لم ينجح “آبي أحمد” الذي اعتلى عرش إثيوبيا والوصول لقصر “مينيلك” في أبريل 2018 كأول رئيس وزراء من قومية “الأورومو” (دون انتخابات) من تحقيق الحد الأدنى من تطلعات القوميات المختلفة التي تسكن إثيوبيا، سواء التطلعات الاقتصادية أو الاجتماعية، أو حل أزمة الهوية التي تعاني منها القوميات المُختلفة، أو التوزيع العادل للسلطة والثروة، أو توحيد الشعوب الإثيوبية. كما أنه فشل في تلبية طموحات “قومية الأورومو” بسبب استمرار التهميش المُتعمد لأكبر قومية من حيث العدد في إثيوبيا، وإخفاق حكومته في تقديم الخدمات وتطوير البنية التحتية في مناطقهم، وارتفاع نسبة البطالة، وزيادة معدلات الفقر، وعدم مشاركتهم في السلطة أو الثروة، بالإضافة لإجراءات قمعية مُعقدة من الأجهزة الأمنية شملت: اعتقالات، وتصفيات جسدية خارج نطاق القانون، وحجب الإنترنت، والتحايل على القوانين، وخلق أزمة دستورية بسبب تأجيل موعد الانتخابات العامة بحجة جائحة كورونا.
وعلى الرغم من أنه قام بإنجازات مقبولة للداخل الإثيوبي، وعلى الرغم من الدعم الدولي له ومنحه جائزة “نوبل” لأغراض سياسية (ليست مجال حديثنا)؛ إلا أن سياساته أضحت تضر بالبناء الاجتماعي للدولة، وتقوض النظام الدستوري والتحول الديمقراطي الذي وعد به، وتحول حزب “الازدهار” إلى صورة طبق الأصل من “الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية”. كما كشف مقتل المطرب الإثيوبي “هاشالو هونديسا”، والذي أدى لوقوع أعمال عنف وسقوط أكثر من مائة قتيل، عن مدى احتقان الوضع بإثيوبيا وتصاعد التوترات العرقية.
وقد تعاملت حكومة “آبي أحمد” مع الأزمة بنفس الأدوات القديمة التي استخدمتها الحكومات الإثيوبية السابقة، سواء حكومة “منجستو” أو حكومة “زيناوي”، وهو الهروب وتهميش الأزمة لتفريغها من مضمونها، ثم إلقاء اللوم على قوة متربصة بإثيوبيا للنيل منها، سواء قوة خارجية أو قوة داخلية، ثم استخدام القوة المفرطة لقمع الاحتجاجات دون تقديم أي حلول.
ما يحدث الآن من حراك شعبي في إثيوبيا ما هو إلا نتاج تراكمات سابقة عانت منها قومية “الأورومو” على مدار عقود طويلة من الظلم والتهميش، بل وإنكار كثرتها العددية من كافة الحكومات الإثيوبية السابقة، فشعب الأورومو من الشعوب “الكوشية” العريقة بمنطقة القرن الإفريقي، ويعد من أكثر القوميات الإثيوبية عددًا، اذ يشكل 35% من السكان. كما تتميز أراضيهم بالخصوبة والجودة، فهم يمتلكون مزارع ضخمة ونصف إجمالي عدد المواشي تقريبًا في إثيوبيا، وأراضيهم غنية بالثروات المعدنية؛ إلا أن تلك الثروات كانت مصدر شقائهم في كافة الأنظمة التي توالت على إثيوبيا منذ “كتيودروس” (يوحنس الرابع)، و”منيليك الثاني”، فضلًا عن الصراعات المسلحة على مر التاريخ بين الأورومو والأمهرة، والمعاناة والتهميش من التيجراي.
ظلت قومية الأورومو تكافح للحفاظ على هويتها وحمايتها من “أمهرتها”، فضلًا عن النضال من أجل تحقيق العدالة والمساواة مع باقي الإثنيات الإثيوبية الأخرى. وقد شُكلت جبهة تحرير الأورومو OLF عام 1974 للمطالبة بحقوق شعب الأورومو. كما شاركت الجبهة بدور فعال للإطاحة بنظام “منجستو”، نظام “الدرق”، وشاركت في أول حكومة وبرلمان؛ إلا أنه سرعان ما انسحبت بعد تأكدها من هيمنة قومية “التيجراي” على “ائتلاف الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا” EPRDF، ثم اصطدمت الجبهة بنظام “ميلس زيناوي” وذاقت أشد أنواع التنكيل والاعتقال إلى أن تم حظر نشاطها.
وجاء عام 2014 ليشكل محطة مهمة ونقطة فارقة في تاريخ “الأورومو”، حيث خرج “الكيرو” QEEROO (تعني بلغة الأورومو الشاب المرتبط عمله بالزراعة أو الرعي أو الصيد) من مدينة “أمبو” لتفجير حراك ثوري تجاوزت فيه المشاركة شعب الأورومو إلى شعوب إثيوبية أخرى، ردًّا على قرارات الحكومة الإثيوبية بطرد آلاف المُزارعين الأورومو من أراضيهم في إطار تنفيذ مشروع تنموي لتوسيع العاصمة أديس أبابا. لكن للأسف تناست الحكومة الإثيوبية ارتباط شعب “الأورومو” بالأرض التي دفع أبناؤها حياتهم للدفاع عنها.
وظّف شباب الأورومو “الكيرو” تكنولوجيا الاتصالات لصالحهم، حيث استطاعوا من خلالها الترويج لأفكارهم، سواء للداخل أو لإثيوبيي المهجر، وحشد الآلاف للتظاهر، وتبادل المعلومات بينهم، وأصبحت حركتهم سريعة وغير متوقّعة للأمن الإثيوبي. ومع تصاعد قوة وشعبية “الكيرو” أصبحوا مصدر إلهام لباقي شباب القوميات الإثيوبية الأخرى، مثل “فانو” في إقليم الأمهرة، و”بربريتا” في الإقليم الصومالي، و”جولديم” في إقليم جامبيلا. كما أدى هذا النجاح إلى تراجع الحكومة في قرارها، بل وألغت مشروع تطوير العاصمة، والتف شباب “الكيرو” حول الناشط السياسي “جوهر محمد” (من قومية الأورومو، ويقيم في ولاية “مينيسوتا” الأمريكية) والذي تبنّى الحراك وتوجيهه من خلال “شبكة أوروميا للإعلام” التي أسسها عام 2003.
وقد استمرت الاحتجاجات ثلاث سنوات، اجتاحت خلالها الكثير من الأقاليم الإثيوبية، وراح ضحيتها الآلاف من الشبان، ولكنها شكلت ضغوطًا على الحكومة أدت لاستقالة رئيس الوزراء الإثيوبي “هايله ميريام ديسالين” من موقعه كرئيس للائتلاف الحاكم وكرئيس للوزراء في فبراير 2018، إلا أن هذه الاستقالة لم تُرضِ “جبهة تحرير الأورومو” ولم تلبِّ مطالب الشعب الإثيوبي، فقد أكد “جمادا سوتي” المُتحدث الرسمي لجبهه تحرير الأورومو أن مطالبهم تتجسد في وقف حالة التهميش التي يعيشها شعب الأورومو، وتقاسم السلطة والثروات بين كافة القوميات، وتشكيل حكومة انتقالية تمثل كافة قوميات الشعب الإثيوبي، يليها إجراء انتخابات حرة ونزيهة. كما قال “سوتي” إن سد النهضة تم بناؤه من الأساس لأهداف سياسية وليس لأهداف تنموية، معتبرًا أن “ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية” الحاكم كان يهدف للسيطرة على منابع النيل وبيع المياه لمصر في مرحلة لاحقة في إطار تحالفات دولية أعمق دخلتها الحكومة الإثيوبية.
وقد وظّف “آبي أحمد” الخلافات الخارجية مع دول الإقليم، سواء فيما يتعلق بأزمة سد النهضة مع مصر، أو فيما يتعلق بأزمة “الفشقة” مع السودان لتحقيق مكاسب ضيقة ومؤقتة، تمثلت فيما يلي:
– تعزيز جبهته الداخلية، ومحاولة توحيد الصف أمام قوى خارجية تريد وقف عملية التنمية في إثيوبيا، وأمام قوى داخلية (المعارضة) تتهمه بالقصور والفشل في تحقيق ما وعد به.
– التغطية على أزماتة الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
– التحايل على الدستور، وتأجيل موعد الانتخابات العامة.
لكنّ هذا التوظيف أفقده الداخل والخارج معًا، فقد أدّت سياسة تضليل ومراوغة حكومة “آبي أحمد” للشعب الإثيوبي إلى احتجاجات واسعة في الشارع الإثيوبي، كما أن تشدده في قضية سد النهضة وإصراره على عدم تقديم أي تنازلات خوفًا من الداخل، خاصة المعارضة، والتي يمكن أن تتهمه بالتفريط في حقوق وطنية؛ أدى إلى قيام مصر والسودان بتصعيد الأزمة إلى مجلس الأمن وتدويلها مما شكّل له نوعًا آخر من الضغوط الخارجية.