تستخدم الولايات المُتحدة الأمريكية العقوبات كأداة لفرض إرادتها السياسية على خصومها أو مُعارضي توجهاتها الإقليمية والدولية، بغرض فرض تحولات جوهرية في سياسات هؤلاء الخصوم، تؤدي في النهاية إلى اصطفافهم في جانبها، أو على الأقل إنهاء مُعارضتهم أو تخفيف حدتها، وفق ما يخدم المصالح الأمريكية في النهاية. في هذا الإطار، وافق مجلس الشيوخ الأمريكي في 15 ديسمبر الماضي على مشروع قانون موازنة وزارة الدفاع الأمريكية لعام 2020، الذي تضمن إلزام الإدارة بفرض عقوبات على الشركات العاملة في مشروع خط أنابيب Nord Stream 2 الذي أُنشئ لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا. ويأتي Nord Stream 2 لينضم إلى قائمة طويلة من الأسباب تستهدف بسببها الولايات المُتحدة جمهورية روسيا الاتحادية بعقوبات اقتصادية. ويأتي على رأس هذه الأسباب الغزو الروسي لأوكرانيا وضم روسيا شبه جزيرة القرم. ومُع تعدد الأسباب تتعدد الكيانات والأشخاص المُستهدفين بالعقوبات، لذلك طالت العقوبات في النهاية مئات المؤسسات الاقتصادية والأمنية، بالإضافة إلى أعداد مُقاربة من المسئولين الأفراد وصُناع القرار في شتى النواحي.
ويحاول هذا المقال تناول الأسباب السياسية والاقتصادية وراء فرض العقوبات الأمريكية على روسيا، ونطاق كل نوع منها، وفي النهاية التعرف على مدى فاعليتها.
نطاق العقوبات
تستهدف الإدارةُ الأمريكية حين فرضها عقوبات على الجانب الروسي أشخاصًا أو كيانات دون أن يمتد ذلك إلى قطاعات اقتصادية بكاملها، أو فرض حصار تام على اقتصاد الدولة على نحو ما انتهجته الإدارة مع عدد من الدول التي طالتها العقوبات. على سبيل المثال، تستهدف العقوبات الأمريكية قطاعي النفط والبنوك الإيرانيين، وكذلك قطاع النفط الفنزويلي، وتفرض حصارًا على الاقتصاد الكوري الشمالي والكوبي برمُتهما. أما في الحالة الروسية فتنصبّ العقوبات على أشخاص، مثل: الكولونيل الروسي السابق “إيجور ايفانوفيتش” “Igor Ivanovich” بسبب جهوده في مُحاربة الجيش الأوكراني في مُقاطعة “دونستيك” الأوكرانية، وكذلك رجل الأعمال الروسي “يفجيني بريجوزين” المُقرب من الرئيس “فلاديمير بوتين”، بسبب اشتراكه في نشاطات التأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وقد تُفرض كذلك على كيانات مثل مؤسسة ERPScan المُتخصصة في تقديم حلول الحماية الإلكترونية، لتدخلها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكذلك SMP Bank الذي فُرضت عليه العقوبات في إطار التدخل الروسي في أوكرانيا وضمها شبه جزيرة القرم. وتطال العقوبات الأمريكية في المُجمل 411 مؤسسة روسية و138 شخصًا حتى كتابة هذا المقال وقبل دخول عقوبات Nord Stream 2 حيز النفاذ. ويوضح الجدول التالي بعض الشركات الروسية الكُبرى والعقوبات التي تقع عليها.
جدول رقم (1): بعض الشركات الروسية الكُبرى والعقوبات المفروضة عليها

ويمكن إرجاع هذا الاختلاف في نمط الاستهداف إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
1- أهمية الاقتصاد الروسي للاقتصاد العالمي: حيث احتل الاقتصاد الروسي المركز رقم 11 على قائمة أكبر الاقتصادات من حيث الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018، واستمر في شغل ذات الترتيب في عام 2019 وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي بما يُعادل 1.63 تريليون دولار، وهو رقم لا تستطيع الولايات المُتحدة إخراجه أو إخراج جزء مُعتبر منه من الاقتصاد العالمي.
2- تجارة النفط والغاز الروسية: حيث يعتمد الاقتصاد الروسي في الأساس على تصدير النفط والغاز، حيث تُعتبر روسيا ثاني أكبر مُصدّر للنفط في العالم، كما بلغت صادراتها من الغاز 247 مليار متر مُكعب من الغاز يوميًّا، توجه منها 201 مليار متر مُكعب إلى أوروبا التي بلغ إجمالي وارداتها 320 مليار متر مُكعب من الغاز يوميًّا، الأمر الذي يعني أن جزءًا كبيرًا من الطاقة الأوروبية يأتي من روسيا، وهو ما يستوجب دفع مبالغ ضخمة في المُقابل، وبالتالي فإن استهداف قطاع الطاقة أو القطاع المصرفي الروسي ينعكس بشكل مُباشر على القطاعين المُقابلين في أوروبا.
3- القوة العسكرية الروسية والقوة الاستراتيجية الكبيرة التي يُمكن أن توجَّه إلى زعزعة استقرار السلم والأمن الدوليين إذا ما هددت العقوبات قطاعات اقتصادية رئيسية، ينتُج عنها تأثير على مُجمل الاقتصاد الروسي.
أسباب العقوبات
تتعدد أسباب فرض العقوبات الأمريكية على روسيا لتتضمن تسعة أسباب، هي: الغزو الروسي لأوكرانيا، الأنشطة السيبرانية للتأثير على انتخابات الرئاسة الأمريكية، انتهاك حقوق الإنسان والفساد (Sergei Magnitsky Act)، مواجهة النفوذ الروسي في أوروبا وأوراسيا، استخدام السلاح الكيماوي، انتهاك حظر انتشار الأسلحة، انتهاك العقوبات على كوريا الشمالية، دعم سوريا وفنزويلا، بالإضافة إلى أسباب متنوعة أخرى، ونكتفي فيما يلي باستعراض اثنين من تلك الأسباب.
1- الغزو الروسي لأوكرانيا
مُعظم العقوبات المفروضة على روسيا تأتي ضمن هذا السبب، ويأتي فرضها بموجب أربعة أوامر تنفيذية صادرة من رئيس الولايات المُتحدة الأمريكية، أهمها:
أ- الأمر التنفيذي 13660: صدر في 6 مارس 2014، مُستهدفًا الأفراد والكيانات المسئولة عن تقويض الديمقراطية في أوكرانيا، وتهديد سلامها أو أمنها أو استقرارها أو سيادتها أو سلامتها الإقليمية؛ أو من اختلس أصولًا أوكرانية، أو عرقل بشكل غير قانوني سلطة الحكومة الأوكرانية. وتطال العقوبات بموجبه في وقت كتابة المقال إجمالي 140 فردًا وكيانًا من بينها عشرة كيانات روسية من بين أهمها (Gaz-Alyans Kompania)، وسبعة أفراد روس أهمهم اللفتناتنت كولونيل (Dmitry Utkin) قائد شركة الأمن الخاصة فاجنر جروب (Wagner Group).
ب- الأمر التنفيذي 13661: صدر في 16 مارس 2014، مُستهدفًا مسئولي الحكومة الروسية العاملين في قطاع الأسلحة أو الأسلحة ذات الصلة في روسيا، والكيانات التي يملكها أو يسيطر عليها مسئول حكومي روسي رفيع، والأشخاص الذين يتصرفون نيابةً عن مسئول حكومي روسي رفيع أو يساعدونه أو يدعمونه. وتُفرض بموجبه عقوبات على 158 فردًا وكيانًا، بينهم 50 كيانًا و35 فردًا روسيًّا، من بين أهمهم في وقت كتابة المقال “أندري أكيموف” (Andrey Akimov) رئيس مجلس إدارة بنك عملاق الغاز الروسي (Gazprom bank).
ج- الأمر التنفيذي 13662: صدر في 24 مارس 2014، مُستهدفًا كيانات روسية تعمل في قطاعات النفط والتمويل والدفاع. وفي الوقت الحالي تطال هذه العقوبات أربعة أفراد و263 مؤسسة روسية من بين أهمها جازبروم (Gazprom).
2- مواجهة النفوذ الروسي في أوروبا وأوراسيا
مع تصاعد التحركات الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، والتحركات الروسية في سوريا وأوروبا، وكذلك استمرار كوريا الشمالية في أنشطتها العسكرية، وافق الكونجرس في 27 يونيو 2017 على قانون ” Countering America’s Adversaries Through Sanctions Act” (CAATSA) الذي شمل اتخاذ إجراءات اقتصادية عقابية ضد الدول الثلاث. وبينما تصدرت إجراءات مواجهة الأنشطة الإيرانية في المنطقة القسم الأول من القانون، احتلت الإجراءات الموجهة لعقاب روسيا الجزء الثاني، وأجمل القانون كُل ما سبق اتخاذه من عقوبات ضد روسيا في مكان واحد وأضاف إليها، بما أتاح للرئيس الأمريكي أو الكونجرس فرض عقوبات على روسيا في أي من الأُطر التالية: (1) الأمن السيبراني، (2) مشاريع النفط الخام، (3) المؤسسات المالية، (4) الفساد، (5) انتهاكات حقوق الإنسان، (6) التهرب من العقوبات، (7) المعاملات مع قطاعات الدفاع أو الاستخبارات الروسية، (8) خطوط أنابيب التصدير، (9) خصخصة الأصول الحكومية من قبل المسئولين الحكوميين، و(10) عمليات نقل الأسلحة إلى سوريا. وحتى وقت كتابة المقال بلغ عدد الروس المُستهدفين بهذا القانون 16 فردًا وثلاثة كيانات بينها المُخابرات المدنية الروسية (FSB) والمُخابرات العسكرية الروسية (GRU).
الانعكاسات الاقتصادية
قبل تناول الانعكاسات الاقتصادية للعقوبات يجب الإشارة أولًا إلى أن الاقتصاد الروسي يعتمد بصورة أساسية على صادرات النفط والغاز، حيث بلغت الإيرادات النفطية ما نسبته 40% من إجمالي الإيرادات، بما قيمته 5971 مليار روبل في عام 2017، 46% منها في عام 2018 بما قيمته 9017 مليار روبل. وبالتالي يمكن القول إن الأوضاع الاقتصادية الروسية تتناسب طرديًّا مع أسعار النفط والغاز، ومن ثم فإنه من الصعوبة بمكان عزل تأثير العقوبات عن نواتج التذبذبات النفطية، لكن يُمكن الجزم وفقًا لنتائج العديد من الدراسات بأن تأثر الاقتصاد الروسي بأسعار النفط أكبر بكثير من تأثره بالعقوبات، ولذلك فقد شهد العامان 2014 و2015 اللذان انخفضت فيهما أسعار النفط وبدأت فيهما العقوبات تتخذ شكلًا جديًا أصعب الأوقات على الاقتصاد الروسي. ويُمكن توضيح ذلك من خلال استعراض عجز الموازنة العامة الاتحادية خلال الفترة 2006-2018 في الشكل التالي.
يتضح من الشكل أن الأعوام بداية من 2012 وحتى 2016 شهدت اتجاه الموازنة إلى تحقيق عجوزات متوالية مُتأثرة بأسعار النفط بالأساس، لكن التأثير بلغ أشده في السنوات من 2015 وحتى 2017 عندما تزامنت العقوبات الاقتصادية مع انخفاض الأسعار. وتُشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أنه فيما بين عامي 2014 و2018، تباطأ النمو الاقتصادي الروسي بمعدل 0.2% سنويًّا نتيجة العقوبات، أو أن الاقتصاد الروسي قد خسر تريليون روبل (15 مليار دولار) خلال تلك الفترة نتيجة العقوبات، بينما أسفر انخفاض أسعار النفط عن أكثر من ثلاثة أمثال التباطؤ في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بمعدل 0.65% أو 48.7 مليار دولار خلال كامل الفترة في المتوسط خلال الفترة نفسها. ويوضح الشكل التالي التأثير التراكمي لعوامل التباطؤ خلال الفترة ذاتها:
وهناك نوع آخر من التكلفة، حيث استثمرت روسيا بشكل كبير لتطوير مناعتها ضد العقوبات، إذ خفضت جزئيًّا اعتمادها على الواردات في القطاعات التي تطالها العقوبات بشكل مُكثف، مثل صناعة الأسلحة، حيث اعتمدت برامج إحلال الواردات. كذلك عجلت بإنشاء نظام دفع وطني داخلي عن طريق بطاقة ائتمان محلية أطلقت عليها “Mir”. كما أنشأت بنكًا مخصصًا للتمويل دون التعرض للنظام المصرفي العالمي المُسيطَر عليه من الولايات المتحدة الأمريكية، لتقديم خدمات التمويل للشركات الخاضعة للعقوبات أُطلق عليه (Promsvyazbank). وتُعزز هذه الاستثمارات استقلالية القرار الوطني، وتُساعد روسيا على تكوين مناعة أكبر ضد العقوبات، لكنها كذلك تكلف الميزانية العامة للدولة مبالغ طائلة لم تكن روسيا لتتكلفها دون وجود عقوبات.
مدى فاعلية العقوبات
فشلت العقوبات الأمريكية على روسيا في ثنيها عن سياساتها على جميع المستويات. فعلى صعيد أوكرانيا لم تتخلّ روسيا عن ضمها شبه جزيرة القرم، وفي الوقت نفسه لم تتوقف عن تعزيز القوات الانفصالية في شرق أوكرانيا، بل عززت نشاطها في البحر الأسود وبحر أزوف، مما أسفر عن معركة بحرية بينها وبين البحرية الأوكرانية انتهت إلى احتجاز ثلاث سفن لتلك الأخيرة. أما فيما يتعلق بشأن نشاط روسيا في سوريا، فقد عززت كذلك من وجودها في سوريا، ونقلت الآلاف من قواتها إلى داخل الأراضي السورية، وطورت من قواعدها الجوية والبحرية بها. كذلك، لم تُسفر العقوبات عن تقليل الخطر السيبراني الروسي، إذ لا تزال تُكثف نشاطها ضد الولايات المُتحدة وحُلفائها في الغرب، كما أن سجل روسيا في مجال حقوق الإنسان لم يتحسن.
وقد دفع ضَعفُ فاعلية العقوبات وعدم تأثيرها في اتجاهات السياسة الروسية البعضَ إلى الدعوة لتشديدها أفقيًّا، بحيث تطال المزيد من شركات القطاع الاقتصادي الواحد فيتضرر الأداء الكُلي للقطاع، أو رأسيًّا بحيث تطال قطاعات اقتصادية كاملة على نحو ما استهدفت العقوبات قطاع النفط والمصارف الإيرانيين والتي أسفرت عن تحولات جذرية ليس على الاتجاهات الحكومية ولكن على طريقة تعاطي المواطنين مع الحكومة ذاتها. لكن الولايات المُتحدة لا يُمكنها توجيه عقوبات بمثل هذه الشدة لقطاعي النفط والمصارف الروسية بسبب شراكتهما الوطيدة مع المصالح الأوروبية. وإذا كانت أوروبا تشاكس الولايات المُتحدة بشأن إيران، فإنها ستقف ضدها لا محالة في حالة فرضها عقوبات تستهدف هذين القطاعين في روسيا. ولعل أبرز الدلائل على ذلك ما وجّهته الحكومة الألمانية من نقد للعقوبات الأمريكية الجديدة على Nord Stream 2.
خلاصة ما سبق، إن الولايات المُتحدة تفرض العديد من العقوبات على مئات الأشخاص والكيانات الروسية في شتى القطاعات الاقتصادية، مما أسفر عن تباطؤ اقتصادي طفيف ومحدود التأثير على الاقتصاد الروسي الكُلي، وهو ما أدى إلى ضعف الاستجابة الروسية لهذه العقوبات وقلل فاعليتها، حيث توسعت جميع الأنشطة الروسية التي فُرضت على أساسها العقوبات في البداية، وعلى كافة المستويات، سواء في أوكرانيا أو سوريا وحتى الفضاء الإلكتروني.