تعرضت قاعدتا “التاجي” و”بسماية” العراقيتان، اللتان تستخدمهما القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي، لثلاث هجمات صاروخية في غضون أسبوع واحد. ويُرجِّح مراقبون محليون وأمريكيون أن تستمر تلك الضربات في الفترة القادمة، في مؤشر على تطور نوعي لموجة التصعيد الحالية التي تقودها فصائل عراقية مسلحة تخوض حربًا بالوكالة لصالح إيران داخل العراق، تطلق على نفسها “عصبة الثائرون”، والتي بثت في بيانها الأول رسالة مضمونها أنها ستستمر في التصعيد ضد القوات الأمريكية، داعية الرئيس “دونالد ترامب” إلى سحب قواته من العراق.
في المقابل، أعلنت الولايات المتحدة أنها تبحث خيارات الرد على استمرار تلك الضربات في أعقاب توجيه ضربة على معسكر تل الصخر في بابل التابع لقوات “الحشد”، فيما توالت التصريحات الأمريكية مُشدِّدةً على تعزيز عامل الردع في مواجهة إيران ووكلائها في العراق، والتأكيد على أن دورها في العراق يتمثل في استكمال الحرب على “داعش”، إضافة إلى الاستمرار في برامج تدريب القوات المسلحة العراقية. ومن بين الخيارات الأمريكية المطروحة نشر منظومات دفاعية جديدة لتأمين عددٍ من القواعد العسكرية، فضلًا عن إعادة نشر القوات في عددٍ من القواعد، والانسحاب من أخرى على نحو ما جرى في قاعدة “القائم”.
من جانبها، تجاهلت إيران الاتهامات الأمريكية التي تؤكد ضلوعها في إدارة الحرب بالوكالة في العراق. وتستند واشنطن في ذلك إلى عدد من المؤشرات، من بينها أن الصواريخ المستخدمة في الهجمات هي صواريخ إيرانية المصدر. بل إن بيانات الإعلام الإيراني تصف “عصبة الثائرين” بـ”الجماعة المجهولة”. وفي المقابل، ترجح تحليلات عراقية أن اللواء “إسماعيل قآني”، القائد الجديد لفليق القدس في الحرس الثوري الإيراني، هو مؤسس مجموعة “عصبة الثائرين” من خلال تشكيل قوة “صاروخية” خاصة لمواجهة القوات الأمريكية، وبالتالي فهو ينفذ المشروع الذي كان يعمل عليه سلفه “قاسم سليماني” و”أبو مهدي المهندس” قبل أن تقوم الولايات المتحدة باغتيالهما مطلع العام الجاري.
في هذا السياق، من المتصور أن إيران تهدف إلى عكس مسار سياسة “الضغوط القصوى” التي تمارسها الولايات المتحدة ضدها اقتصاديًّا، بممارسة سياسة مشابهة أو “الضغوط القصوى” ضد الوجود الأمريكي في العراق، وربما تهديد أمن حلفائها في المنطقة. وهو ما يتضح من خطاب “عصبة الثائرين” الذي هددت فيه بمديات أبعد من معسكرات التاجي وبسماية في نطاق بغداد، وحددت إسرائيل كأحد أهدافها المحتملة، حيث أشارت إلى أن الصواريخ المستخدمة في الهجمات الأخيرة تُعد أضعف ما لديها. وبالتالي، فإنها تكشف عن أن الاتجاه القائم هو شن “معركة صواريخ” ضد القواعد العسكرية الأمريكية.
وفي إطار الاستراتيجية ذاتها، ركزت إيران أيضًا على المسار الرسمي، حيث استمرار الضغوط على القوى السياسية لتقويض الوجود الأمريكي في العراق. وأشير -في هذا الصدد- إلى الزيارة التي قام بها رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني “علي شمخاني”، التي كانت الأولى من نوعها منذ عملية الاغتيال لمسئول إيراني رفيع المستوى إلى العراق، والتي ركّزت -في هذا الصدد- على رفع مستوى التنسيق الاستخباري والأمني.
المعضلة العراقية
بالتبعية، هناك انعكاسات للتصعيد الإيراني-الأمريكي على الساحة العراقية، يتزايد طرديًّا مع مستوى التصعيد الإيراني–العراقي، فالموقف العلني لأغلب القوى والتيارات السياسية العراقية يتبنى الدعوة إلى الحد من سياسة تصفية الحسابات الأمريكية–الإيرانية في العراق، حتى أكثر التيارات انتقادًا للتواجد الأمريكي في العراق، وهو التيار الصدري، أصدر بيانًا بدا مختلفًا عن مواقفه السابقة دعا فيه إلى التهدئة. كذلك، ظهرت بوادر انشقاقات داخل “الحشد الشعبي”، حيث انسحبت منه القوى المحسوبة على المرجعية العراقية، كأحد تداعيات خطة إيران لإعادة هيكلة خريطة الوكلاء، إذ كان لإيران دور في تعيين “عبدالعزيز المحمداوي” “أبو فدك” أبرز قيادات حزب الله العراقي خلفًا لأبو مهدي المهندس، وهو ما يعزز -من جانب آخر- خط المواجهة مع واشنطن. لكن يبدو أن هذه التطورات ليست محل توافق من كافة القوى المنضوية تحت مظلة الحشد.
كما يعكس بيانُ القوات المسلحة العراقية الصادر في أعقاب الهجوم الثاني على قاعدة “التاجي” رفضَها لتلك الهجمات. فالجيش العراقي يرى أن هناك أهمية للوجود الأمريكي في العراق، على أساس برامج التسلح والتدريب المشتركة. أما فيما يتعلق بالتصعيد الأخير، فقد تعرضت قوات الدفاع الجوي في “التاجي” التي تقوم القوات الأمريكية بتدريبها لهجمة منفصلة أسقطت عددًا من الجرحى بعضهم في حالة حرجة. كما تعرضت قوات المدرعات في “بسماية” للاستهداف، وهو ما فسره مراقبون بأنه رسالة من المهاجمين بأن هناك إصرارًا على رفض الوجود الأمريكي حتى وإن كان المبرر المعلن هو برامج التعاون والتدريب المشتركة. وبالتالي، من المتصور أن القوات المسلحة على مسار صِدام مع القوى الرافضة للوجود الأمريكي.
أما على الصعيد السياسي، فتبدو المعضلة أكثر تعقيدًا، فالحكومة المكلفة، التي تواجه مخاض التشكيل الصعب خلال شهر، إضافة إلى جدول الأعمال السياسي المتعلق بطبيعة المرحلة الانتقالية في حال نجاح تشكلها، لا سيما وأن رئيس الوزراء هو -في الوقت ذاته- القائد الأعلى للقوات المسلحة العراقية. وبالتالي، عليه أن يحدد الموقف النهائي الخاص بالطلب الأمريكي الخاص بنشر منظومات الدفاع في العراق، والذي سبق أن رفضته حكومة “عادل عبدالمهدي”. إضافة إلى فائض عملية التصعيد التي ستكون لها انعكاساتها أيضًا على صعيد العلاقة مع الجيش. وتبدو النقطة الأهم -في هذا السياق- هي أن المعضلة الجوهرية فيما يتعلق بالحكومة تتمثل في احتمالية غياب الدور التقليدي الذي لعبته أغلب الحكومات العراقية في السابق كآلية للتنسيق بين الجانبين الأمريكي–والإيراني، وكثيرًا ما نجحت في احتواء الأزمات فيما بينهما، وبالتالي فإن غياب هذه الآلية أو فقدانها لدورها يشكل معضلة في هذا الصدد.
المعضلة الأمريكية
المعضلة الأمريكية الرئيسية من المنظور الخاص بالتصعيد العسكري الأخير تتعلق بالفجوة الدفاعية في تغطية القواعد العسكرية، وهو ما كان مسار جدل مؤخرًا في الدوائر الأمريكية المعنية، وعكسته مناقشات لجنة الدفاع في الكونجرس خلال الأسبوع الماضي، في ظل التوقعات الاستباقية بوقوع هجمات إيرانية على القواعد العسكرية التي تتواجد فيها قوات أمريكية. وتعززت هذه التوقعات مع كل مرحلة من مراحل التصعيد المختلفة، سواء التي سبقت عملية اغتيال “سليماني” أو التي تلتها، وهناك عدة نقاط من المهم إثارتها في هذا السياق، منها:
1- أن الهجمات تكشف عن الثغراث الدفاعية الأمريكية، وهو مُعطى ليس بالجديد، لكن الأهم في هذا الصدد يتعلق بأبعاد أخرى غير مسبوقة، في مقدمتها احترافية العناصر التي قامت بالهجمات، بالنظر لأكثر من مؤشر، منها دقة الاستهداف، والقدرة على التنقل بين المواقع والقطاعات بدقة داخل القواعد العسكرية، على نحو ما جرى في “التاجي”. ففي المرة الأولى، استُهدف قطاع قوات التحالف، وفي المرة الثانية استهدفت قطاع التدريب الخاص بقوات الدفاع العراقية، ولكل منهما مغزى ورسالة محددة كما سبقت الإشارة. وإلى جانب عامل الدقة، من الواضح أن هناك قدرة على الاختراق لمعرفة الإحداثيات الدقيقة داخل القواعد العسكرية. الأمر الآخر، هو عملية القدرة على نشر الصواريخ داخل العاصمة بغداد بشكل احترافي، والقدرة على إخفائها وحتى وإن تم العثور لاحقًا على منصات إطلاقها، أو إبطال مفعول عشرات الصواريخ، وفقًا للجيش العراقي. ففي الأخير حققت الهدف المطلوب. فضلًا عن البعد الأشمل الخاص بالتأكيد على اقتصار المواجهة على “القدرات الصاروخية” كنمط غير تقليدي في المواجهة.
2- كشفت الهجمات عن تحديات الردع الأمريكية، التي تبدأ من الصدام السياسي بسبب الموافقة على نشر الصواريخ في ضوء موقف البرلمان الرافض لها. إضافة إلى تحديات الجانب الفني الخاص بنوعيات الصواريخ المتقدمة، وعامل “المفاجأة” للقدرات الصاروخية الإيرانية التي يتوقع استخدامها في المرحلة المقبلة. وعلى الرغم من أن البنتاجون لم يوضح ما هي المنظومات التي سيتم نشرها، لكن أغلب التقارير التي تناولت تصريحات قائد القيادة المركزية الجنزال “كينث ماكينزي” ركزت على نشر منظومات باتريوت وربما النسخ الأحدث مثل باتريوت pac-3 التي يمكنها التعامل مع مديات مختلفة، خاصة أن هناك شكوكًا حول أن المنظومات التقليدية يمكن أن تواجه الصواريخ الباليستية التكتيكية الإيرانية، وهو ما أشار إليه الجنرال “مارك ميلي” رئيس هيئة الأركان المشتركة في أعقاب الهجوم الإيراني على قاعدة عين الأسد في أعقاب عملية اغتيال “سليماني”.
3- هناك تصريحات أمريكية-عراقية عن عمليات انسحاب من بعض القواعد، قد يكون من بينها قاعدة “القيارة” أو قواعد أخرى، لكن لا يعتقد أن هناك برنامجًا للانسحاب العسكري، في ظل الإصرار الأمريكي على نشر منظومات الدفاع، بقدر ما تتجه التكتيكات الأمريكية مرحليًّا إلى عملية “إعادة انتشار” القوات، حتى يتنسى حل أزمة نشر تلك المنظومات. ويتوقع مراقبون أمنيون عراقيون أنه قد يتم الوصول في النهاية إلى نشر منظومتين فقط، الأولى لتغطية قاعدة “عين الأسد” والثانية لقاعدة “الحرير” في إقليم كردستان. وبالتالي، الاقتصار بشكل رئيسي على تأمين تلك القواعد، إلى جانب ضمان الالتزام بالجانب الدفاعي فقط وليس الهجومي. أما باقي المجموعات الأخرى، فهي بطبيعة الحال مؤمنة بمنظومة مثل C-RAM، وإن كان أغلبها في مواقع تتعلق بالبعثات الدبلوماسية. وفي المحصلة، من المتصور أن القوات الأمريكية أصبحت تحت ضغط تقليص مساحة الانتشار.
إجمالًا، يمكن القول إنه من المتوقع تكتيكيًّا أن ترفع القوات الأمريكية من مستوى كلفة التصعيد ضد الفصائل العراقية ذات الصلة بإيران، ولا يشترط أن يكون الهدف داخل العراق فقط، لا سيما مع دخول بريطانيا على الخط لدى سقوط قتيل لها في الهجوم على التاجي. فالضربة القادمة ستحدد كيف ستتعامل واشنطن مع انتهاك الخطوط الحمراء التي رسمتها سلفًا بأنها ستتحرك في حال الاعتداء على قواتها ومصالحها. أما استراتيجيًّا، فمن المتوقع أن تنجح واشنطن في نشر منظومات دفاع في العراق لتؤكد أنها لن ترضخ للضغوط الإيرانية. بينما -في المقابل- من المتصور أن طهران لا تزال ترى أن لديها الحصيلة الأكبر من الأوراق في العراق، خاصة أنها تتبع سياسة النفس الطويل في هذا السياق. وبالطبع سيدفع العراق ثمن هذا التصعيد على الجانبين سياسيًّا وأمنيًّا، وسيظل عليه أن يجد مخرجًا من هذا المأزق الذي وضعه فيه حلفاؤه الذين تعارضت الآن مصالحهم.