حينما انتشرت جائحة كورونا في العديد من دول العالم خلال الربع الأول من 2020، بادرت الحكومة المصرية باتخاذ عدد من الإجراءات الاحترازية، من أجل حماية الشعب المصري من خطر الإصابة بعدوى الفيروس؛ فعلقت حركة الطيران الدولي من وإلى البلاد، وأوقفت خدمات المؤسسات الحكومية، كما عطلت الدراسة ونشاطات الأندية والمقاهي والمطاعم، وهو ما حدّ بدوره من التجمعات والكثافات البشرية، ليسهم ذلك في حماية البلاد من كارثة وبائية عانت ولا تزال تعاني منها دول عديدة في قارتي أوروبا وأمريكا.
لكن الإجراءات الوقائية كان لها تأثير سلبي على الاقتصاد الوطني، فقد أوضح صندوق النقد الدولي في أحد تقاريره الصادرة في إبريل 2020، احتمالية معاودة ارتفاع معدلات التضخم للاقتصاد المصري، حيث رجح التقرير أن تصل تلك المعدلات إلى 7.2% خلال العام الجاري وبزيادة قدرها 2.3% عن معدلات 2019. كما توقع الصندوق تراجع الاحتياطيات النقدية للبلاد بنسبة 20% لتصل إلى أقل من 36 مليار دولار، فيما أعلن البنك الأوروبي لإعادة الإعمار EBRD عن توقعاته بتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي المصري، ليصل إلى 0.5%، وذلك بعد أن كان المستهدف الوصول به إلى 5.6%.
الحكومة المصرية -من جانبها- لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الوضع الاقتصادي المتأزم، لذلك قررت عودة الأعمال لكافة المصالح الحكومية في مطلع يونيو الماضي، وذلك بعد توقف جزئي دام أكثر من ثلاثة أشهر. كما سمحت لاحقًا بإعادة تشغيل باقي القطاعات الخدمية والاقتصادية المتعطلة بالدولة. وقد ساعد في نجاح تلك القرارات انخفاض معدل الإصابات المسجلة يوميًّا بالفيروس (انظر شكل رقم 1)، لكن العديد من الآراء لا تزال تتخوف من فكرة عودة الحياة إلى طبيعتها في مصر، خاصة مع عدم وضوح الأسباب العلمية التي أدت إلى انحسار موجة الوباء بين المواطنين، فضلًا عن بزوغ بعض التوقعات الدولية التي أفادت باحتمالية وقوع موجة عالمية جديدة من الوباء بحلول الشتاء القادم.
لهذا تتصاعد الأصوات المطالبة بوضع المزيد من الإجراءات العملية لتأمين المواطنين المستخدمين لكافة المرافق والمنشآت الحيوية في الدولة، وعلى رأسها مرافق النقل العام، من خطر الإصابة بالوباء، حيث ترتبط تلك المرافق بالحياة اليومية للمواطنين، وقد تكون أحد أخطر آليات انتشار الفيروس حال تعرض البلاد لموجة جديدة من الوباء.
1- تكدس مرافق النقل العام يُنذر بالخطر
تعاني مرافق النقل العام في مصر من تكدس وزحام شديد، حيث يعتمد المواطنون على خدماتها في التنقل بين محافظات الجمهورية وأيضًا في التنقل داخل المدن، خاصة الكبرى منها كالعاصمة القاهرة الكبرى ومدينة الإسكندرية. وقد أوضحت التقارير الرسمية صورة هذا التكدس في بعض مرافق النقل المهمة كمترو أنفاق القاهرة الكبرى الذي ينقل يوميًّا أكثر من 2.4 مليون راكب، فقطارات المترو تشهد معدلات تزاحم عالية، إذ ينقل القطار في الرحلة الواحدة حوالي 1500 راكب، وهو ما يؤدّي إلى وصول معدل التزاحم في رحلة المترو إلى 10.9 مواطنين لكل مقعد واحد.
وقد أوضحت التقارير معاناة هيئتي النقل العام بكل من القاهرة الكبرى والإسكندرية، حيث يشهد كل منهما تكدسات مماثلة لما يشهده مرفق المترو، فهيئة النقل العام بالقاهرة الكبرى تنقل يوميًّا أكثر من 1.5 مليون راكب، فيما تنقل هيئة النقل العام بالإسكندرية 435 ألف راكب يوميًّا، وهو ما يخلق نسب تزاحم تصل في مركبات النقل العام بالقاهرة إلى 3.3 ركاب لكل مقعد، وفي مركبات النقل العام بالإسكندرية إلى 2.4 راكب لكل مقعد. ولا تقتصر المعاناة على مرافق النقل الداخلي بالمدن الكبرى، فمرفق السكك الحديدية الذي يساهم في ربط أطراف البلاد، يتحمل هو الآخر جزءًا من المعاناة، حيث يقوم يوميًّا بنقل 668 ألف راكب، وبمتوسط 2000 راكب في رحلة القطار الواحدة، وهو ما أدى إلى وصول نسب التزاحم بين مستخدميه إلى 3.5 ركاب لكل مقعد واحد.
الحديث عن مرافق المترو والنقل العام والسكك الحديدية ليس كل شيء. فهناك مرافق أخرى شديدة الاكتظاظ، كالنقل بين الأقاليم، سواء بالحافلات أو الميكروباص، فضلًا عن خدمة السرفيس أو النقل الداخلي بالمدن والتجمعات الحضرية، مما يرشح مرافق النقل العام لتكون مركزًا لانتشار العدوى الوبائية، حيث يصعب فيها لدرجة الاستحالة الالتزام بالقواعد الدقيقة للتباعد الاجتماعي.
2- إجراءات وقائية مقترحة
حالة التكدس التي تشهدها مرافق النقل المصرية تضع صانعي القرار في معضلة، فتطبيق متطلبات التباعد الاجتماعي وتخفيف عدد ركاب القطارات والحافلات يعتبر رفاهية غير قابلة للتنفيذ. كما أن استمرار الضغط والتزاحم يضع المواطنين تحت خطر الإصابة بالفيروس. وأمام هذا التحدي ليس هناك اختيار سوى وضع إجراءات وقائية مشددة للحد من نسب الإصابات. وقد اتخذت الحكومة عددًا من الإجراءات في هذا الإطار، حيث ألزمت المواطنين بارتداء الكمامات الواقية في وسائل المواصلات، ووضعت غرامات على المخالفين لتلك التعليمات، كما وجهت مرافق النقل لاتخاذ بعض التدابير الإجرائية كتدريب العاملين على قياس الحرارة للركاب، واكتشاف حالات الاشتباه، وتوجيه تلك الحالات للإرشادات الصحيحة.
لكن هذه التوجيهات كانت محل انتقاد من قبل المتخصصين، فمن الصعب على موظفي مرافق النقل مثل المترو أو السكك الحديدية فحص كافة الركاب، خاصة في ساعات الذروة. كما أن الفرق الإدارية داخل المحطات ليست متخصصة بالأمور الطبية، وتفتقر للموارد اللازمة للتعامل مع ظروف الزحام الشديد، لذا يجب على الحكومة أن تتخذ إجراءات أكثر واقعية في تأمين هذه المرافق الحيوية، ومن ذلك ما يلي:
– تكوين فرق طبية من المتطوعين الطبيين وطلبة كليات الطب، ليتم توزيعهم على محطات القطارات والمترو، بالإضافة للمواقف العامة والميادين الكبرى، وذلك للكشف على الركاب والتعامل مع الحالات المشكوك فيها بشكل علمي وطبي سليم.
– وضع كاميرات للكشف الحراري على الركاب “Thermal Cameras“ في الأماكن شديدة الاكتظاظ، مثل محطات القطارات والمترو الرئيسية، والتي يصعب فيها الكشف على الركاب واحدًا تلو آخر، حيث توفر تلك الكاميرات إمكانية الكشف على عشرات المواطنين في آن واحد وبدون الحاجة للاقتراب منهم.
– يمكن توفير وحدات طبية داخل محطات المترو والقطارات وأيضًا المواقف العامة، وذلك للإجابة عن استفسارات المواطنين الذين يعتقدون إصابتهم بالفيروس وأيضًا المخالطين لهم، بالإضافة إلى تقديم النصائح والإرشادات الطبية لهؤلاء المواطنين حتى يقوا أنفسهم من مضاعفات المرض، وأيضًا لحماية أهلهم ومجتمعهم من الإصابة به. كما تستطيع تلك الوحدات الطبية أن توفر خدمات الكشف المبدئي على الحالات المرضية المشكوك فيها، وذلك قبل الذهاب للمستشفى أو المركز الطبي المختص.
– يجب ألا ننسى التنويه عن الخطأ الجسيم الذي يشوب عملية بيع الكمامات الطبية على شبابيك التذاكر حاليًّا، فتلقي موظف الشباك للمبالغ المالية بيده ثم تناول الكمامات بعد ذلك وإعطاؤها للراكب يؤدي إلى تلوث تلك الكمامات، وهو ما قد يصيب الراكب بالفيروس بسبب تلك الكمامة الملوثة، لذا يجب بيع الكمامات وهي مغلفة بأكياس بلاستيكية، أو يخصص لبيعها منفذ مستقل داخل المحطات مما يحميها من التعرض للتلوث.
3- وعي الراكب هو خط الدفاع الأول
مهما اتخذت الحكومة من إجراءات وقائية مشددة بهدف تقليص فرص إصابة المواطنين بوباء كورونا المستجد، فإنها لن تنجح في مساعيها إلا بوجود وعي من المواطنين أنفسهم بحجم وخطر الأزمة الوبائية التي تمر بها البلاد، بالإضافة إلى وعيهم بكيفية حماية أرواحهم من خطر الفيروس، وذلك وفق ما يتم إعلانه من خطوات وإرشادات صحية من قبل الجهات المختصة. وهنا ننوه إلى أن قلة الوعي لدى المواطنين خلال الفترة الماضية كان سببًا رئيسيًا في انتشار البؤر الوبائية داخل العديد من المدن والقرى المصرية، وذلك على الرغم من اتخاذ الحكومة عددًا من الإجراءات الاحترازية بداية من منتصف مارس الماضي.
لذا يجب على الحكومة أن تبدأ في حملة توعية تستهدف ركاب مرافق النقل في مصر، وذلك لتعريفهم بطبيعة الوباء المنتشر، وسبل الحماية من أخطاره أثناء التواجد بأحد مرافق النقل العام. ومن المهم تنفيذ تلك الحملة من خلال وسائل تمنع الاحتكاك المباشر بين أطقم العمل الإدارية والطبية المتواجدة وبين الركاب المستخدمين لخدمات تلك المرافق، فيتم الاعتماد على رسائل المحمول النصية ولوحات الإعلانات داخل المحطات وعلى جوانب الطرقات، فضلًا عن إذاعة النشرات التوعوية داخل المواقف العامة ومحطات القطارات، وذلك على غرار التجربة الناجحة التي نفذتها هيئة مترو القاهرة منذ مارس الماضي داخل المحطات، حيث قامت بإذاعة نشرة توعية من خلال الإذاعة الداخلية للمحطات على خطوط المترو الثلاثة.
ومن المهم توصية الركاب بعدد من الإجراءات التي من شأنها أن تحد من انتقال الفيروس، وأهمها ما يلي:
– استخدام وسائل الدفع الإلكتروني في شراء تذاكر المترو والقطار، وأيضًا تذاكر الحافلات الذكية العاملة على بعض خطوط القاهرة الكبرى.
– إرشاد المواطنين بثقافة تنظيم الصفوف داخل المحطات، خاصة أمام شبابيك التذاكر، بما يحقق التباعد الذي نصحت به منظمة الصحة العالمية والمقدر بمسافة مترين.
– تعريف الركاب بالأوقات التي لا تشهد زحامًا وتكدسًا، وتشجيعهم على استخدام مرافق النقل العام في تلك الأوقات، وهو ما يمكنه أن يساهم في الإقلال من خطر الإصابة بالمرض.
4- زيادة خدمات النقل لتقليل فرص الإصابة
يوجد في مصر الآن أكثر من 76 ألف حافلة متعطلة عن العمل بسبب الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة بداية من مارس الماضي، حيث كانت تلك الحافلات تعمل بمجالات النقل السياحي ونقل الرحلات وطلاب المدارس (انظر شكل رقم 2). وهنا توجد فرصة أمام الحكومة لكي تستفيد من تلك الحافلات في دعم مرافق النقل العام وتخفيف الضغط الواقع عليها، سواء على الخطوط بداخل المدن أو بين المحافظات، حيث يمكن للحكومة أن تسمح بعمل تلك الحافلات لنقل الركاب وفق الاشتراطات الصحية التي أقرتها منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة المصرية، وهو ما يعطي للركاب فرصة للتنقل بشكل آمن من خطر الإصابة بالوباء، وإن كانت قيمة التذكرة لاستخدام تلك الحافلات أعلى من نظيرتها في المواصلات العادية. أما إدارة حركة تلك الحافلات فيجب أن تكون بالتنسيق بين الجهات المختصة وأحد كيانات النقل التشاركي، وذلك لوجود خبرة لدى تلك الكيانات في إدارة مثل تلك الخدمات وبسياسات تراعي الجودة المطلوبة.
يترقب العالم خلال الموسم الشتوي القادم ظهور موجة ثانية من COVID-19، ويضع هذا أمام الدولة المصرية تحديًا حقيقيًا من أجل تأمين المواطنين ضد خطر الإصابة بالفيروس، لذا يجب على الحكومة أن تنسق خططها لتأمين المرافق والأماكن العامة ضد احتمالات الانتشار الوبائي للمرض، ويجب أن تكون مرافق النقل العام أول ما تنظر إليه الحكومة في وضع خططها تلك، فمرافق النقل ترتكز بالأساس على حركة المواطنين بين مناطق مختلفة، لذا يمكن لمرافق النقل أن تتحول إلى بؤرة يومية متجددة لتفشي الوباء، وذلك في حال التهاون في اتخاذ الإجراءات الوقائية، والعكس من ذلك صحيح، ففي حال اهتمام الدولة بتعزيز الإجراءات الوقائية بمرافق النقل، فيمكن أن تساهم تلك المرافق في تحييد انتشار الفيروس بين ركابها، وربما تتجاوز مساهمتها ذلك الأمر لتكون سببًا غير مباشر في تحييد تفشي الوباء داخل أقاليم ومحافظات الدولة المختلفة.
مصادر:
– IMF، Regional Economic Outlook: Middle East Central Asia Report، April 2020.
– Egypt Overview, The Official Website of EBRD.
– النشرة السنوية لإحصاءات النقل العام للركاب داخل وخارج المدن 2016/2017، الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
– الباب الثامن: النقل والمواصلات، الكتاب الإحصائي السنوي 2019 الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. – WHO Coronavirus Statistics Report, 20/8/2020.