شهد الخميس 6 ديسمبر 2018 اجتماعا بين رئيس الجمهورية، عبد الفتاح السيسي، ورئيس قسم الإنتاج بشركة مرسيدس بنز الألمانية، ماركوس شيفر، في حضور وزير التجارة والصناعة، عمرو نصار. تناول اللقاء بحث فرص التعاون في مجال تصنيع السيارات الكهربائية بفئاتها المختلفة. ورغم أهمية هذا الموضوع، ودلالاته بالنسبة لوجود رؤية لدى الدولة المصرية بشأن إصلاح منظومة النقل، والتي قد تتجاوز الأبعاد المحلية لتصبح عابرة للمنطقة، لكن رغم كل ذلك لم يحظ هذا اللقاء بالاهتمام المناسب من جانب وسائل الإعلام المختلفة.
يحتل قطاع النقل في أي دولة مركزاً متقدماً في ترتيب أولويات الحكومة لخدمة مواطنيها، حيث يعد هذا القطاع من الخدمات الأساسية المؤثرة في جودة مستويات المعيشة. كما يعتبر من أهم بنود الموازنات والميزانيات العامة، لعلاقات التشابك القائمة بين القطاع وقطاعات اقتصادية أخرى عديدة، مثل السياحة والبيئة والاستثمار، فضلا عما يمثله من فرصة كبيرة للتعاون بين القطاعين العام والخاص. حتى أن ميزانية قطاع النقل وتطويره تكون في بعض الأحيان الأكبر على الإطلاق والأكثر تعقيداً مقارنة بباقي القطاعات في دول شتى. وذلك بسبب ارتباطها المباشر بسعر المحروقات ومصادر الطاقة، والزيادة السكانية، والنشاطات المختلفة للاستثمار، ومعدلات الأجور، والدعم.
وفي مصر، بشكل خاص، شهدت السنوات الأخيرة تحولات جذرية في مجال قطاع النقل. فخلال السنوات الأربع من 2014 وحتى 2018 تم الانتهاء من إنشاء 11 طريق جديد، بإجمالي أطوال بلغت 865 كم، وتكلفة إجمالية قدرها 13,2 مليار جنيه. كما تم رفع كفاءة 2000 كم بتكلفة 6 مليار جنيه. وتم إنشاء العديد من المحاور والجسور المختلفة، وعمل محاولات عدة لتحسين خدمتي قطارات السكك الحديدية وقطارات الأنفاق. لكن هذه الخطوات لازالت غير كافية لضمان مستوى خدمة جيد وكافي للمواطن المصري. فمازالت كثافة إشغال الطرق بمصر من الأعلى بالمنطقة، خاصة في ضوء زيادة عدد المركبات المرخصة إلى 9 مليون و400 ألف بنهاية عام 2016، أكثر من ثلثهم بالقاهرة والجيزة فقط. وتخطى عدد ركاب قطارات السكك الحديدية بأنحاء الجمهورية حاجز 22 مليون راكب شهرياً في نوفمبر 2018. كل هذا وسط زيادة لأسعار الوقود، وتذاكر المواصلات العامة. كما تسببت كل تلك العوامل في تعاظم نسب التلوث في المدن، وحجم الانبعاثات، وعلى رأسها أول أكسيد الكربون والجسيمات المعلقة، حتى أصبحت جودة هواء القاهرة أسوأ من المستوى المعياري العالمي بنحو 10 أضعاف إلى 100 ضعف في بعض المناطق. وتتراوح عدد الوفيات الناتجة من الأمراض المرتبطة بتلوث الهواء في القاهرة وحدها بين 10 ألاف إلى 25 ألف حالة سنوياً.
شكل رقم (1): تسعيرة الوقود بمصر بعد تعديل 2018
ويأتي التحول لمنظومة نقل كهربائية على رأس الحلول العالمية، على خلفية المزايا العديدة، الاقتصادية والبيئية، لهذه المنظومة. وهناك العديد من المؤشرات على التحول العالمي إلى منظومة النقل الكهربائية. من ذلك، على سبيل المثال، الزيادة المتسارعة في مبيعات الحافلات الكهربائية الصينية في فترة وجيزة، حيث تضاعفت تلك المبيعات 70 ضعفا لتصل إلى 115,700 حافلة في عام 2016 وحدها، مقارنة ب1,672 حافلة فقط في عام 2013. كما أصبحت المدينة الصينية “شينزين” أول مدينة في العالم تنجح في تحويل 100% من حافلاتها العامة للعمل بالبطاريات الكهربائية. فقد بدأت المدينة هذا المشروع في عام 2009 (بلغ حجم أسطولها للنقل العام 16,359 حافلة -حوالي 17% من إجمالي عدد الحافلات العامة في الصين-، تخدم 12 مليون مواطن في عام 2018).
وفي الربع الثاني من العام الجاري 2018، أعلنت أكثر من 20 وكالة نقل أمريكية أنها لن تشتري حافلات تعمل بالوقود التقليدي مجدداً، وأنها سوف تقوم إحلال الحافلات الكهربائية محل الحافلات التقليدية. كما قررت مدينة نيويورك التحول إلى الحافلات الكهربائية بشكل كامل خلال العقدين القادمين. تم ذلك عقب إعلان واشنطن إدخال 14 حافلة كهربائية لخدمة السياح ورواد المتاحف والأماكن الأثرية والنصب التذكارية. وفي هذا الإطار، نشرت الشركة المصنعة لتلك الحافلات بياناً صحفياً، ركزت فيه على المزايا التي ستترتب على هذا القرار، منها توفير 336,523 لتر من الوقود، وحوالي 110 طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الضارة سنوياً. كما أكدت على توفير 6 ملايين دولار خلال 12 عاماً من العمر الافتراضي للحافلات.
شكل رقم (2): مبيعات الحافلات الكهربائية الصينية سنوياً
ويشكك بعض الاقتصاديين والباحثين في الجدوى الحقيقية من التحول إلى المركبات الكهربائية. ويستندون في ذلك إلى أسعارها المرتفعة بالمقارنة بالمركبات العادية، وصغر المسافات التي تستطيع قطعها دون توقف، إذ أن معظم المركبات الكهربائية تستطيع قطع مسافة لا تتعدى 160 كم، وهو ما يعيق فرص الاعتماد عليها في الانتقال عبر المحافظات والمدن المتباعدة. كما أن الوقت المستغرق لشحن بطارية المركبة بالكامل يزيد عن الساعة، بل ويصل لعدة ساعات في بعض الطرازات، مقارنة بالزمن البسيط لإعادة ملء خزان الوقود في المركبات التقليدية. أضف إلى ذلك عدم جاهزية البنية الأساسية المصممة لخدمات المركبات الكهربائية بأنواعها، في العديد من الدول. كذل فإن حداثة هذه التكنولوجيا نسبياً يعني نقص عالمي في العمالة الماهرة المتخصصة في صيانة تلك المركبات. أخيرا، يشير هؤلاء إلى بطء انتشار محطات الشحن بالشوارع العامة.
لكن رغم هذه المشكلات، فإن تقييما موضوعيا لهذه الصناعة وجدوى هذا التوجه يجب أن تأخذ في الاعتبار حداثة هذه التكنولوجيا، وهو ما يعني أنها تحتاج بعض الوقت حتى تنتقل إلى مستوى الاستهلاك الواسع، ما يدفعها إلى مزيد من التقدم، ويجر أسعارها إلى الانخفاض. علاوة على ذلك، تظل تكاليف الشحن الكهربي أرخص من أسعار الوقود على المدى الطويل، خصوصاً مع اتجاه المزيد من الدول لتقليص الدعم على المحروقات. حتى أن صحيفة الجارديان قد نشرت تقريراً في عام 2015 يوضح أن السيارات الكهربائية أصبحت أرخص من تلك المعتمدة على الوقود، بعد حساب قيمة السعر الأولي والضرائب والتأمين والصيانة والوقود. ولحل مشكلة ندرة محطات الشحن وقصر المسافات القادرة على قطعها المركبات الكهربائية قام مصنعوها بابتكار نوع هجين Hybrid منها قابل للتزود بالوقود وبالكهرباء، لضمان عدم توقف السيارة في حالة أن فرغ الشحن في أي وقت.
من هنا تتضح الأسباب التي وجهت الدولة المصرية للبدء في انتهاج سياسة مختلفة لإدارة منظومة النقل، تضمن بها تحسين مستوى الخدمة مع تقليل العبء الاقتصادي على الدولة والمواطن والناتج خصوصاً من أسعار المحروقات. وإن كان انفتاح الدولة المصرية للتعاون مع شركة مرسيدس بنز خطوة مميزة نحو تلك السياسة، لكنه ليس أولى الخطوات. إذ طرحت وزيرة البيئة اقتراحاً لتحويل شبكة المواصلات العامة المصرية إلى الكهرباء بدلاً من المركبات المعتمدة على المحروقات النفطية، في محاولة لتقليص الانبعاثات الكربونية ومصادر التلوث الناتجة عن قطاعات النقل العامة المختلفة في مصر. ويأتي هذا الاقتراح ضمن الإطار العام لخطة الوزيرة، حيث أقامت فور توليها منصبها في يونيو 2018 اجتماعاً لمناقشة تحقيق سياسة مواصلات مستدامة لمصر، يأخذ في الاعتبار التكنولوجيات الحديثة في هذا المجال، بجانب الجدوى الاقتصادية لهذا الاقتراح. وفي مايو 2018، أعلنت هيئة النقل العام المصرية إدراج الدفعة الأولى من الحافلات الكهربائية بالإسكندرية البالغ عددها 15 حافلة. ويعد ذلك أول خطوة جدية في التعاون بين شركة BYD الصينية والحكومة المصرية للتعاون بشأن الاستعانة ببدائل لوسائل النقل التي لا تعتمد على المحروقات بصورة مباشرة. وهي خطوة أخذت خمسة شهور للتفعيل منذ توقيع العقود في يناير 2018، لتصبح الإسكندرية أول مدينة مصرية وشرق أوسطية تعتمد -ولو جزئيا- على حافلات كهربائية.
وبعيداً عن مجال الحافلات، أعلنت وزارة النقل في يناير الماضي عن البدء في تنفيذ مشروع القطار الكهربي السريع، الذي سيعبر بمدن الإسكندرية والعلمين والقاهرة والعاصمة الإدارية الجديدة والعين السخنة وأسيوط والأقصر وأسوان. ولدعم السيارات الكهربائية الخاصة في مصر أتيح للقطاع الخاص الدخول لهذه السوق، ليس فقط بتوريد السيارات والبطاريات وقطع الغيار، بل بتوفير مراكز الشحن والخدمة أيضاً. فقد تم حتى الآن إنشاء 65 محطة للشحن في العديد من المدن والطرق الرئيسية في 7 محافظات مختلفة.
شكل رقم (3): خريطة توضح أماكن محطات الشحن في مصر
نخلص مما سبق، إلى وجود تحرك واضح من جانب الدولة المصرية نحو دعم التحول لمنظومة النقل الكهربائية، ليس فقط لمزاياها البيئية، ولكن أيضاً لمزاياها الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن تأثيراتها الإيجابية بعيدة المدى على الموازنة العامة للدولة. ولا يختلف الأمر بالنسبة للمواطن الفرد، إذ لا يمكن تجاهل الآثار والمكاسب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والصحية على المواطن. ربما لا يكون ذلك واضحا على المدى القصير لكن على المدى الأبعد لا يمكن تجاهل هذه التأثيرات. أضف إلى ذلك الدور المهم الذي سيلعبه التحول المصري المبكر إلى هذه التجربة في بناء الخبرة المصرية في هذا المجال.