في الثالث عشر من مايو الماضي، تقدم روبرتو أزيفيدو، المدير العام لمنظمة التجارة العالمية باستقالته من منصبه، قبل عام كامل من انتهاء فترته الثانية على رأس المنظمة الدولية. لم تأت الاستقالة لأسباب صحية، ولا بسبب فضائح من أي نوع، وإنما ببساطة لأن وظيفة الرجل فقدت معناها، بعد أن دخلت منظمة التجارة الدولية في حالة شلل، لا ينتظر لها أن تخرج منها قريبا. منظمة التجارة العالمية هي أهم مؤسسات ورموز العولمة، وتمثل أزمتها إعلانا غير رسمي بنهاية النظام الدولي للعولمة؛ فإلى أين يتجه النظام الدولي؟
تأسست منظمة التجارة العالمية عام 1994 لضمان وتسهيل حرية التجارة الدولية وعدالتها، ولحل الخلافات بين شركاء التجارة الدوليين. في ديسمبر 2001 تم قبول الصين عضوا في منظمة التجارة العالمية، فانفتحت أسواق العالم أمام صادرات الصين، في أكبر توسيع لنظام العولمة الاقتصادية منذ نشأته. المفارقة هي أن الصراع التجاري الراهن بين الولايات المتحدة والصين مثل الطعنة التي استنزفت منظمة التجارة العالمية، والتي قضت على النظام الدولي للعولمة، التي أصبحت الآن في ذمة التاريخ.
ربما كان لدى بعض المتفائلين أملا في استعادة العولمة، وفي تجنب انزلاق النظام الدولي إلى صراعات القوى الكبرى، لكن شهر مايو الأخير لم يشأ أن ينقضي قبل أن يوجه ضربة إضافية لهذه الآمال، ففي السادس والعشرين من مايو أصدر البيت الأبيض وثيقة “المقاربة الاستراتيجية للولايات المتحدة لجمهورية الصين الشعبية”. تضمنت الوثيقة قائمة اتهامات أمريكية للصين، كما تضمنت الخطوط العريضة لسياسة الولايات المتحدة تجاه الصين، وكلها تؤكد نهاية العولمة، واتجاه العلاقات بين القوتين الأكبر نحو خصومة استراتيجية، تجر النظام الدولي كله معها إلى مرحلة جديدة من الاستقطاب.
تؤكد وثيقة المقاربة الاستراتيجية على أن الولايات المتحدة لا تسعى لتغيير النظام السياسي في الصين، ومع هذا فإن الوثيقة تشير في مقدمتها إلى أنه منذ أقامت الولايات المتحدة علاقات دبلوماسية مع الصين عام 1979، فإن الولايات المتحدة أملت في أن يؤدي التعاون المتزايد بين البلدين إلى إحداث انفتاح اقتصادي وسياسي جوهري، وإلى تحول الصين إلى مجتمع حر مفتوح يتمركز حول المواطن، وهو الأمر الذي لم يتحقق، بسبب مقاومة الحزب الشيوعي الصيني لتعميق الإصلاحات، فاختار بدلا من ذلك توظيف قواعد عمل النظام الدولي في سبيل إعادة تشكيل هذا النظام بطريقة تخدم مصالحه وعقيدته السياسية. بعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة كانت تتصور أن دمج الصين في شبكات التجارة والاستثمار الدولية كفيل بتغيير الصين من الداخل، وهو المسعى الذي أحبطته الصين، عندما وظفت شبكات التجارة والاستثمار والابتكار الدولية لصالح تثبيت النموذج الصيني في الحكم داخليا، والترويج له خارجيا.
تتحدث الوثيقة الأمريكية عن ثلاثة تحديات مصدرها الصين، تحد في مجال الاقتصاد، وتحد في مجال المبادئ، وتحد في مجال الأمن. في المجال الاقتصادي، تتهم الوثيقة الصين بالتلاعب بقواعد النظام الاقتصادي الدولي، فمرة تتصرف كدولة نامية يحق لها الحصول على التسهيلات التي تتمتع بها الدول النامية، ومرة أخرى تتصرف كدولة كبرى ناضجة. أساءت الصين استخدام نظام حرية التجارة، فبينما انفتحت أسواق العالم أمام منتجاتها بلا قيود، فإنها اتبعت سياسة حمائية، أعاقت دخول الواردات إلى أسواقها؛ وانتهكت حقوق الملكية الفكرية، وأرغمت الشركات الأجنبية على تسليم أسرارها التكنولوجية إلى هيئات صينية، واخترقت نظم الاتصالات وقواعد البيانات لسرقة أسرار تكنولوجية، وتسامحت مع، وتورطت في، تزوير العلامات التجارية، حتى أصبحت الصين مصدر 63% من السلع المقلدة في العالم. أما أخطر الاتهامات الأمريكية للصين فتمثل في التداخل بين الحزب الشيوعي والحكومة والشركات التجارية ومؤسسات الاستثمار، واستخدام الصين قدراتها وأذرعها الاقتصادية من أجل تحقيق مكاسب سياسية مباشرة وصريحة، وأن مبادرة الحزام والطريق الصينية ليست سوى أداة للدولة الصينية لتحقيق نفوذ سياسي، وفرض هيمنتها على الشركاء.
في مجال المبادئ والقيم، تتهم الوثيقة الأمريكية القيادة الصينية الحالية بالترويج لنظام وأساليب الحكم في الصين على نطاق عالمي، باعتباره نظام أفضل من النظم القائمة في الديمقراطيات الغربية. تزعم الوثيقة الأمريكية أن حكام الصين يتبنون نظاما إيديولوجيا متماسكا يتعارض مع قيم الديمقراطية الغربية، وأن جذور هذا النظام الإيديولوجي ترجع إلى التفسير الصيني للماركسية اللينينية، مختلطا بعقيدة قومية، ودكتاتورية حزب واحد، واستخدام العلم والتكنولوجيا لخدمة الدولة، وإخضاع الفرد لأهداف الحزب الشيوعي الحاكم؛ وهكذا تعود العقيدة الماركسية للظهور في وثائق تتعلق بالنظام الدولي والعلاقات الدولية، كما لو كان النظام الدولي يتقهقر إلى حقبة الحرب الباردة.
في مجال الأمن، تتهم الولايات الصين باستخدام التخويف والإكراه في سياساتها في مناطق بحر الصين، ومضيق تايوان، والحدود مع الهند؛ وتتهم الجيش الصيني باختراق الشركات والجامعات، وتوظيفها لخدمه أهدافه، وبتوظيف مبادرة الحزام والطريق لخدمة أهداف العسكرية الصينية، كما تتهمها باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحقيق أهداف عسكرية وأمنية، وهو ما يعيد إلى الذاكرة الملاحقة الأمريكية ضد شركة هواوي الصينية، واعتقال المدير المالي ونائب رئيس مجلس إدارة الشركة في كندا، تمهيدا لتسليمها للولايات المتحدة.
وفي مجال الرد على التهديدات الصينية، صنفت الوثيقة علاقة الولايات المتحدة بالصين على أنها علاقة تنافس بين قوى كبرى، وأن الولايات المتحدة تتمسك بأفضلية نظامها السياسي والعقيدي، وبتصديها للدعاية الصينية في هذا المجال؛ كما ستتصدى للدعاية الصينية التي تروج لانسحاب الولايات المتحدة من النظام الدولي وتخليها عن الحلفاء، وأن الولايات المتحدة ستواصل العمل مع الحلفاء في المحيطين الهادي والهندي، وخاصة الهند وكوريا واستراليا وتايوان، وتعهدت بتحديث القوة العسكرية الأمريكية، بما فيها القوة النووية، لردع التحدي الصيني.
جمعت الوثيقة الأمريكية في صياغتها بين الحزم والاعتدال، ففصلت الاتهامات الأمريكية بدقة، فيما تجنبت البلاغة الطنانة ولغة التهديد. ومع هذا فإن المطالب الأمريكية من الصين ليست من النوع الذي يمكن الاستجابة له، وإلا أصبحت الصين بلدا آخر، في نظامها السياسي والاقتصادي، وفي تصور قادتها عن نفسهم وعن بلدهم، بما يرجح دخول البلدين في خصومة عميقة طويلة الأمد، تشكل النظام الدولي في العقود القادمة.
نقلا عن جريدة الأهرام، 11 يونيو 2020.