سينزعج الكثيرون من هذا العنوان، وأنا شخصيا أشاركهم هذا الانزعاج، لكن انزعاجنا المشترك لا يكفي لإخفاء حقيقة أن العالم العربي قد انتهى بالفعل. العرب موجودون، ولا يوجد سبب للاعتقاد بأن وجودهم كجماعة بشرية ومجموعة ثقافية معرض للخطر. أغلب الدول العربية باق، ولديه مقومات البقاء رغم التحديات، وبعضها الآخر دخل في أزمات عميقة، تهدد بقائه دولا موحدة، فيها حكومة مركزية تمارس سلطتها على كافة أنحاء إقليمها. لكن لا الشعوب ولا الدول العربية تتصرف كما لو كان العالم العربي يعني شيئا لها؛ فلا هي تتوقع منه دعما لو وقعت في ضائقة، ولا تأخذ رد فعله في اعتبارها عندما تأخذ قرارا يخدم مصلحتها، ولا تتصور لنفسها مستقبلا في إطار العالم العربي، أي بمجموعة الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية.
العالم العربي هو مفهوم تحليلي، وعقيدة سياسية، وبرنامج عمل؛ وعلى كل هذه المستويات لم يعد العالم العربي موجودا. كمفهوم تحليلي، لم يعد للعالم العربي قيمة تذكر. يمكن للباحثين كتابة عشرات الكتب في تحليل الأزمات المشتعلة في المنطقة، في سوريا والعراق وليبيا واليمن، دون استخدام مصطلح العالم العربي. لم يعد المحللون في حاجة لاستخدام مفهوم العالم العربي عند شرح وتفسير السياسة الخارجية للدول العربية. لم تنعقد القمة العربية هذا العام بسبب جائحة كورونا. لكن كم واحد منا يفتقد القمة العربية، وهل تأثر مسار أي من الأزمات العربية بسبب عدم انعقاد القمة؟
كعقيدة سياسية، لم يعد العالم العربي يمثل أساسا لعقيدة سياسية عروبية، تقدم منظورا للعالم والواقع السياسي. في زمن مضى كانت القومية العربية هي العقيدة الأكثر تأثيرا في المنطقة، وكان العالم العربي هو الحقيقة المسلمة التي انطلق منها العروبيون، وبنوا عليها عقيدتهم السياسية. في زمن مضى كانت العقيدة العروبية هي الأكثر انتشارا ونفوذا في المنطقة. إنه الزمن الذي تصدرت فيه الأحزاب والقوى العروبية، الناصرية والبعثية، المشهد السياسي في الدول العربية، خاصة الرئيسية منها. شغلت العروبة الفراغ الإيديولوجي في المنطقة، وخلف اختفائها خواء احتله الإسلام السياسي. انهار الإسلام السياسي، ومازلنا نبحث عن بديل إيديولوجي يملأ الفراغ الذي شغلته الإيديولوجيا العروبية يوما ما.
العالم العربي هو أساس لبرنامج عمل، يدل على الأهداف الكبرى، ويملي على الدول قائمة المرغوب وغير المرغوب من السياسات والقرارات. في برنامج العمل العروبي، الوحدة مفضلة على التجزئة، وكل تقارب وتنسيق وتوحد عربي هو سلوك مرغوب، وكل تباعد وتنازع عربي هو سلوك غير مرغوب؛ والتضامن مع الدول العربية هو سلوك مرغوب، فيما الوقوف مع الأجنبي ضد أخ عربي هو سلوك مرفوض. لفلسطين مكانة مميزة في برنامج العمل العروبي، فدعم القضية الفلسطينية مرغوب، وكل تقارب مع إسرائيل أمر مرفوض. لقد تعرضت هذه المبادئ للتآكل منذ زمن بعيد، حتى وصلنا إلى لحظة اختفائها التام. هل نذكر عندما وقفت سوريا البعث إلى جانب إيران في حربها ضد العراق، البعثي أيضا. هل نذكر غزو العراق للكويت، والحرب التي شنتها دول عربية تحت قيادة أمريكية ضد جيش الاحتلال العراقي. لم تعد أي حكومة عربية تسترشد ببرنامج العمل العروبي، إذ لم يعد هناك فائدة تعود من الالتزام به، ولم يعد هناك تكلفة أو عقاب يترتب على تجاهله.
انتهت القيمة التحليلية والعملية للعالم العربي، فيما أصبح لمفاهيم أخرى أهمية قصوى، فلم يعد ممكنا التفكير في شئون المنطقة دون الاستعانة بها. هناك أولا مفهوم الشرق الأوسط؛ فبعد أن أخفق العرب في حماية نطاقهم الثقافي والسياسي ضد تغول دول الجوار غير العربية، زالت الحدود العازلة بين العالم العربي والشرق الأوسط، وزاد نفوذ إيران وتركيا في الإقليم، وأصبحا اللاعبين الأساسيين فيه، فلم يعد ممكنا التفكير في شئون المنطقة دون الإشارة إلى هذا البعد الشرق الأوسطي. ظهر شرق المتوسط كإقليم يضم دولا عربية وغير عربية، في تفاعلات اقتصادية وأمنية، تعاونية وصراعية، أكثر جوهرية بكثير من أي شيء يجري في العالم العربي.
العالم العربي هو مفهوم مشرقي، ولد وتطور في بلاد العرب الذين خاضوا نضالا ضد الاستعمار العثماني التركي، حول منعطف القرن العشرين، فيما كان عرب مصر وشمال أفريقيا والخليج يطورون إطارات سياسية بديلة. انتشرت العروبة السياسية من المشرق، فتمشرقت السياسة العربية. منذ سبعينيات القرن الماضي والمشرق العربي آخذ في الانهيار التدريجي. غزا الأمريكيون العراق عام 2003، وأتى بعدها الربيع العربي المزعوم، ليجهز على ما تبقى من المشرق. انهار المشرق، فانتهى العالم العربي، ودخلنا في مسار لا يبدو أننا مهيئين للرجوع عنه.
للعالم العربي، في العقيدة العروبية، وجود موضوعي يستند إلى الإقليم الجغرافي المتصل ووحدة اللغة والتاريخ والميراث الديني. لم يتغير شيء من كل هذا، لكن العالم العربي لم يعد موجودا، بما يشير إلى أن العالم العربي هو كيان تخيلناه، أكثر منه ظاهرة موضوعية. لقد صنع مثقفون وسياسيون عرب العالم العربي كإطار تحليلي، وأساسا لعقيدة سياسية في زمن كان فيه لهذا المفهوم فوائد عدة، وتخلوا عنه عندما كف عن أن يكون مفيدا.
يبدو العالم العربي متجها لمصير يشبه مصير أمريكا اللاتينية، حيث الإقليم الجغرافي المتصل ووحدة اللغة والتاريخ والدين تخلق مجالا ثقافيا وحضاريا مشتركا، لا ينطوي على الكثير من المحتوى والمغزى السياسي، وإن كان غنيا بالتفاعلات الثقافية والفكرية المشتركة. ستبقى الأعمال الفكرية والأدبية والفنية المنتجة في أي بلد عربي قابلة للاستهلاك والتداول في بلاد عربية أخرى، فالمطابع والإنترنت والتليفزيون الفضائي تخلق مجالا ثقافيا مشتركا يستند إلى اللغة الواحدة. غير أن أحدا لم يعد يترقب الخطبة القادمة لزعيم يلقي خطابا في عاصمة عربية بعيدة؛ ولم تعد أخبار السياسة في بلد عربي موضوعا للاهتمام خارج دوائر المختصين من غير أهل هذا البلد. لدينا رأي عام فني عربي، وبدرجة أقل رأي عام ثقافي عربي؛ أما الرأي العام السياسي العربي فقد كاد يختفي تماما، وباختفائه انتهى العالم العربي.