“هي أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب”. هذا الكلام لم يكتبه أحد المدونين على السوشيال ميديا معلقا على عامنا الحالي 2020، عام كورونا، وإن بدا الكلام ملائما تماما لما نشعر به إزاء هذا السنة الكبيسة، مجازا وفعلا. فصاحب هذا الكلام هو مؤرخنا العظيم عبد الرحمن الجبرتي، الذي كتبه في بداية تأريخه لسنة 1213 هجرية، وهي السنة التي احتل فيها الفرنسيون مصر، فكانت بداية لعدة سنوات من الاضطراب.
رسا الأسطول الفرنسي أمام سواحل الإسكندرية يوم الثامن عشر من المحرم، الشهر الأول من العام الهجري؛ ودخلوا المدينة في اليوم التالي، فكتب الجبرتي قائلا: “لم يشعر أهل الثغر وقت الصباح إلا وهم كالجراد المنتشر حول البلد فعندها خرج أهل الثغر، وما انضم إليهم من العربان المجتمعة، وكاشف البحيرة، فلم يستطيعوا مدافعتهم ولا أمكنهم ممانعتهم”. وفي السابع من شهر صفر، الشهر الثاني من العام الهجري، وصل جيش بونابرت إلى إمبابة، حيث كان المماليك يعسكرون، فوجد الفرنسيون، حسب وصف الجبرتي، “الأجناد متنافرة قلوبهم، منحلة عزائمهم، مختلفة أراءهم، حريصون على حياتهم، وتنعيمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم، مغترون بجمعهم، محتقرون شأن عدوهم، مرتبكون في رويتهم، مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم”. هكذا، بدأ العام الذي اعتبره الجبرتي أول سني الحوادث الجسيمة، وكيف لا وقد انهار العالم كما عرفه الجبرتي في هذا العام، ودخلت البلاد سنوات من الفوضى، انقلب فيها كل شيء.
لكن لنتمهل لحظة، ألا نؤرخ بالحملة الفرنسية لخروج مصر من العصور الوسطى وبداية تاريخ مصر الحديث؟ ألم تؤد التداعيات التي ترتبت على الحملة الفرنسية إلى إضعاف سلطة العثمانيين وأمراء المماليك، وهما قوتان من قوى العصور الوسطى المظلمة، كانت المحصلة النهائية لاقتسام السلطة في مصر بينهما هي إبقاء البلاد مشدودة بقوة للركود الاقتصادي والثقافي، وعاجزة عن التقدم إلى الأمام واللحاق بالعصر. لقد أتاح إضعاف المماليك والعثمانيين فرصة لتقدم مصر ونهوضها، وهو ما حدث في السنوات التالية على يد محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة؛ بحيث أن ما اعتبره الجبرتي أول سني الملاحم العظيمة، كان في الحقيقة أول سني نهوض تواصل لعدة عقود تالية.
المسافة بين رأي الجبرتي ومعاصريه فيما كان يحدث أمام أعينهم من كوارث جسيمة، وبين الأثر والمآل التاريخي لهذه الكوارث هي مسافة كبيرة فعلا. لم يكن الجبرتي غافلا، فهو أهم قامة فكرية عرفتها مصر في تلك الفترة؛ ومع هذا فإن التاريخ له من سعة الحيلة ما يمكنه من مراوغة أكبر المؤرخين؛ وأكبر خدع التاريخ هي عندما يخرج لنا من قلب حدث معين نتيجة معاكسة له تماما، ولنا في غزوة بونابرت دليل على ذلك؛ ومازال في هذا الحدث الكبير المزيد من العبر.
تأمل معي ما رواه الجبرتي قبل عشرة أيام من وصول أسطول بونابرت لسواحل الإسكندرية، حين رست أمام سواحل المدينة خمس وعشرين من مراكب الانجليز، وأرسل قائد الأسطول الانجليزي وفدا للاجتماع مع وجهاء المدينة، وعلى رأسهم السيد محمد كريم، وقالوا إنهم حضروا للتفتيش على الفرنسيس لأنهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات، فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم، ولا تتمكنون من منعهم، ونحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر، لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه. لكن أعيان الإسكندرية رفضوا كلام الانجليز، وظنوا أنها مكيدة، وقال لهم السيد محمد كريم: هذه بلاد السلطان، وليس للفرنسيس ولا لغيرهم عليها سبيل، فاذهبوا عنا؛ فانصاع الإنجليز، وأبحر أسطولهم بعيدا عن الإسكندرية.
لقد تصرف السيد محمد كريم بأمانة وإخلاص، وفعل ما كان عليه أن يفعله؛ فرفض إعطاء الانجليز ذريعة للبقاء أمام سواحل المدينة، والنتيجة أنه ترك الإسكندرية مكشوفة بلا حماية أمام الغزاة الفرنسيين. ماذا لو أن السيد محمد كريم اقتنع بحجة الضباط الانجليز، فسمح للأسطول الانجليزي بالبقاء للدفاع عن المدينة، وقدم للإنجليز احتياجاتهم من المؤن؟ ربما أدى ذلك إلى منع الفرنسيين من احتلال مصر، وإلى منع انهيار قوة العثمانيين والمماليك، وإطالة أمد تبعية مصر الكاملة للسلطنة العثمانية، ومنع ظهور محمد علي وصعوده إلى حكم مصر، والإبقاء على مصر مشدودة للعصور الوسطى بقوة السلطة العثمانية المملوكية، وتأخير النهضة في مصر عدة عقود. فهل نحتاج دليلا على ألاعيب التاريخ أكثر من ذلك.
التواضع هو الدرس الأول الذي تعلمنا إياه دروس التاريخ، فمن الفطنة ألا نجزم بيقين ما إذا كانت أيامنا هي أيام الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، كما قال الجبرتي، فلعها جسر نعبره لمستقبل رائع. وبالمثل، فليس لمن له نصيب من حكمة أن يطير فرحا بنصر عظيم، فلعل أهوال كبرى تولد من رحم ما نظنه فتح مبين.
لا تنتهي دروس التاريخ عند هذا الحد، فبعض من أعظم الانجازات التاريخية، وأكثرها استدامة جاءت بعد محن وانكسارات كبرى. ألم تحول ألمانيا واليابان هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية إلى فرصة للعيش في ظل أطول فترة سلام عرفها البلدان في تاريخهما الحديث؛ ألم يستفد البلدان من فرصة السلام الممتد لبناء اثنين من أكبر اقتصادات العالم، ولتأسيس ديمقراطيات أكثر رسوخا وفاعلية من الديمقراطيات الغربية الأكثر عراقة.
مشكلتنا في مصر هي أننا منذ الحملة الفرنسية لم ننجح في تحويل الانكسارات لنهوض كبير، فكانت المحن تخلف في مجتمعنا وثقافتنا ودولتنا جراحا لا تشفى. حتى أكتوبر الذي انتصرنا فيه انتصارا عسكريا باهرا، لم نحوله إلى نهضة وطنية كبرى تضعنا في مصاف الكبار المميزين في العالم؛ فهل سيمكننا تحويل كورونا إلى فرصة لنهضة عظيمة؛ أم أنها ستكون فعلا أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة؛ هذا هو السؤال.