقف قد تبدل نسبيًّا عبر مجموعة من التحولات والانشقاقات التي طالت عددًا من هذه القبائل، خاصة في أعقاب تشكيل حكومة “فايز السراج” (في مارس 2016)، حيث أعلن العقيد “فرج البرعصي” انشقاقه عن قوات الشرق وانضمامه لحكومة “السراج” في الغرب. وقد نجم عن هذا التحول حالة من الانقسام الداخلي في قبيلة البراعصة بين مؤيد للجيش الوطني لـ”حفتر” ومعارض له.
الأمر ذاته حدث في قبيلة “المغاربة” عندما قاد “إبراهيم الجضران” انقلابًا على الجيش الوطني، وشكّل تحالفًا مع قبائل مصراتة من أجل إخراج الجيش من منطقة الهلال النفطي؛ إلا أن هذه المحاولات لم يُكتب لها النجاح. وقد حاول “حفتر”، قائد الجيش الوطني الليبي، استعادة دعم أبناء القبيلة مرة أخرى وذلك عبر عقد صفقة مع زعيم القبيلة “صالح الأطيوش” أفضت إلى حصول “حفتر” على دعم القبيلة مقابل تولي “ناجي المغربي” رئاسة مؤسسة النفط، قبل أن يتم الإطاحة به من منصبه في أغسطس 2017.
في الاتجاه ذاته، شهدت قبيلة “العواقير” -الداعم الأكبر للمشير “خليفة حفتر” في الشرق- حالةً من التباينات المؤقتة التي بدأت بانشقاق “محمد منصور أقعيم” عن تحالف “حفتر” بعدما تم تعيينه وكيلًا لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني (في سبتمبر 2017)، إلا أن هذا الوضع لم يدم طويلًا، حيث تم إنهاء الخلاف وإعلان المصالحة بين قبائل العواقير والمشير “حفتر” (في سبتمبر 2018). وقد أعلن مشايخ وأعيان القبيلة دعمهم اللا محدود لـ”حفتر” في مهمته لاستعادة وتوحيد ليبيا.
إجمالًا، يمكن القول إنه رغم التباينات والانشقاقات التي طرأت على عدد من قبائل الشرق؛ إلا أن كافة القبائل باتت تؤمن بأن دعم الجيش الليبي سيؤدي إلى مزيدٍ من الاستقرار في البلاد، وهو ما تحقّق في المناطق الشرقية بفعل السيطرة الميدانية لـ”حفتر” ومعسكر الكرامة، حيث آلت الأوضاع الحالية لدعم مطلق من قبل كافة القبائل المؤثرة للجيش الليبي. وقد تجلى ذلك في عدة مظاهر، من بينها رفض هذه القبائل التدخل التركي في الأراضي الليبية، ناهيك عن رفضها التام لمذكرة التفاهم التي وقّعها “السراج” مع “أردوغان”، وهو ما تم الإعلان عنه في لقاء جمع قبائل الشرق مع رئيس البرلمان الليبي المستشار “عقيلة صالح” (في ديسمبر 2019). وقد جاء تحرك اتحاد قبائل برقة الأخير في يناير 2019 بشأن إغلاق حقول النفط لترجمة الاصطفاف المجتمعي والقبلي مع الجيش الوطني الليبي.
قبائل الغرب (طرابلس): تقدمات ميدانية تفكك الارتباط القبلي بحكومة “السراج”
يُمثّل إقليم طرابلس الجزء الغربي من ليبيا، ويضم الإقليم عددًا من القبائل ذات التأثير والجماهيرية. وتُعد قبيلة “ورفلة” من أكبر هذه القبائل، وتنتشر بصورة أساسية في بني وليد غربًا. وتتسم قبيلة “مصراتة” بالثراء، كما تتمتع بقدرات عسكرية كبيرة، إذ تُقدر عناصرها المُسلحة بحوالي 35 ألف مقاتل. كما تُعتبر قبيلة الزنتان جنوب غرب طرابلس من القبائل صاحبة التأثير في الإقليم. وتضم قبيلة ترهونة نحو 65 قبيلة فرعية، ويتركز أغلب أبنائها في جنوب شرق طرابلس. في السياق ذاته، تُعد قبيلة المقارحة التي تقطن وسط العاصمة من بين القبائل المحورية في العاصمة طرابلس.
وقد ارتبطت هذه القبائل بشكل كبير بالتيارات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، إذ تعتبر مصراتة الداعم الأكبر للإخوان في ليبيا. كما تستضيف هذه القبائل حكومة “السراج”. ورغم أن هذه القبائل اختارت منذ البداية دعم قوات “فجر ليبيا”؛ إلا أن عددًا من هذه القبائل أعلن في وقت لاحق دعمه للجيش الوطني الليبي، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال عدد من المؤشرات، منها ما جاء في البيان الختامي للملتقى الوطني العام للقبائل والمدن الليبية في مدينة ترهونة (في سبتمبر 2018)، والذي أفضى إلى ضرورة القضاء على الميليشيات المُسلحة في طرابلس وتوحيد المؤسسة العسكرية.
وقد أعلنت قبائل ترهونة دعمها للعملية العسكرية الشاملة جنوب غرب ليبيا، التي انطلقت في يناير 2019. بالمثل، أصدر مكتب المنسق الاجتماعي للقيادة العامة بالزنتان والرجبان والحريبات، وحراك أبناء الزنتان، والمجلس الأعلى لقبائل وتجمع أبناء الزنتان، بيانًا لدعم العملية العسكرية الشاملة التي سعى من خلالها الجيش الليبي إلى القضاء على العناصر الإرهابية وقوى التطرف.
في السياق ذاته، ومع بدء عملية “طوفان الكرامة” أعرب عدد من القبائل عن الدعم والتأييد للجيش الليبي، حيث أصدرت القوى المدنية والاجتماعية والعسكرية في مدينة الزنتان، في 5 أبريل 2019، بيانًا رحبت فيه بتحركات الجيش الليبي. في الوقت ذاته، نجح الجيش الليبي في السيطرة على عدد من المناطق وفقًا لما أعلنه اللواء “أحمد المسماري” (عين زاره، الزهراء، الساعدية، غريان، ترهونة) دون أن يكون هناك رفض أو تحفظ من القوى والقبائل المتمركزة في هذه المناطق، وهو ما يحمل دعمًا للتحركات الأخيرة الرامية إلى القضاء على الميليشيات والجماعات المتطرفة في العاصمة الليبية طرابلس.
وفيما يتعلق بالتدخل التركي في ليبيا، فقد أعلنت قبائل مدينة مصراتة (في 30 ديسمبر 2019) دعمها للجيش الوطني الليبي، ورفضها للتحالف والاتفاق الذي وقعته تركيا مع حكومة “السراج”. الأمر ذاته تكرر عبر عدد من البيانات المنفصلة لأعيان قبائل ترهونة وورشفانة وورفلة.
إجمالًا، يمكن ملاحظة أن كل تقدم ميداني يحققه الجيش الليبي تجاه العاصمة طرابلس يقابله دعم واضح من جانب القبائل الليبية الفاعلة في إقليم طرابلس، بما في ذلك القبائل التي كانت مناهضة للجيش الليبي ومؤيدة لحكومة “السراج” في مراحل سابقة.
قبائل الجنوب (إقليم فزان) .. محور استراتيجي
يُمثل إقليم فزان الجزء الجنوبي من ليبيا، وتتركز فيه قبائل التبو، والطوارق، وأولاد سليمان، حيث تتركز قبيلة “أولاد سليمان” في مدن سبها وأوباري والجفرة. وقد عانت هذه القبيلة من التهميش والإقصاء خلال فترة حكم “القذافي”، الأمر الذي جعلهم يقاتلون ضد “القذافي” إبان أحداث 2011. وقد دخل أبناء قبيلة التبو في صراع مع عدد من القبائل الأخرى من أجل السيطرة وبسط النفوذ في الجنوب، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال الصراع بين قبائل التبو وأولاد سليمان، حيث تعتبر الأخيرة إحدى أكبر قبائل الجنوب وتتخذ من سبها معقلًا لها. وقد امتد الصراع بين الطرفين بداية من عام 2012، ومر بمراحل مختلفة من القتال حتى تمكنت إيطاليا من لعب دور الوسيط في تهدئة النزاع بين الجانبين، الأمر الذي تُوّج باتفاق روما (في مارس 2017). ورغم هدوء الأوضاع نسبيًّا بين القبيلتين؛ إلا أن الاشتباكات بينهما تتجدد بين حين وآخر كتلك التي حدثت في فبراير 2018. وقد انضمت قبائل التبو لمعسكر الجيش الوطني الليبي خلال عملية الكرامة 2015؛ إلا أن هذا التحالف انفرط عقده على خلفية تحسن العلاقة بين المشير “حفتر” وقبيلة أولاد سليمان -الخصم التاريخي للتبو- في مايو 2018، وهو ما انعكس على رفض التبو لأي وجود للجيش الليبي في بداية العملية العسكرية الشاملة في الجنوب الليبي.
في السياق ذاته، تُعتبر قبيلة الطوارق من أبرز قبائل الجنوب، وتتركز في مدينتي غات وغدامس والتي تقف في معسكر دعم التيارات الإسلامية. وقد دخلت قبيلة الطوارق في صراع مع قبيلة التبو في أكتوبر 2014، وانتهى بوساطة قطرية أفضت إلى توقيع اتفاق للسلام بين الجانبين في نوفمبر 2015. وظل هذا الاتفاق هشًّا في كثيرٍ من الأحيان، إذ تجدد الصراع والنزاع بين الطرفين في مواقف عدة تالية لهذا الاتفاق. كما سعت أنقرة بشكل كبير لتوظيف الطوارق كوكلاء لها في منطقة ليبيا، ودعم مصالحها في منطقة الساحل والصحراء الإفريقي.
على أية حال، يُنظر للجنوب الليبي على أنه محور استراتيجي وحيوي لما يتمتع به من ثروات طبيعية كالنفط ومناجم الذهب، ناهيك عن الحدود المتاخمة مع كل من تشاد والنيجر والسودان، وهو ما يعني أن تأمين هذا النطاق الجغرافي، وتسكين الصراعات القبلية فيه، وإحكام القبضة الأمنية عليه؛ أمر لا مفر منه، وهو ما نجح فيه الجيش الليبي في يناير 2019، حيث قام بتحرير الجنوب من قبضة العناصر المتشددة.
خلاصة القول، يمكن ملاحظة نوع من الاصطفاف المجتمعي والقبلي المُساند للجيش الوطني الليبي، في مختلف الأقاليم، حيث إن أغلب القبائل المؤثرة في المشهد عملت على تجنب عددٍ من الانقسامات والخلافات البينية من أجل دعم الجيش الليبي، الأمر الذي بدت ملامحه في الظهور بشكل كبير في أعقاب إقرار البرلمان التركي الموافقة على قرار إرسال قوات إلى ليبيا، حيث أعلنت الكثير من القبائل بشكل صريح رفضها التام لهذه التحركات، وأظهرت دعمًا مطلقًا للجيش، وهو ما أظهره عدد من البيانات والتصريحات الصادرة عن عدة قبائل في مقدمتها: العجيلات، والعواقير، وأولاد سليمان، ورشفانة، وترهونة، وقبائل مصراتة، وبني وليد، والأصابعة، والجوازي، والكراغلة، وطبرق، وورفلة، والمقارحة، والرحيبات، وغيرها من القبائل. ويؤكد هذا الدعم حدود وطبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه القبائل في تعزيز الأمن والاستقرار في ليبيا، كما أنها يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في حسم الرهان لصالح بناء الدولة الوطنية الليبية، الأمر الذي استشعرته مصر في وقت مبكر من عمر الأزمة عندما استضافت ملتقى القبائل الليبية (في مايو 2015) لبحث سبل تهدئة وتسوية الصراعات القبلية كمدخل لحل سياسي للأزمة الليبية.