يقولون إن كل نازلة كاشفة، حيث أظهرت محاولة الاغتيال الفاشلة ضد رئيس الوزراء السوداني “عبدالله حمدوك” في صباح 9 مارس 2020 في الخرطوم مدى هشاشة مؤسسات الحكم الانتقالي في السودان. ربما يكون “حمدوك” قد نجا بحياته دون أن يُصاب بأذى، بيد أن تبعات ذلك العمل الدخيل على الثقافة السياسية في السودان قد يدفع بالبلاد إلى حالة من عدم اليقين. لا توجد بيانات مؤكدة عن هوية الفاعلين باستثناء بيان غير موثوق منسوب لجماعة “طالبان” السودان. ولعل المعضلة الحقيقية التي تواجه حكومة “حمدوك” الانتقالية هي أن اتفاقية تقاسم السلطة الموقعة، في 17 يوليو 2019، بين المجلس العسكري، الذي سيطر على البلاد في أعقاب الإطاحة بالرئيس “عمر البشير”، وتحالف قوى الحرية والتغيير؛ تواجهها تحديات جمة. لقد قام الاتفاق بتصميم ثنائية متفردة من العسكريين والمدنيين في إطار مجلس سيادي مشترك يحكم البلاد لمدة ثلاث سنوات، تنتهي بإجراء الانتخابات في عام 2022.
لم تكن كافة القوى المتمردة وأركان النظام القديم سعيدة بهذا الاتفاق، وبعضها جاهر علنًا باستخدام كافة السبل للدفاع عن مصالحها. في منتصف يناير 2020، وَقَعَ تمرد مسلح عندما رفض ضباط مارقون موالون للبشير مسألة دفع تعويضات نهاية الخدمة، مما أدى إلى اشتباكات عنيفة أدت إلى إغلاق مطار الخرطوم ومقتل شخصين. وقد تمكن الجيش في نهاية المطاف من حسم المسألة واستعادة النظام والقانون. كانت هذه الحلقة بمثابة نذير لما يمكن أن يحدث في أي وقت خلال هذه الفترة الانتقالية الحساسة، فثمة عناصر لا تزال تتمتع بقوة هائلة بالرغم من وجود “البشير” في السجن والإصلاحات الواعدة التي تقوم بها الحكومة.
كما وجد الإسلاميون الراديكاليون من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين ساندوا “البشير” أنفسهم مهمشين، وباتت مصالحهم معرضة للخطر الشديد. أضف إلى ذلك، هناك العديد من نقاط الاحتكاك وبؤر التوتر الأخرى في البلاد. ولا يزال عدم الاستقرار واسعًا. على سبيل المثال، لا تزال منطقة دارفور، التي شهدت جرائم كبرى وأعمال عنف منذ عام 2003، تعاني من الاضطرابات والهجمات على المدنيين.
إن فوائد الجهود الانتقالية لم تؤتِ أُكلها بعد، ولا يشعر بها الشعب السوداني؛ إذ بعد ما يقرب من عام من الإطاحة بالرئيس المعزول “عمر البشير”، تعيش البلاد في أزمة اقتصادية خانقة؛ حيث يبلغ معدل التضخم 60٪، كما وصل معدل البطالة إلى 21.1٪ في عام 2019، وذلك وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي. وطبقًا للبيانات الحكومية فإن 30٪ من الشباب، الذين يشكلون أكثر من نصف سكان السودان البالغ عددهم 42 مليون نسمة، عاطلون عن العمل. وربما دفع هذا الوضع الاقتصادي ببعض أصحاب التفكير التآمري إلى القول بأن مسألة اغتيال رئيس الوزراء لا تعدو كونها مسرحية تم هندستها بغرض رفع شعبية الحكومة الانتقالية.
يحاول رئيس الوزراء “حمدوك” جاهدًا كسب ثقة الثوار؛ فقام الرجل بتشكيل حكومة تكنوقراط تضم شخصيات مدنية تحظى بالاحترام، كما يحاول النأي بنفسه عن سياسات النظام البائد بإظهار وجه السودان المعتدل. بدأ “حمدوك” بالفعل في إجراء إصلاحات حقيقية. فقد اتخذ خطوات جريئة لتحرير الاقتصاد، وقام بزيارات تاريخية غيرت قواعد اللعبة في المناطق التي مزقتها الحرب، بما في ذلك دارفور وجنوب كردفان. ووعد بتحقيق السلام للسودانيين الذين عانوا ويلات الحرب والتهميش في مناطق الأطراف.
وعلى الرغم من عدم تحقيقه أية انتصارات كبيرة حتى الآن على الصعيد الداخلي، فإن “حمدوك” يسعى بكل ما أوتي من عزم من أجل إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن تصنيفها للسودان كدولة راعية للإرهاب. كانت هذه القضية هي محور محادثاته أثناء زيارته لواشنطن في ديسمبر 2019، وهي الأولى من قبل زعيم سوداني منذ عام 1985. كما أعلنت الحكومة السودانية في فبراير الماضي أنها توصلت إلى اتفاقٍ مع عائلات البحّارة الذين قُتلوا في هجوم أكتوبر 2000 ضد المدمرة الأمريكية كول في عدن، الذي اتُّهم السودان بالتورط فيه. حاول “حمدوك” من خلال الاجتماعات الدبلوماسية في الأمم المتحدة وفي واشنطن العاصمة إعادة دمج السودان في المجتمع الدولي.
وإذا كان رئيس المجلس السيادي “عبدالفتاح البرهان” قد التقى “نتنياهو” في عنتيبي في خطوة باتجاه كسب مباركة إسرائيل لعودة السودان “الجديد” إلى الأسرة الدولية بالمفهوم الأمريكي، فقد اكتفت رئاسة الوزراء بالقول إنه لم يتم التنسيق معها بهذا الخصوص. علاوة على ذلك، فقد أُعلن في فبراير أيضًا أن حكومة “حمدوك” ستسلم الرئيس السابق “البشير” إلى المحكمة الجنائية الدولية. وعلى الرغم من أن مثل هذه الإجراءات هي خطوات مهمة في محاولة استعادة مصداقية السودان في الخارج، إلا أنها مثيرة للجدل في الداخل، خاصةً من قبل عناصر الدولة العميقة الذين كانوا مقربين من النظام القديم. على سبيل المثال، يشكل قرار تسليم “البشير” إلى المحكمة الجنائية الدولية تهديدًا مباشرًا لكثير من جنرالات الجيش والقوى الأمنية، الذين يعتقدون بنظرية “الدومنيو”، حيث إن سقوط أحدهم يتبعه سقوط آخرين.
من الواضح أن الواقع السوداني الانتقالي يموج بالعديد من المجموعات والقوى التي ترفض فلسفة الحكم الانتقالي. ومن ثم، فإن الجهات المستفيدة من محاولة الاغتيال ضد “حمدوك” كثيرة، تتراوح ما بين عناصر إسلامية راديكالية مرتبطة بالنظام السابق الذي عمل بدأب على عسكرة المجتمع السوداني طيلة عقود ثلاثة، أو عناصر غير راضية من داخل بعض المؤسسات التي تم حلها. ولا شك أن هذا السيناريو -إن ثبتت صحته– سوف يصبح الأكثر تهديدًا لعرقلة عملية الانتقال الديمقراطي في السودان.
لا يزال “حمدوك” يواجه -ولو من طرف خفي- مقاومة شديدة من بعض أعضاء الطبقة السياسية التي ارتبطت مصالحها بشكل عنكبوتي بنظام “البشير”. وكثيرٌ من هؤلاء الأفراد ما زالوا يحتفظون بقدر كبير من السلطة. يرى كثير من المتابعين للشأن السوداني أنه على الرغم من مؤشرات التغيير الواعدة، مثل: التقدم في المحادثات مع الجماعات المتمردة، والاستعداد لتطبيق قواعد العدالة الانتقالية للتحقيق في مختلف الأعمال الوحشية التي تم ارتكابها داخل البلاد؛ فإن بعض الأفراد الذين كانوا مقربين من “البشير” شخصيًّا لا يزالون يسيطرون على بعض مفاصل السلطة في البلاد إلى حد كبير. ويبدو أن وضع قوات الانتشار السريع، وهي قوات غير احترافية ارتبطت بمأساة دارفور وزعيمها الجنرال “محمد حمدان دجالو” (حميدتي)، نائب رئيس مجلس السيادة؛ يعكس جزءًا من تناقضات المشهد الانتقالي في السودان.
لعل المعضلة الحقيقية التي تواجه “حمدوك” تتمثل في استرداد الأموال المفقودة من خلال الفساد وعمليات تراكم الثروة بشكل غير مشروع من قبل البعض تحت حكم “البشير”. صحيح أنه تم اتخاذ خطوات إجرائية لتفكيك وتحييد شبكات المصالح الإسلامية المرتبطة بالبشير، لكن بعض عناصر القيادات العليا وقوات الدعم السريع لا تزال تحتفظ بمراكز للسلطة في المؤسسات الانتقالية. لذا قد يكون من الصعب تحدي هذه المصالح حاليًّا. ولا تزال التحقيقات مستمرة في فض اعتصام المتظاهرين أمام مبنى القيادة العامة، حيث لقي أكثر من 100 شخص حتفهم على أيدي مجهولين. وفي المقابل، توجد عناصر ذات توجهات يسارية راديكالية في تحالف قوى الحرية والتغيير تعترض بالأساس على وجود عناصر عسكرية في مؤسسات الدولة. ثمة انتقاد معلن لصعود نجم الجنرال “حميدتي”، ولا سيما دوره في عملية السلام مع الجماعات المتمردة التي حاربها ذات مرة في المنطقة الغربية المضطربة. اتضح ذلك جليًّا عندما أطاحت قوى الحرية والتغيير بالجنرال “حميدتي” من رئاسة الآلية الاقتصادية العليا بعد أيام قليلة من تعيينه. ففي ظل هذه الأوضاع الهشة يصبح إدخال إصلاحات جذرية مسألة شديدة الصعوبة، ولا يوجد بديل أمام السودان في هذه المرحلة سوى خيار تقاسم السلطة.
يحتاج رئيس الوزراء “عبدالله حمدوك” ذو التوجهات الليبرالية إلى تبني نمط من الدبلوماسية الماهرة تعتمد على حلول مبتكرة للتعامل مع تحديات الداخل والخارج؛ فالسودان في حاجة ماسة إلى الانتعاش الاقتصادي الذي يعتمد بدوره على زيادة الاستثمارات الأجنبية، ومساعدات التنمية والقروض، وغيرها من الإجراءات المالية، التي ستعمل على خلق وتوسيع فرص العمل، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي من الناحية المالية، وتحسين تكلفة المعيشة للعديد من المواطنين السودانيين. ربما يقلل هذا من الضغوط السياسية الداخلية وغلواء التوجهات الأيديولوجية اليسارية لبعض مكونات الحرية والتغيير. بيد أنه على المدى المتوسط والطويل، تظل عملية انتقال السلطة لحكومة منتخبة محفوفة بمخاطر المعضلة الاستراتيجية التي لا مفر منها والتي لا تزال قائمة، وهي ناتجة عن شبكات المصالح الداخلية والخارجية التي ارتبطت بحكم الإسلاميين على مدار عقود ثلاثة. ربما يتطلب تفكيك هذه الشبكات التضحية ببعض المطالب التي رفعها الخطاب الثوري السوداني في تجلياته الرومانسية.