مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، تزداد المخاوف من محاولات التدخل الخارجي في نتائج تلك الانتخابات من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، أو التلاعب بالمعلومات، أو اختراق آليات التصويت الإلكترونية، أو التلاعب بأنظمة احتساب الأصوات. وتجد تلك المخاوف أواصرها في تصريحات المرشحين الرئاسيين “دونالد ترامب” و”جو بايدن” من ناحيةٍ، والأجهزة الأمنية الأمريكية وفي مقدمتها المركز الوطني للأمن ومكافحة التجسس من ناحيةٍ ثانيةٍ، وكبرى الشركات التكنولوجية وفي مقدمتها شركة “مايكروسوفت” من ناحيةٍ ثالثةٍ.
تحذير المرشحين
حذّر الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” من احتمالية تزوير نتائج الانتخابات خلال تصريحاته في ولاية ويسكنسن في 18 أغسطس الماضي. وأكد أن ذلك التزوير هو السبب الوحيد المحتمل لخسارته الانتخابات، ما يستوجب الحذر، وأخذ ما يلزم من تدابير للحيلولة دون ذلك. وقد سلّط تصريحه المفاجئ آنذاك -بجانب محاولاته زرع الشك في نزاهة الانتخابات الرئاسية- الضوء على طبيعة المخاوف المتنامية من أفق واحتمالات التزوير من ناحيةٍ، والتدخل الخارجي في الانتخابات من ناحيةٍ ثانيةٍ. وفي سياقٍ متصلٍ، قال “ترامب” في 24 سبتمبر الماضي -ردًّا على سؤال حول تداول السلطة السلمي حال خسارته للانتخابات- في ندوةٍ صحفيةٍ: “يجب أن نرى ما يحصل”. وقد أسفرت تصريحاته عن إثارة التساؤلات عن موقفه من نتائج الانتخابات في حال الهزيمة أو التزوير أو التدخل الخارجي.
وعلى صعيدٍ متصلٍ، حذّر “بايدن” مؤخرًا من أنه سيكون هناك “ثمن يجب دفعه” إذا استمرت روسيا في التدخل، واصفًا إياها بـخصم الولايات المتحدة. في حين قلل الرئيس “ترامب” مرارًا من أهمية مزاعم التدخل الروسي، ما جعله على خلاف مع أجهزته الاستخباراتية. ففي أعقاب قمة 2018 مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” على سبيل المثال، سُئل “ترامب” عما إذا كان يصدق أجهزة الاستخبارات في بلاده أم الرئيس الروسي بشأن مزاعم تدخل روسيا في الانتخابات، فأكد “ترامب” أنه يصدق “بوتين” الذي أكد عدم تدخل بلاده في الانتخابات، مؤكدًا أنه لا يرى أي سبب للدفع بذلك، ثم أقر لاحقًا بأنه أخطأ في حديثه.
وعلى صعيد احتمالات التدخل الصيني في الانتخابات، أعاد “ترامب” نشر مقالٍ كان منشورًا على موقع (Breitbart) المؤيد له، وهو المقال الذي حمل عنوان “يبدو أن الصين تفضل جو بايدن في الانتخابات الرئاسية”. وغرّد “ترامب” بأن الصين بالطبع تريد “بايدن” بعد أن أُخذت منها مليارات الدولارات التي أُعطيت للمزارعين الأمريكيين وخزانة الولايات المتحدة. كما حذّر “ترامب” من تملك الصين للولايات المتحدة إذا فاز “بايدن” و”هانتر”.
تحذيرات الأجهزة الأمنية
حذّر رئيس المركز الوطني للأمن ومكافحة التجسس “وليام إيفانينا”، في 24 يوليو الماضي، الأمريكيين من محاولات التدخل في الانتخابات الأمريكية من خلال اختراق اتصالات الحملات الانتخابية الأمريكية وشبكات إدارة الانتخابات، بجانب توظيف وسائل التواصل الاجتماعي للتأثير في خيارات الناخبين الأمريكيين. وقد وجّه أصابع الاتهام إلى روسيا التي تهدف إلى إضعاف الولايات المتحدة والتأثير في دورها العالمي من خلال نشر معلوماتٍ مضللةٍ. وفي سياقٍ متصل، حذرت وكالة الأمن القومي الأمريكية من موجةٍ جديدةٍ من الهجمات السيبرانية من قبل إحدى أكثر وحدات التجسس السيبراني الروسية تقدمًا، وهي الوحدة (74455) التابعة للمركز الرئيسي للتكنولوجيات الخاصة بمركز GTsST، وهي جزءٌ من جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية التي تعرف أيضًا بمجموعة (Sandworm).
وقد عاد “إيفانينا”، في بيانٍ صدر في 7 أغسطس الماضي، للتأكيد على أن الدول الأجنبية ستواصل استخدام تدابير التأثير السري والعلني في محاولاتها للتأثير على تفضيلات الناخبين الأمريكيين ووجهات نظرهم. ووصف تلك الأنشطة بالأقل دراماتيكية من الهجوم المسلح، لكنها أكثر “شرًّا”. كما ذكر في بيانه أن طهران تعارض فوز “ترامب” بولايةٍ أخرى. وأشار “إيفانينا” في بيانه إلى أن جهود إيران ستركز على نشر معلوماتٍ مضللةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، وإعادة نشر محتوياتٍ مناهضةٍ للولايات المتحدة. وقد انعكست التصريحات والتحذيرات سالفة الذكر في جهود مجتمع الاستخبارات لرصد وكشف التحركات الأجنبية، مع رصد محاولات إيران ـتقويضَ المؤسسات الديمقراطية الأمريكية والرئيس “ترامب” قبل الانتخابات.
وتأكيدًا على تزايد احتمالات التدخل، أشار مكتب التحقيقات الفيدرالي -بجانب وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية (CISA) في تنبيهٍ أمنيٍ مشتركٍ- في 12 أكتوبر الجاري، إلى أن المتسللين تمكنوا من الوصول إلى الشبكات الحكومية الأمريكية من خلال الجمع بين أخطاء ويندوز والشبكات الافتراضية الخاصة. وقد استهدفت الهجمات الشبكات الحكومية الأمريكية الفيدرالية والمحلية والإقليمية (SLTT)، كما رصدت هجماتٍ ضد الشبكات غير الحكومية أيضًا. وفي بعض الحالات، أمكن الوصول إلى أنظمة دعم الانتخابات، ولكن دون أدلةٍ قاطعةٍ على اختراق بيانات الناخبين، غير أن ذلك يُعد -في مجمله- دليلًا على بعض المخاطر المحتملة على تلك البيانات، لا سيما تلك الموجودة على الشبكات الحكومية الأمريكية.
تحذيرات الشركات التكنولوجية
حذّرت شركة “مايكروسوفت” إحدى المؤسسات الاستشارية التي تعمل مع حملة المرشح الديمقراطي للرئاسة “جو بايدن” من محاولات استهدافها على يد قراصنة روس مدعومين من بعض أجهزة الدولة؛ فقد استهدف القراصنة مجموعة موظفين في شركة الاستراتيجيات والاتصالات التي تعمل مع حملة “بايدن” وعددًا من الشخصيات الديمقراطية البارزة. وقد تمكنت “مايكروسوفت” من تحديد هوية مجموعة القراصنة المشتبه في تنفيذها الهجوم، باعتبارها نفس المجموعة التي استهدفت “هيلاري كلينتون” (المرشحة السابقة للرئاسة) سلفًا، وسربت رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بها.
ويُعتقد على نطاقٍ واسعٍ أن تلك المجموعة (التي يطلق عليها كثيرٌ من الباحثين اسم “الدب المزخرف”) تخضع لسيطرة وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية. وقد أكدت شركة الاستشارات التي تعرضت لمحاولة الاختراق أن المتسللين فشلوا في الوصول إلى شبكات وخوادم تتمتع بحمايةٍ قويةٍ، وبخاصةٍ بعد التحذيرات التي أطلقتها الاستخبارات الأمريكية بشأن محاولات بعض الدول الأجنبية التدخل في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وقد قامت “مايكروسوفت” بتحليل نوعية الهجمات السيبرانية، وأكدت أنها تنتمي لنوعية حملات “التصيد” والاحتيال التي يتم استخدامها على نطاقٍ واسعٍ، وترتكز على محاولة خداع المستخدم للكشف عن كلمات المرور السرية، ثم استخدام تلك الرموز فيما بعد للتسلل واقتحام الشبكات. وقد توصلت الشركة للمجموعة المسئولة عن الهجمات عن طريق تحليل الأسلوب والأدوات المستخدمة والبنية التحتية التي انطلقت منها الهجمات.
ووفقًا لشركة “مايكروسوفت”، يستهدف القراصنة الروس أكثر من 200 منظمة في الولايات المتحدة (بما في ذلك: الأحزاب السياسية، ومراكز الفكر، والمستشارون الذين يخدمون الديمقراطيين والجمهوريين على حدٍّ سواء). وتبعًا لنائب رئيس شركة مايكروسوفت “توم بيرت”، يستخدم القراصنة الروس تكتيكاتٍ وأدواتٍ وطرقًا جديدة لإخفاء دورهم في الهجمات. كما رصدت الشركة تدخلاتٍ من قبل قراصنةٍ (برعايةٍ صينيةٍ وإيرانيةٍ) ممن استهدفوا الأفراد المرتبطين بحملتي “ترامب” و”بايدن”.
وقد حذّرت شركة الأمن السيبراني FireEye من التجسس السيبراني من جهةٍ، وتدخل الاستخبارات العسكرية الروسية التي تُشكل أكبر تهديدٍ للعملية الديمقراطية الأمريكية من ناحيةٍ ثانيةٍ. ووفقًا لبرنامج (Specops Software)، شهدت الولايات المتحدة هجماتٍ سيبرانيّةً من جهاتٍ فاعلةٍ معاديةٍ أكثر من أي دولةٍ أخرى، حيث تم تصنيف 156 هجومًا بالهجمات الكبرى، وذلك بين مايو 2006 ويونيو 2020. وهاجمت مجموعة القرصنة الروسية “سترونتيوم” أكثر من 200 منظمة، في حين هاجمت منظمة “زركونيوم” الصينية أشخاصًا مرتبطين بحملة “بايدن”. كما هاجمت مجموعة القرصنة الإيرانية المعروفة باسم “الفوسفور” أشخاصًا مرتبطين بحملة “ترامب”.
أبرز الدلالات
يمكن إجمال أبرز دلالات التحذيرات والتهديدات الفعلية السالفة على النحو التالي:
1- لا تقتصر التحذيرات من التدخل في الانتخابات الرئاسية على المرشحين الرئاسيين أو الشركات التكنولوجية العملاقة، وإنما امتد الأمر إلى كبرى المنظمات المعنية بمراقبة الانتخابات، وفي مقدمتها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا التي راقبت انتخاباتٍ عدة على مدى عقودٍ في بلدانٍ من أفغانستان وصولًا إلى الولايات المتحدة، بجانب مركز “كارتر” الذي أسسه الرئيس السابق “جيمي كارتر”، وراقب الانتخابات في 39 دولة منذ عام 1989. فقد وجه الأخير أنظاره لأول مرة نحو الولايات المتحدة.
2- تتزايد المخاوف من اختراق الانتخابات الرئاسية بالنظر إلى السياق الحاكم الذي يؤكد أن تلك الانتخابات هي الأصعب على الإطلاق مقارنةً بالعقود الماضية، حيث من المتوقع أن تؤثر تدابير مكافحة فيروس كورونا على مستوى الثقة ونزاهة العملية الانتخابية، على نحوٍ يثير الشكوك في نتيجتها النهائية. كما تعاني الولايات المتحدة من استقطابٍ حاد بين المواطنين والإدارة الأمريكية من ناحيةٍ، واليمين واليسار من ناحيةٍ ثانيةٍ. كما تعددت المؤشرات الدالة على وجود تهديداتٍ حقيقيةٍ، ناهيك عن المعلومات المتضاربة حول التصويت عن طريق البريد. وفي هذا السياق، أظهرت دراسة لمركز “بيو” أن المواطنين لا يشعرون بثقةٍ كبيرةٍ في أن الأنظمة الانتخابية في الولايات المتحدة آمنةٌ من الاختراق أو غير ذلك من التهديدات التكنولوجية. وهو ما يُمكن إرجاعه بشكلٍ أو بآخرٍ إلى الخطابات الرسمية وغير الرسمية التي دأبت على التحذير من الاختراق حتى تصدر الأخير اهتمام الرأي العام الأمريكي، وولد مخاوف حقيقيةً.
3- بمقارنة الهجمات السيبرانية التي شهدتها الولايات المتحدة في العام الجاري مقارنةً بمثيلتها في عام 2016، يمكن الدفع بتزايد أعداد تلك الهجمات على نحوٍ يطال قواعد بيانات الناخبين، ويخترق قوائم البريد الإلكتروني للحملات الانتخابية. وهو الأمر الذي أكدته شركة “رين كابيتال” للأمن السيبراني، لا سيما على صعيد منصات التواصل الاجتماعي التي ساهمت بشكلٍ أو بآخرٍ في تأجيج الشعور بتنامي حجم الهجمات وحجم حملات التضليل منذ عام 2016، وبخاصةٍ مع الخلل الذي أصاب تطبيق “جو بايدن” الرسمي.
4- تغير مشهد الانتخابات الأمريكية كثيرًا مقارنة بعام 2016، حيث بطء الحكومة الأمريكية وشركات التواصل الاجتماعي في مواجهة التدخل الخارجي؛ فتعالت أصوات الشركات التكنولوجية وتحذيراتها المتكررة، ونشر مجتمع الاستخبارات الأمريكي تقييماته بشكل منتظمٍ، وتزايد تسييس القضية؛ إذ يركز الديمقراطيون على التدخل الروسي لمساعدة الرئيس “ترامب”، بينما يحاول أنصاره تحويل الانتباه إلى التأثير الصيني الذي يعمل ضد إعادة انتخابه. وقد اعترف مسئولو الأمن القومي بحدوث كلا الأمرين، بجانب تأثيرٍ إيرانيٍ محدود.
5- بدا التدخل الروسي أكثر تنظيمًا وسرية حتى الآن، وليس بالضرورة على النطاق نفسه أو بنفس تأثير اختراق وتسريب رسائل البريد الإلكتروني للديمقراطيين في عام 2016. ووفقًا لمكتب الاستخبارات ووزارة الأمن الداخلي الأمريكية، فإن روسيا تحاول أيضًا تشويه سمعة التصويت عن طريق البريد. وعليه، زعم مستشار الأمن القومي الأمريكي “روبرت أوبراين”، في شهر أغسطس الماضي، أن الصين -مثل روسيا وإيران- انخرطت في هجماتٍ سيبرانيّةٍ وتصيدٍ فيما يتعلق بالبنية التحتية للانتخابات. وجنبًا إلى جنب مع المخاوف من اختراق الانتخابات الرئاسية، تتزايد المخاوف من الهجمات الناجحة على البنية التحتية للانتخابات التي قد تحدث قبل موعد الانتخابات نفسها.
ختامًا، يرتبط الهلع الأمريكي من التلاعب بالانتخابات جذريًّا بالسياق الحاكم الذي تتضافر فيه جملةٌ من العوامل التي يأتي في مقدمتها: الاستقطاب الحاد الذي يشهده الداخل الأمريكي منذ مقتل “جورج فلويد” في شهر مايو الماضي، وفيروس كورونا، وتردي أوضاع الاقتصاد الأمريكي، ناهيك عن استحضار دور الأطراف الخارجية في انتخابات عام 2016. وقد دفعت تلك العوامل مجتمعةً بالمحللين للقول إن انتخابات العام الجاري هي الأهم والأبرز منذ عقودٍ عدةٍ. وأيًّا كانت نتيجتها، قد يدفع أنصار الجانب الخاسر بأن القوى الأجنبية تلاعبت بالنتائج وصولًا للدفع ببطلانها. وبهذا المعنى، قد لا يهم كثيرًا الوقوف على هوية تلك القوى بقدر ما يهم تداعيات تدخلها على سيكولوجيا المواطنين، ومدى تشككهم في جدوى ونزاهة العملية الانتخابية.