لماذا يرفض بعض الناس تصديق الحقيقة أحيانًا ويتشبثون بالشائعة؟ لماذا يصر البعض على مشاركة الشائعات وتداولها على الرغم من إعلان كذبها بالدلائل القاطعة؟ هل جاء اهتمامنا بالشائعات على حساب اهتمامنا بسمات المتلقي ونمط تفكيره وحالته المزاجية وميوله الشخصية؟ تبذل الدولة جهودًا ضخمة للتعريف بالحقائق ونشرها، وقد أصبح لدى العديد من المؤسسات الحكومية مراصد للرد الفوري على الشائعات وإيضاح الحقائق، وتم تخصيص خطوط ساخنة، وأرقام على “واتساب”، لكن على الرغم من كل هذه الجهود لا يزال لدى البعض إصرار على التشبث بالشائعة ومشاركتها، حتى عقب توضيح الحقائق والرد عليها، وهي ظاهرة لا ترتبط بالمجتمع المصري فقط، وإنما هي ظاهرة عالمية تثير العديد من التساؤلات على المستويات الرسمية والأكاديمية. ورغم تباين الرؤى ووجهات النظر في هذا الصدد، إلا أنها اتفقت -في المجمل- على أن إعلان الحقائق والرد المباشر على الشائعات ليس كافيًا لمواجهتها، وأن فرط التركيز على محتوى الشائعة والرد قد يأتي في العديد من الأحيان على حساب التركيز على المتلقي، وهو ما يفرض إعادة النظر في سبل مواجهة الشائعات، والبحث عن سبل أكثر ابداعًا تركز بصورة أساسية على المتلقي، وتتعامل بعمق مع نمط تفكيره، وسمات شخصيته، واتجاهاته، وتحيزاته، وأي اعتبارات أخرى حاكمة.
الأثر العكسي للحقيقة في مواجهة الشائعة
رغم كثافة الطرح وكثافة الجهود المبذولة على مستويات عدة، لا تزال الشائعات والأخبار المغلوطة تمثل تحديًا قائمًا على المستويين المحلي والعالمي. وقد عانت مصر من تبعات الشائعات والأخبار المغلوطة. وتتزايد صعوبة التغلب على هذا التحدي ما مع يتبدى بمرور الوقت من تعقد آليات المواجهة، والتيقن من حقيقة أن مجرد نشر الحقائق والمعلومات الصحيحة للرد على الأخبار المغلوطة قد لا يمثل الحل الأمثل أو الأوحد. لقد تغير الكثير في مجال المعلومات والاتصالات لدينا منذ أربعينيات القرن الماضي، لكن يبدو أن معظم المؤسسات تواصل الاعتماد على الأساليب التي صيغت قبل سبعة عقود، والمتمثلة في محاولة “سحق الشائعات بالحقائق”. تمت مناقشة فعالية هذه الطريقة في مواجهة الشائعات مباشرة بالحقائق خلال الحرب العالمية الثانية، ولا تزال تناقش حتى اليوم. وعلى الرغم من فعاليتها أحيانًا فقد لا تنجح الحقائق المنشورة بالضرورة في دحض الشائعات، بل ربما العكس، فقد تزيد المواجهة غير المحسوبة من انتشار الشائعة وترسخها، وفي حين أن بعض الأبحاث تشير إلى نجاح الرد المباشر للشائعات من خلال إظهار الحقيقة، تشير أبحاث أخرى إلى أن آثار هذا النهج ضئيلة وقصيرة الأجل. ويحذر بعض العلماء من تأثير عكسي، حيث يؤدي تعريض الناس المستمر إلى معلومات خاطئة، حتى في حال فضحها، إلى زيادة الاعتقاد في صحتها.
على سبيل المثال، أعلنت شركة “فيسبوك” بوضوح أن مجرد التنويه على أن خبرًا أو منشورًا ما مشكوك في صحته لم يكن دافعًا للحد من انتشاره، بل قد يحدث في بعض الأحيان العكس. وقد بدأ “فيسبوك” تبني خطة لمواجهة الأخبار المغلوطة والشائعات في عام ٢٠١٦، وكان الموقع يضع تنويهات للتحذير من أن هذه القصص أو المنشورات -على سبيل المثال- مشكوك في دقتها، ومع ذلك توصل الموقع إلى أن هذا التنويه لم يكن له تأثير كبير. وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق هو الإقبال الملحوظ على مواقع الأخبار المزيفة. يقدر الباحثون أن الناس يقضون في المتوسط ٦٤ ثانية في استهلاك المقالات الإخبارية المزيفة مقارنة بـ٤٢ ثانية فقط في القصص الإخبارية التي تم التحقق منها، بينما أعلنت شركة “فيسبوك” أن تحذير المستخدمين من وجود مقال خاطئ تسبب في مشاركة الأشخاص لذلك المقال بشكل أكبر، وهو ما أثار القلق والتساؤل حول أسباب “الأثر العكسي” للرد على الأخبار المغلوطة، وما إن كانت المشكلة تكمن في الرد في حد ذاته؟ أم في محتوى الرد وطريقة إعلانه؟ أم في المتلقي؟
لماذا لا يصدق الناس الحقيقة في مواجهة الشائعة؟
قد يبدو القول بعدم تصديق الحقائق قولًا إنشائيًّا في بعض الأحيان، ولكنه يحدث بالفعل؛ فإيضاح الحقيقة ليس دافعًا بالضرورة لتصديقها، ولهذا فقد تعلن عن خطأ الشائعة أو زيف الخبر، ويظل المتلقي متشبثًا بالشائعة رافضًا تكذيبها، وهو ما يرجع إلى مجموعة متشابكة من العوامل التي يمكن إجمالها فيما يلي:
1- صعوبة تغيير المعتقد
السماح للناس بالتوصل إلى استنتاجاتهم الخاصة يجعل من الصعب بشكل خاص تغيير معتقداتهم، وهو ما يفعله القائمون على إطلاق الشائعات الموجهة، هم يوجهون الجمهور نحو الاستنتاج والخروج بنتائج تتسم بالمغالطة استنادًا إلى مجموعة من المعطيات الموجهة لهم. لا تكمن مشكلة انتشار الشائعة في تداولها فقط على نطاق واسع، وإنما تكمن في تصديقها الذي يصل بالبعض أحيانًا إلى حد اليقين الذي يدفعه نحو الدفاع الشديد عن صحتها في مقابل رفض الحقائق التي قد تبدو أكثر منطقية. عندما يتلقف المتلقي الشائعة وهو يشعر بالشك، أو يضع في حسبانه وجود احتمالات للخطأ والمغالطة، فقد يكون الرد على الشائعة بإعلان الحقائق مجديًا؛ إلا أن اليقين يصعب مواجهته بردود تقليدية، خاصة إذا قادت المؤشرات التي تم توجيهها المتلقي إلى أن يكون هو صاحب الاستنتاج وهو صاحب الشائعة، إننا غالبًا ما نتفاعل مع الآراء التي نختلف معها بشكل دفاعي، ونعتبرها تهديدات لهويتنا. نحن أيضًا نفعل الشيء نفسه مع الحقائق، فعندما نواجه حقائق لا نتفق معها، غالبًا لا نغير تصوراتنا. اقترحت الأبحاث السابقة إمكانية أن يؤدي التحقق من الحقائق إلى “تأثير عكسي”، مما يجعل الناس يتبنون اتجاهًا دفاعيًّا ويصبحون أكثر عنادًا في التمسك بمعتقداتهم.
2- الانحياز المعرفي
يقول علماء النفس إن قدرتنا على التفكير لم تتطور ببساطة لمساعدتنا في العثور على الحقيقة. بدلًا من ذلك، يتطور التفكير بأداء الوظائف الاجتماعية الأساسية، مثل التعاون في مجموعات كبيرة والتواصل مع الآخرين. هذه إحدى الحجج المقدمة في كتاب “لغز العقل” الذي قام بتأليفه اثنان من أبرز العلماء المتخصصين في علم النفس المعرفي، هما: هوغو مرسييه ودان سبيربر Hugo Mercier and Dan Sperber. ووفقًا لنظريتهما في التفكير، يقوم التفكير بصورة أساسية على تبرير المعتقدات التي نؤمن بها بالفعل وتقدم الحجج لإقناع الآخرين بصحتها. وبينما يساعدنا هذا النوع من التفكير على التعاون في بيئة اجتماعية، فإنه يعوق قدرتنا على البحث عن الحقيقة. كما أنه يجعلنا نقع فريسة لعدد من التحيزات المعرفية، مثل التحيز التأكيدي، أو الميل إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتنا؛ فقوة الشائعة لا تكمن فقط في تكرارها، وإنما في رسوخها مع مرور الوقت، حيث يمكن قيادة الناس إلى استنتاجات معينة من خلال الاقتراحات والمعلومات الجزئية. وبمجرد اتّباعهم للآثار المترتبة على الاستنتاج الواضح، فإن هذا الاستنتاج سيظل ثابتًا. وبالتالي فإن التشكيك في الشائعات الخاطئة وتقديم معلومات أكثر اكتمالًا لا يكفي لدفع الناس إلى تغيير معتقداتهم.
3- الحقائق لا تهم دائمًا
تشير مجموعة من الأبحاث التي قام بإجرائها عدد من العلماء المتخصصين في علم النفس المعرفي إلى أن تصحيح المفاهيم الخاطئة لا يكفي لتغيير السلوك. على سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات أن الجهود التي بذلت لتصحيح الاعتقاد الخاطئ لدى البعض في الغرب بأن اللقاحات والتطعيمات على سبيل المثال تسبب التوحد لم ينجح في تشجيع الآباء على تطعيم أطفالهم، وهو ما يعني أن تصحيح المعتقدات الخاطئة قد يدفع الناس لتغيير معتقداتهم حيال قضية أو أمر ما، لكنه لا يغير من سلوكياتهم حيالها. ولعل المثير للدهشة هنا هو أنه وإن كان بإمكانك جعل الناس يعلمون ويفهمون الحقائق، فقد تصطدم بأن الحقائق لا تهم دائمًا، وليست هي القضية بالنسبة للمتلقي.
4- الأحكام المسبقة
تعزز الأحكام المسبقة تصديق الشائعة ورفض الحقائق، فقد لاحظ علماء النفس أن الميل إلى عدم تصديق الحقائق لا يعبر عن مشكلة في الذاكرة، فالناس لا ينسون الأدلة المؤكدة؛ بل يتذكرونها. ولكن عندما يصدر الأشخاص أحكامًا، فإنهم غالبًا لا ينخرطون في المعالجة الجادة والتحليل الجاد. يتطلب تقييم جميع الأدلة، بما في ذلك الأدلة غير المؤكدة، جهدًا معرفيًّا أكبر. يتمتع الناس بشكل عام بالكفاءة المعرفية؛ ولكن يمكن القول إنهم “كسولون”. بعبارة أخرى، نتفق مع التفسيرات المباشرة والبسيطة، غالبًا لأن التفسير البسيط هو التفسير الذي تعلمناه أولًا والذي يتبادر إلى الذهن بسهولة. وعندما نتوصل بأنفسنا إلى نتيجة بناءً على الآثار المترتبة، فمن الأرجح أن نستمر في التمسك بهذا الاستنتاج؛ ففي سلسلة من الدراسات التي أجريت حول العلاقة بين المعتقد السياسي وتقبل الحقيقة، توصلت النتائج في المجمل إلى أن الناس أكثر ميلًا لتصديق العناوين الرئيسية والمنشورات التي تتماشى مع معتقداتهم السياسية.
5- تأثير مجتمعات الشائعة “Rumor communities”
تُشير العديد من الدراسات إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي يمكن أن تُؤدي إلى ما يطلق عليه “مجتمعات الشائعة”، وهي مجتمعات تتكون تلقائيًّا وتقوم بخلق ديناميات تفاعل فيما بينها يجعلها تقاوم بقوة الحجج المضادة. في هذه الحالات، يصبح فهم ديناميكيات مجموعة الشائعات بنفس أهمية فهم علم الإقناع والمعتقد الفردي، فالدعم الجمعي لشائعة أو خبر مغلوط يجعل الفرد يتماشى مع الاعتقاد الخاص بالمجموعة.
6- استغلال العدوى العاطفية
يُجيد مطلقو الشائعات استغلال العاطفة التي تساهم في الحد من الجوانب النقدية في التعامل مع المحتوى المقدم. وقد ترتب على إطلاق الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي، تعدد سبل استثارة العاطفة فيما يطلق من شائعات وأخبار مغلوطة، وهو ما يجعل المتلقي لا يلتفت كثيرًا إلى مصدر إطلاق الشائعة أكثر من محتواها. ولعل أبرز ما يزيد من ترسخ الشائعة هو أن الرد عليها غالبًا ما يأتي بصورة نصية، أو لفظية، دون الاهتمام بهذا البعد. من جهة أخرى، تبدو أوقات “الهشاشة النفسية” عاملًا مهيِّئًا لانتشار وتصديق الشائعة، فقد توصلت العديد من الدراسات إلى وجود علاقة بين الخوف والشائعات وعلاقة بين الحزن والشائعات. ويتحدث العلماء في هذا الإطار أيضًا عن “العدوى العاطفية” لمستخدمي الإنترنت والتي تعد عاملًا مهمًّا أيضًا في تسريع انتشار الشائعات. وتعني العدوى العاطفية أنه في الحياة اليومية، يمكن أن “تنتقل” المشاعر مثل السعادة والغضب والحزن، مثل العدوى، من شخص إلى آخر في وقت قصير، ولا يمكن للعدوى العاطفية أن تغير مشاعر الناس فحسب، بل تعمل أيضًا كإشارة للتأثير على مشاعر الآخرين. وتظهر الأبحاث ذات الصلة أن المشاعر المتطرفة أو المشاعر العاطفية القوية، مثل الغضب، تنتشر بسهولة. وتشرح فرضية العدوى العاطفية كيف تنتقل المشاعر وتنتشر أثناء الحوار بين المتصلين والمستقبلين، وتصبح في النهاية مشاعر جماعية واسعة النطاق.
في النهاية، يمكن القول إن هناك العديد من العوامل الحاكمة والمحددة لفاعلية الرد على الشائعات، والتي تتجاوز إعلان الحقائق ونشرها. أثناء الحرب العالمية الثانية قام “جوردون دبليو ألبورت” و”ليو بوستمان” (١٩٤٧) بصياغة معادلة يتم من خلالها التنبؤ بانتشار الشائعة وقوتها، وهذه المعادلة تتمثل في أن قوة انتشار الشائعة تساوي حاصل ضرب أهميتها في غموضها. ومن ثم، من أجل السيطرة على شائعة ما يجب على المرء إما أن يقلل من مستوى الأهمية، أو القضاء على الغموض حول الأساس الواقعي للشائعة أو كلاهما. القضاء على الغموض مهم بشكل خاص إذا كانت الشائعة خاطئة تمامًا في الواقع، والتقليل من الأهمية يبدو مهمًّا في حالة وجود أساس واقعي تستند إليه الشائعة، ولكن حتى في حالة وجود مزيج من الحقيقة والخيال في الشائعات، فإن إزالة الغموض حول الرواية يمكن أن يساعد في السيطرة على الشائعات وتثبيتها في الواقع. لكن لا يزال هناك العديد من العوامل التي يبدو أنها تجعل تصحيح الشائعات أكثر نجاحًا. من ذلك، على سبيل المثال، استخدام مدققي الحقائق المحترفين أو تقديم الحقائق في شكل رسوم بيانية بدلًا من شكل نصي. أيضًا تشير دراسات حديثة إلى أن الدحض المباشر للشائعات قد ينجح إذا جاء الرد من مصدر سياسي معارض. على سبيل المثال، أظهر “آدم بيرينسكي” أن الدحض الجمهوري للشائعات حول إصلاح “باراك أوباما” للرعاية الصحية كان أكثر نجاحًا من نفس الدحض الذي جاء من ديمقراطي أو مصدر محايد، وغيرها من العوامل الحاكمة التي تحتاج لمزيد من الدراسة.