تراقب دول العالم الانتخابات الأمريكية، وكل منها يحسب مكاسبه وخسائره حال فاز هذا المرشح أو ذاك. اختيار رئيس الولايات المتحدة أمر من حق الناخبين الأمريكيين وحدهم، وإن كانت بعض الدول تحاول التأثير في نتيجة الانتخابات الأمريكية، عبر اتخاذ قرارات معينة، أو عبر التلاعب باتجاهات الرأي العام الأمريكي؛ غير أن كل هذا استثناء، ولا يمثل سوى قطرة في بحر الانتخابات الأمريكية العميق والمتلاطم؛ أما الأغلبية الساحقة من شعوب ودول العالم فلا يملكون سوى الانتظار والتمني.
وصلت الولايات المتحدة إلى ذروة نفوذها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، عندما تربعت بمفردها على قمة النظام الدولي، فراحت تتدخل في شئون دول العالم، للترويج للنموذج الديمقراطي الليبرالي، ولو بقوة السلاح. قدمت أمريكا المساعدات، وفرضت العقوبات، وتدخلت بجيوشها لإسقاط نظام حكم وإقامة آخر. كانت الولايات المتحدة في قوة عنفوانها وانفرادها بالقرار، ولم تكن تترك أحدا لحاله. بمناسبة واحدة من الانتخابات الأمريكية التي جرت في تلك السنوات كتبت مقالا خياليا، دعوت فيه لإعطاء دول العالم الفرصة للتصويت في الانتخابات الأمريكية، على أن يكون لكل دول العالم مجتمعة نصيب لا يزيد عن نصيب أصغر الولايات الأمريكية في المجمع الانتخابي، وبحيث لا يصبح لتصويت حكومات العالم في الانتخابات الأمريكية قيمة إلا عندما ينقسم الأمريكيون، وتتوزع أصواتهم بالتساوي تقريبا بين المرشحين المتنافسين. المنطق وراء هذه “الفاتنازيا” السياسية هو أنه من غير المقبول في عالم الاعتماد المتبادل والعولمة والأسواق الموحدة والمصير المشترك أن ينفرد شعب واحد باتخاذ قرارات تحدد مصير العالم؛ وأنه ما دامت أمريكا تتدخل في شئون كل العالم بعشوائية ومزاجية كيفما تشاء، فلماذا لا نمنح العالم فرصة محدودة للتدخل المنظم في الشأن الأمريكي، كطريقة لإدخال بعض المساواة والعدالة على النظام الدولي.
انتهى العصر الذهبي للولايات المتحدة، ولم تعد أمريكا قادرة على الانفراد بتحديد اتجاهات السياسات الدولية، لكنها مازالت القوة الأكثر تأثيرا في العالم، ومازال الأمريكيون ينفردون بانتخاب رئيسهم، ومازال علينا الاكتفاء بالمشاهدة انتظارا للنتائج، وإن كان لنا أن نحسب الحسابات، وأن نتمنى فوز أحد المرشحين وخسارة الآخر.
يجد كثيرون في منطقتننا صعوبة في تفضيل مرشح أمريكي ضد الآخر. الرئيس ترامب هو أكثر رؤساء أمريكا انحيازا لإسرائيل؛ لكن ماذا قدم الرؤساء الأقل انحيازا لإسرائيل للفلسطينيين؟ ألم يسهل الجمود الذي خيم على عملية السلام طوال العشرين عاما الأخيرة عطايا الرئيس ترامب غير المسبوقة لإسرائيل؟
قلص الرئيس ترامب الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، خاصة في العراق وسوريا، مستكملا بهذا ما بدأه الرئيس أوباما من قبله. تقليص الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط هو الشيء الوحيد الذي يتفق عليه الجمهوريون والديمقراطيون، وهو السياسة الوحيدة للرئيس السابق أوباما التي يتمسك بها الرئيس ترامب.
لم يعد الشرق الأوسط جذابا للولايات المتحدة، بعد تراجع أهمية النفط، وبعد أن أصبحت إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها بمفردها. المشكلة مع المرشح بايدن، هو أنه مثل الرئيس السابق أوباما يخطط لتخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها في الشرق الأوسط، فيما يسلم لإيران بدور مهيمن في المنطقة. عكست هذه السياسة نفسها في الاتفاق النووي السخي الذي عقده أوباما مع إيران، فأنهي العقوبات والعزلة التي تم فرضها على إيران بسبب سياساتها العدوانية والتوسعية، مقابل تجميد المشروع النووي الإيراني لعدة سنوات، والنتيجة هي إتاحة مليارات إضافية من الدولارات، استخدمتها إيران في تمويل حربها في سوريا، ودعم الميلشيات التابعة لها في لبنان والعراق واليمن.
انسحب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي، وأعاد فرض العقوبات على إيران، وقام بتزويد دول الخليج بصفقات سلاح متقدمة، مقابل مليارات كثيرة من الدولارات؛ فربح الرئيس الأمريكي لبلاده أموالا، فيما جرى تعديل ميزان القوة في المنطقة لغير صالح إيران.
تسليم المنطقة لإيران والإخوان المسلمين هو الموقف السائد بين الديمقراطيين، اعتقادا منهم بأن الدين هو الإيديولوجيا الوحيدة الممكنة في الشرق الأوسط. تمكين الإخوان هو جوهر سياسة فرض الديمقراطية التي يتبناها الحزب الديمقراطي. صحيح أن المرشح بايدن لا يظهر حماسا للعودة لسياسة فرض الديمقراطية، ولكنه سيعود لممارسة لهذه السياسة في إطار المساومات مع الجناح اليساري القوي في الحزب الديمقراطي، والمتمسك بهذه السياسات؛ ولم لا؟ فقد غزا الرئيس بوش الابن العراق قبل سبعة عشر عاما نتيجة للمساومة بين أجنحة الحزب والسلطة الجمهورية، فتمت التضحية بالعراق؛ فلماذا لا يفعلوها ثانية، مضحين ببعض البلاد الإضافية في منطقة لم تعد مهمة للولايات المتحدة في كل حال.
يقف الرئيس ترامب بعيدا عن هذا العبث الذي تجري ممارسته باسم الديمقراطية، وهو ما يجعله اختيارا مفضلا بالنسبة للكثيرين في المنطقة، ليس لأنهم معادين للديمقراطية، ولكن لأنهم يعتقدون أن بلادنا ستصل إلى الديمقراطية عندما يكون مجتمعنا جاهزا لها، وليس عندما يريد الغرباء؛ وأن الديمقراطية التي نبنيها تدريجيا وفقا لظروفنا، وليس النظام المستخرج من الكتب المترجمة، هو النظام الأمثل القابل للحياة في مجتمعنا.
المشكلة الأكبر مع الرئيس ترامب هي قيامه بتقويض النظام الدولي الليبرالي المحكوم بقواعد محددة، في مجالات البيئة والتجارة واحترام التعهدات والتحالفات. لقد استفادت الدول النامية من حرية التجارة والاستثمار؛ وكدول صغيرة فإنه يمكنها حماية مصالحها بدرجة أكبر في نظام دولي يحكمه القانون والقواعد؛ كما أن حماية البيئة تمثل مصلحة أساسية لكل الدول، خاصة الدول الصغيرة التي لا تستطيع احتمال عواقب التغير المناخي. لقد قوض الرئيس ترامب النظام الدولي لحرية التجارة، وأوقف مشاركة الولايات المتحدة في جهود الحد من التغير المناخي، بينما يعد المرشح الديمقراطي بايدن بإعادة التزام الولايات المتحدة بهذه السياسات، وهو ما يخدم مصالح الدول الصغيرة، بما فيها بلادنا.
بايدن أم ترامب؛ الأول أفضل للعالم، والثاني أفضل للشرق الأوسط. هكذا تثبت منطقتنا مرة أخرى أنها استثناء فريد، وأن ما يسري على العالم لا يسري بالضرورة عليها؛ أما الانتخابات الأمريكية، فأمرها متروك للناخب الأمريكي، وما علينا سوى التكيف مع اختياراته.