يطرح التحول الفارق في خطاب رئيس المجلس الرئاسي للوفاق “فايز السراج” حول مستقبل السلطة في ليبيا، من برنامج عمل يتمحور حول تسليم السلطة خلال 6 أشهر (سبتمبر 2020 – مارس 2021) إلى إعلانه الأخير تسليم السلطة بحلول نهاية أكتوبر 2020؛ متغيرات جديدة، لعل أبرزها متغير “تبدل التحالفات والخيارات السياسية”. فلا شك أن تعويل “السراج” على آلية مسار الحوار الشامل لرسم خريطة طريق ليبية تنهي مرحلة الصخيرات يعكس اتجاهًا جديدًا نحو التحالف مع القوى الوطنية التي ستشارك في مسار جنيف للتسوية السياسية، والذي شكلت جولة “مونترو” (7-9 سبتمبر 2020) قاعدة انطلاقة له في وضع جدول أعماله، وهو ما أسفر عن ردود أفعال تركية لاحقة لإعلان “السراج” هذه الخطوة التي يبدو أنها جاءت مفاجئة لأنقرة وعلى غير رغبتها.
في المقابل؛ من المهم القول إن مبادرة “السراج” وإن كانت خطوة متفائلة نحو احتواء حالة التمزق السياسي الذي شهدته البلاد في السنوات الأخيرة، إلا أنها لا تشكل -في حد ذاتها- عتبة الانتقال السياسي المرتقبة. فـ”السراج” وإن كان يمثل العنوان السياسي للوفاق، إلا أن خبرة الوفاق التي تشكلت في مرحلة الصخيرات تعكس عمليًّا نظرية تعدد محاور القيادة كمنتج طبيعي لتركيبة السلطة التي أفرزتها الصخيرات وما تبعها من ممارسات في الواقع. وبالتالي، فإن المبادرة تمثل أحد الفاعلين الرئيسين في قيادة الوفاق أكثر من كونها تمثل الوفاق بشكل عام.
يطرح المدخل السابق تصورًا حول الفرص والتحديات التي يمكن أن تواجه المسار المرتقب لتسوية الأزمة الليبية، وهي في واقع الأمر فرص وتحديات متشابكة وإشكالية، فما يمكن النظر إليه على أنه فرصة يمكن أن يشكل تحديًا في الوقت ذاته.
1- تحرير قرار الرئاسي من التبعية لتركيا:
لقد كسرت قرارات “السراج” الأخيرة، وتحديدًا قراري وقف إطلاق النار ومبادرة تسليم السلطة، حدة الهيمنة التركية على قرارات المجلس الرئاسي؛ لكنها لن تُنهِ هذه الحالة بشكل عام، بالنظر إلى تعدد اللاعبين المقربين منها، سواء من أعضاء المجلس الرئاسي أو مجلس الدولة أو المؤسسات الأخرى، لا سيما المؤسسات الاقتصادية كمؤسسة النفط والبنك المركزي. إضافة إلى البنية العسكرية التركية في غرب ليبيا، حيث استحوذت أنقرة على كافة القواعد العسكرية هناك، إلى جانب الاتفاقيات الثنائية المبرمة في هذا الصدد. فمن المفترض أن يكبح موقف “السراج” توقيع المزيد من الاتفاقيات، لكن حكومة الوحدة الوطنية المقبلة ستجد نفسها مكبلة بتلك الاتفاقيات، وستواجه تحدي تفكيك تلك البنية. يُفسر ذلك تصريح المتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم قالن” بأن رحيل “السراج” عن السلطة لن يؤثر على تلك الاتفاقيات؛ فإما أن تجد تركيا البديل أو أن تسعى للالتفاف بعيدًا عن “السراج”. دليل ذلك تصريحات وزير دفاع الوفاق المكلف “صلاح المنقوش” خلال زيارته الأسبوع الجاري إلى تركيا والتي أشار فيها إلى دور تركيا في “بناء وتطوير الجيش”.
2- تقويض حدة الانقسامات:
المقصود هنا هو تقويض حدة الانقسامات التي تشكلت في إطار معسكري الشرق والغرب من خلال التقارب مع رئيس البرلمان المستشار “عقيلة صالح”، وهو ما ظهر أيضًا في قرار وقف إطلاق النار وفي جولة “مونترو” باعتبارها خطوة تمهيدية على مسار التسوية الشاملة. لكن من زاوية أخرى، لم تكن تلك المعسكرات متماسكة داخليًا، فهناك أجنحة متنافسة داخل كل معسكر، وهو ما ظهر -على سبيل المثال- في أزمة “السراج” مع وزير الداخلية “فتحي باشاغا”. وكذلك في الشرق بالنظر إلى التباينات في الرؤى السياسية بين القيادة العامة والبرلمان. ومن المرجح أن تفرز محصلة هذه الانقسامات والتباينات في كل معسكر اصطفافات جديدة، فعلى التوازي من التقارب بين رئيس المجلس الرئاسي ورئيس البرلمان، هناك تقارب بين المشير “خليفة حفتر” القائد العام للجيش الليبي و”أحمد معيتيق” نائب رئيس المجلس الرئاسي. وما يسترعي الانتباه في هذه التفاعلات هو بعد العامل الخارجي، حيث إن تقارب “حفتر” مع “معيتيق” خلق هامشًا إضافيًا لمساحة الدور الروسي في ليبيا، على عكس الاصطفاف المقابل (عقيلة–السراج) الأقرب للقوى الأوروبية والولايات المتحدة والبعثة الأممية، وكانت أحدث تجلياته رفع العقوبات الأوروبية ولاحقًا الأمريكية على رئيس البرلمان.
3- عامل الوقت الشرطي:
يمكن تفسير عامل الوقت الشرطي الذي أعلن عنه السراج بحلول نهاية أكتوبر، من أكثر من زاوية، فهو بالأساس يتماشى مع الجدول الزمني التقريبي للحوار الشامل في جنيف من جهة، وأنه حتى وإن كان ينوي تسليم السلطة لكنه لا يريد في الوقت ذاته فراغًا في السلطة، وهو ما أكده من خلال دعمه للحوار السياسي المرتقب والذي ينتظر منه إعادة تشكيل السلطة الموحدة في البلاد، من جهة أخرى، وهو ما يشكل فرصة في تسريع إنهاء المرحلة الحالية والانتقال للمرحلة المقبلة، لكنه رهن الإنجاز السياسي المطلوب بفترة زمنية ضيقة، ما يشكل عامل ضغط زمنيًا لأكثر من اعتبار، منه -على سبيل المثال- أن تشكيل السلطة، لا سيما الرئاسي والحكومة والبرلمان، في ضوء معطيات “مونترو” يحتاج إلى إجراءات متسارعة للغاية في جنيف، في حين أن الملفات الفنية الخاصة بتشكيل هذه السلطة لم تنطلق بعد، واعتبار الطوارئ والمفاجآت في حال ظهرت عراقيل ما لاستئناف الحوار الشامل في جنيف، خاصة أن هناك فرصة لتدخلات خارجية قد يكون من مصلحتها إعاقة هذه الترتيبات. وبالتالي قد يعيد ذلك “السراج” لمسار عودة إلى إطالة أمد السلطة على حالها لفترة أخرى.
4- سيولة المشهد الليبي:
على جانب آخر، من المتصور أن حسابات الفرص والقيود التي سبقت الإشارة إليها لا تسير في خط مستقيم بالنظر لسيولة المشهد الليبي الحالي، والتفاعلات المتسارعة فيه. فعلى سبيل المثال، فإن معادلة الاصطفافات الجديدة شهدت تقاربًا بين القاهرة وغرب ليبيا، وأصبحت القاهرة لاعبًا رئيسيًا في عملية التسوية، ولها دور مؤثر ومتنامٍ في مسار الحل السياسي منذ إعلان مبادرتها للتسوية السياسية وخط سرت–الجفرة كخط أحمر لوقف إطلاق النار كمقدمة لإطلاق العملية السياسية، وكذلك التقارب بين القاهرة والبعثة الأممية من جهة، وانفتاح القاهرة على الغرب الليبي في الوقت ذاته من أخرى، إضافة إلى دور القاهرة في رأب التصدعات الليبية، والذي يمكن أن يشكل أحد محركات دفع هذا المسار وتجنيبه قدرًا كبيرًا من العراقيل المحتملة التي تنتظره. كما يبدو أن هناك حراكًا غربيًا أوروبيًا وأمريكيًا يدفع في المسار ذاته.
في المحصلة الأخيرة، من المتصور أن إعلان رئيس المجلس الرئاسي للوفاق يتماشى مع مسار التركيز على الحل السياسي باعتباره المسار الآمن للخروج من المأزق الحالي المعقد والمركب الذي تشهده ليبيا على مدار العقد الماضي، لكن يظل من الضروري الوضع في الاعتبار في المقابل هشاشة الحالة السياسية في ليبيا بشكل عام، فالتجربة السابقة أثبتت صعوبة القدرة على مغادرة مربع “المراحل الانتقالية” المتكررة، وفي كل انتقال سياسي يتم التعامل مع الأعراض التي تشكلت في المرحلة السابقة دون معالجة الاختلالات المزمنة التي أصبحت بمثابة معضلات في الحالة الليبية، وتشكل تراكماتها مزيدًا من الإضعاف للدولة في ليبيا.
لكن أيضُا تظل هناك فرصة لإغلاق هذه الدائرة طالما هناك نقطة عودة إلى الحوار، مع الوضع في الاعتبار أن المرحلة الانتقالية الحالية لم تكن أخف وطأة من المراحل السابقة، بل على العكس ربما أصبحت محملة بأعباء وتكاليف أكثر على المستوى الكمي والكيفي أكثر من ذي قبل، منها أن التغلغل الخارجي في ليبيا لم يعد يدار فقط من الخارج، بل أصبح معطى يشغل حيزًا على الساحة، بل إن فاعلية أدواته كالمرتزقة أكثر قدرة على إحداث الفوضى مقارنة بالميليشيات المحلية التي تظهر أنه يمكن استيعاب البعض منها بقدر ما، ومن ثم فإن تسليم السراج للسلطة قد يمنح الفرصة لسلطة أخرى، لكنه في نهاية المطاف لن يساعد في تخطي الأزمة الليبية.