انطلقت أعمال الدورة التاسعة لمنتدى “فالداي” الدولي للحوار، بالتعاون مع معهد الاستشراق الروسي، بالعاصمة الروسية موسكو، يومي 17-18 فبراير 2019، تحت عنوان “الشرق الأوسط في زمن التغيرات: نحو هندسة استقرار جديد”، بمشاركة أكثر من 50 مسئولًا وخبيرًا من 20 دولة؛ لمناقشة أهم التحديات والسيناريوهات التي تحملها عشرينيات هذا القرن لمستقبل منطقة الشرق الأوسط.
منتدى “فالداي” الذي تأسس في عام 2004 يهدف إلى تشجيع النقاش بين النخب الفكرية الروسية والدولية، وطرح تحليلات أكاديمية مستقلة حول التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في روسيا والعالم؛ بغية التغلّب على الأزمات العالمية الراهنة، وتسليط الضوء على توجهات السياسة الخارجية الروسية.
ويعود اهتمام منتدى “فالداي” بإقليم الشرق الأوسط إلى عام 2009. وسبق أن استضاف كلٌّ من: الأردن، ومالطا، والمغرب، ومدينة سوتشي الروسية، دورات سابقة له، قبل أن يتقرر في عام 2016 عقد هذه المؤتمرات سنويًّا في موسكو، واهتمام موسكو بالتعاون مع دول الشرق الأوسط، باعتبارها مركزًا لتشابك مصالح الدول العظمى. ومن خلال هذا المنتدى سعت روسيا لإفساح المجال لمناقشة الأزمات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإيجاد حلول لها.
وتطرق المنتدى في دورته هذا العام لعدد من القضايا التي شهدت جملة من التحولات في منطقة الشرق الأوسط، ومن بينها: الخطة الأمريكية لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والموقف الروسي منها، بالإضافة إلى عددٍ من التحديات الأخرى التي تواجه المنطقة، خاصة قضايا البيئة، والمياه، والديموغرافيا الاجتماعية، والبطالة. في الوقت ذاته، سلّطت أجندة المنتدى الضوءَ على التدخلات الأجنبية في المنطقة وتأثيراتها على السلم والأمن الدوليين، وظاهرة الدول الراعية للجماعات والتنظيمات المسلحة، وذلك بهدف وضع رؤية لمستقبل منطقة الشرق الأوسط.
الرؤية الروسية لاستقرار الشرق الأوسط
تُرجع موسكو التوترات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى التدخلات الغربية، حيث تذهب الرؤية الروسية إلى أن مثل هذه التدخلات من شأنها أن تُفاقم الأوضاع في المنطقة، خاصة أنها تُساهم في انتشار الإرهاب والتطرف، فضلًا عما تُنتجه هذه التدخلات من ارتفاع معدلات اللجوء، وغيرها من التداعيات الإنسانية. وتقوم الرؤية الروسية بشأن ضمان السلام في المنطقة انطلاقًا من احترام قواعد القانون الدولي والسلامة الإقليمية لدول المنطقة واحترام الحدود. في الوقت ذاته، ترى موسكو أنّ أحد أبرز التحديات الراهنة في المنطقة تتمثل في محاولة فرض القيم الغريبة ونماذج التنمية على شعوب المنطقة دون النظر للخصوصية الثقافية والمجتمعية للمنطقة. من ناحية أخرى، ترى موسكو أن خطة السلام الأمريكية التي طرحها البيت الأبيض قد تتسبب في مزيدٍ من زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط.
وتتبلور استراتيجية موسكو فيما يتعلق بمنع التصعيد في صراعات الشرق الأوسط في ضرورة العمل بشكل استباقي لمنع ظهور صراعات جديدة. وتقترح موسكو تشكيل آلية أمنية جماعية متكاملة، تسعى من خلالها دول المنطقة إلى التخلي عن استخدام القوة في حل المسائل الخلافية، واحترام سيادة دولها وسلامة أراضيها، وإقامة “خطوط ساخنة”، وتبادل الإخطارات بصورة مسبقة حول إجراء التدريبات وطلعات الطيران العسكري، وتبادل المراقبين، وعدم نشر قوات لدول خارج المنطقة على أساس دائم على أراضي دول الخليج، وتبادل المعلومات بشأن القوات المسلحة وشراء الأسلحة، إضافة إلى ضرورة إطلاق حوار تدريجي حول تقليص الوجود العسكري الأجنبي بالمنطقة، ووضع تدابير مشتركة لبناء الثقة بين دول الخليج والدول الأخرى، مع إحراز تقدم في إنشاء هيكل نظام أمن خليجي.
السياق العام لعقد منتدى “فالداي”
تَرَكَّزَ النقاش داخل منتدى “فالداي” هذا العام على عددٍ من القضايا، نعرضها فيما يلي:
1- مستقبل الشرق الأوسط في ظل التدخلات الأجنبية: توافق المتحدثون على أن التدخل الأجنبي في شئون الشرق الأوسط قلص من سيادة بعض الدول، وأن الصراعات التي تدور رحاها في دول المنطقة تعود أسبابها بدرجة كبيرة لهذا التدخل، مع ضرورة التمييز بين التدخلات الشرعية من قبل المؤسسات الدولية الرسمية التي تُعد مقبولة بدرجة ما لتصحيح أوضاع معينة، والتدخلات الفردية من قبل بعض القوى الأجنبية في شئون الدول دون موافقة أممية سعيًا لحماية مصالحها أو لتغليب أحد الأطراف على الآخر. وقد خَلُصت النقاشات إلى رفض التدخلات الأجنبية في شئون المنطقة، كونه يسهم في عدم الاستقرار وتنامي الصراعات. ومن ثم، فقد دعا المنتدى إلى ضرورة الحدّ من الضغوط الخارجية، واحترام الحكومات الشرعية وسيادة الدول.
2- تراجع الدور الأمريكي: كشفت النقاشات داخل منتدى “فالداي” عن اتجاهين أساسيين بشأن الدور الأمريكي في المنطقة. الاتجاه الأول، يرى أن هناك تراجعًا واضحَا للدور الأمريكي، في ظل تنامي واتساع حدة الصراعات. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت هي الفاعل الأكثر انخراطًا في المنطقة لعقود من الزمن؛ إلا أنها لم تنجح في حلحلة أيٍّ من الصراعات بالمنطقة، بل كانت في بعض الأوقات سببًا في تنامي حدتها. وقد رأى مؤيدو هذا الاتجاه أن تراجع الولايات المتحدة من شأنه أن يضر بحلفائها في المنطقة. الاتجاه الثاني، يرى أن هناك مبالغة فيما يتعلق بالانسحاب الأمريكي من المنطقة، بدليل قيام الإدارة الأمريكية بطرح خطتها للسلام، كما أن طبيعة وحدود التصعيد الأمريكي الإيراني في المنطقة، والرغبة في الحفاظ على مصالحها، يجعل الانسحاب الكلي مستبعدًا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. ناهيك عن الرغبة الأمريكية في مجابهة نفوذ منافسيها التقليديين (الصين وروسيا)، الأمر الذي يجعلها حريصة على استمرار نفوذها.
3- موسكو وسيط مقبول: عززت روسيا دورها في منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها وسيطًا مقبولًا لدى جميع الأطراف والفاعلين في المنطقة، حيث تمكنت من كسب ثقة هذه الأطراف، وهو ما ساهم في مزيدٍ من النفوذ والفاعلية، الأمر الذي اعتبره البعض استعادة للمكانة الروسية في قضايا المنطقة، وهو ما يمكن ملاحظته في عدد من المؤشرات منها: ترحيب الفلسطينيين بالمقترح الروسي الداعي لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عن طريق الرباعية الدولية، إضافة إلى نجاح روسيا في استعادة وحدة الأراضي السورية عبر دعمها الجيش السوري في استعادة أكثر من 90% من أراضيها، وذلك من خلال مجموعة من الأدوات والوسائل التي تتراوح ما بين الدعم العسكري والمساندة السياسية.
4- القوى الإقليمية وصراع النفوذ: شدد المشاركون على حدود وطبيعة التنافس بين القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة (إسرائيل، وإيران، وتركيا)، حيث أصبحت تلك الدول أطرافًا رئيسية في نزاعات المنطقة، على خلفية بحث كل طرف عن تحقيق أكبر قدر من المكاسب في إقليم يشهد مزيدًا من التوتر بفعل التحولات القائمة. وقد تمايزت أهداف تلك الأطراف عن بعضها بعضًا؛ إذ تسعى أنقرة إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي عبر التدخلات في شئون دول الجوار، في حين تبني طهران سياسة توسعية سمحت لها بالسيطرة على نحو أربع عواصم عربية، بينما تعمل إسرائيل على تعزيز شرعيتها ووجودها عبر عدد من المحاولات لتغيير صورتها لدى شعوب المنطقة، ومن ثم التوجه نحو مزيد من التطبيع مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية. وقد اتفق المشاركون على أن تصدع النظام العربي قد فتح المجال لتلك الدول لطرح مشروعها بما يخدم بالأساس تعاظم النفوذ الإقليمي لكلٍّ منها، والسعي لوضع أسس لنظام إقليمي جديد، سواء من حيث توازنات القوى في المنطقة أو طرح رؤى فكرية وأيديولوجية لوضع المنطقة وهويتها، وصولًا إلى استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر للتدخل في بؤر الصراع المُشتعلة في الإقليم.
5- الشرق الأوسط.. احتجاجات مُتصاعدة: ناقش المنتدى العوامل الهيكلية وراء اتساع الاحتجاجات وتصاعدها في منطقة الشرق الأوسط، ومن بينها تنامي الغضب الشعبي، بالإضافة إلى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وانتشار الفساد، وسوء الإدارة، وتنامي معدلات البطالة، مما دفع الرأي العام للمطالبة بالتغيير. ورغم أن بعض الدول قد شهدت عددًا من التغيرات، إلا أن هناك عددًا من الدول لا تزال تشهد صراعًا بين الأطراف الداخلية الفاعلة وعدد من القوى الخارجية، الأمر الذي يمكن الإشارة إليه في مجموعة من الصراعات، وفي مقدمتها: الأزمة السورية، والأزمة الليبية، والأزمة اليمنية. كما شهد عام 2019 اتساع حدة الاحتجاجات، وانتقالها لعدد من الساحات الأخرى، ومنها: السودان، والجزائر، ولبنان، والعراق، وإيران. وتوقع الحضور استمرار الاحتجاجات ما لم يتم معالجة أسبابها بشكل جذري.
مجمل القول، خَلُصَت نقاشات منتدى “فالداي” إلى أن منطقة الشرق الأوسط تواجه عددًا من التحديات المستقبلية نتيجة استمرار الصراعات، والحروب بالوكالة، والنقص الحاد في الموارد الطبيعية، وندرة المياه، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، والاستقطاب المجتمعي الحاد، إضافة للتدهور البيئي والتغيرات المناخية، الأمر الذي يجعل مستقبل المنطقة غامضًا ومعقدًا بشكل كبير، ويزيد من فرص استمرار الفوضى في المنطقة. ومع ذلك، فقد طرح البعض مسارًا أكثر تفاؤلًا للمنطقة؛ إذ اعتبر البعض أن نقطة التحول تكمن في خلق مناخ أكثر تعددية من خلال مجتمع مدني فاعل، واحترام الحقوق والحريات وقبول الآخر، لكن تبقى فرص استقرار المنطقة مرهونةً بقدرة أصحاب المصالح -الداخليين والخارجيين- على بناء توافقٍ فيما بينهم.