بداية يجب أن أؤكد على مبدأ رئيسي مفاده أن من حق كل دولة أن تتحرك من أجل تحقيق أهدافها وسياساتها طبقًا لمصالحها خاصةً في ظل طبيعة وتعقيدات التطورات الإقليمية والدولية الراهنة، ومن ثم فإن أية انتقادات موجهة لاتفاقات التطبيع الإسرائيلي العربي التي تمت مؤخرًا لن يكون لها مكان في عالم لا يعرف إلا لغة المصالح. ولذا فإن التفكير الواقعي والمنطقي يتطلب ضرورة التركيز على مرحلة ما بعد هذا التطبيع المتواصل، واستكشاف مدى تأثيراته.
ولا شك أن هذه المتغيرات الأخيرة في مجال التطبيع تفرض على الدول التي قد تتأثر بأي شكل من الأشكال بهذه الاتفاقات ألا يكون لديها قوالب سياسية جامدة غير قابلة للتعديل، بل عليها أن تتحرك في إطار أكثر مرونة، وأن تمتلك هامش حركة أوسع، حيث إن مفاهيم الصداقة أو العداء أو التحالف أصبحت تتغير بشكل أسرع من المتوقع.
ومن هذا المنطلق فقد حرصت إسرائيل في أعقاب طرح إدارة الرئيس “ترامب” خطة السلام الأمريكية في يناير 2020 على ألا يمر هذا العام –رغم أزمة الكورونا- إلا وقد توصلت إلى اتفاقات سلام مع بعض الدول العربية والإسلامية، وهو ما تحقق لها بالفعل مع كلٍّ من الإمارات والبحرين والسودان، كما أن هناك دولًا أخرى مرشحة لأن تلحق بقطار التطبيع خلال الفترة القريبة القادمة من بينها (قطر، المغرب، سلطنة عمان…).
هناك مجموعة من العوامل المرتبطة بالموقف الإسرائيلي في مجال التطبيع لا بد من الإشارة إليها، أهمها العوامل الثلاثة التالية:
العامل الأول: أن العلاقات الإسرائيلية العربية التي شهدناها مؤخرًا لم تأتِ من فراغ، بل تم التمهيد لها تدريجيًا منذ فترة، ثم تم الإعلان عنها بعد أن نضجت كافة جوانبها وترتيباتها.
العامل الثاني: أن إسرائيل حرصت على أن تقيم علاقات مع دول عربية في مناطق جغرافية مختلفة من أجل أن تستكمل تواجدها في مواقع ذات أهمية استراتيجية (منطقة الخليج – حوض النيل – البحر الأحمر – شرق المتوسط).
العامل الثالث: أن إسرائيل ركزت على أن يبدأ التطبيع مع بعض هذه الدول بتوقيع اتفاقات لإقامة علاقات اقتصادية وتجارية، بالإضافة إلى دراسة وتأسيس بعض المشروعات الكبرى التي ستخدم هذا التوجه مستقبلًا، باعتبار أن مردود هذه العلاقات سيكون سريعًا ومباشرًا، ويزيد من دعم المصالح والروابط المشتركة بين هذه الدول.
ومن المؤكّد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” الذي كتب لنفسه تاريخًا سياسيًّا عندما بدأ هذا العام الولاية الخامسة له ليكون أول رئيس وزراء إسرائيلي يتولى هذا المنصب لهذه الفترة الطويلة التي تفوق بها على “بن جوريون”، كان -في الوقت نفسه- أكثر حرصًا على أن يكون أول رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل يحقق معادلة السلام مع ثلاث دول عربية في فترة وجيزة، ولا تزال هناك فرصة قائمة لمزيد من إقامة هذه العلاقات خلال توليه رئاسة الوزراء حتى وإن لم تكتمل الفترة القانونية لهذه الولاية، وتوجّهت إسرائيل إلى انتخابات رابعة خلال عام 2021.
والأمر اللافت للنظر هنا أنه رغم هذا الإنجاز الذي حققه “نتنياهو”، إلا أن هذا الأمر لم ينعكس بشكل ملحوظ على وضعيته الشخصية أو على وضعية حزبه كما كان متوقعًا، حيث إن هناك انتقادات شديدة للسياسة التي ينتهجها لمعالجة أزمة كورونا، مما استتبع خروج العديد من المظاهرات التي تطالبه بالاستقالة، وكذا عدم إسقاط اتهاماته بالفساد التي لا تزال حتى الآن تمثل سيفًا مسلطًا على رقبته، وقد ينتهي به الأمر إلى المحاكمة والسجن، بالإضافة إلى أن هناك أحزابًا أكثر يمينية بدأت تتصاعد قوتها (حزب يمينا برئاسة “نفتالي بينيت”)، وأصبحت تهدد مكانة “نتنياهو”، بل ومكانة وسيطرة حزب الليكود.
وحتى يكون الأمر أكثر وضوحًا ونحن نتحدث عن أساس التطورات الأخيرة في مجال التطبيع الإسرائيلي العربي، من الضروري أن نعود إلى المرجعية الرئيسية لهذا التوجه وهي خطة السلام الأمريكية المعروفة باسم “صفقة القرن” التي بلورت بشكل شديد الوضوح -بشقيها السياسي والاقتصادي- الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط التي تستند في جوهرها إلى أن هذا التطبيع يمثّل الأولوية والهدف الأمثل من أجل استقرار ورخاء وأمن المنطقة، مع التسويق لفكرة أن التطبيع هو الذي سيؤدي أيضًا إلى حل القضية الفلسطينية وليس العكس.
ومع التسليم بأن أحد أهم أهداف خطة السلام الأمريكية يتمثل في إدماج إسرائيل كأحد أطراف المعادلة الإقليمية في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، بل والعمل على أن تكون لها وضعيتها المميزة داخل هذه المعادلة؛ فإن التكتيك الذي ركزت عليه الخطة لتحقيق هذه الاستراتيجية ارتكز على ضرورة البدء بتنفيذ خطوة التطبيع أولًا دون النظر إلى تسوية القضية الفلسطينية، وهو ما تم بالفعل –ولا يزال يتم- على أرض الواقع.
وحتى يكون الأمر أكثر توثيقًا وتأكيدًا لارتباط سياسة التطبيع الجارية بخطة السلام الأمريكية، نشير إلى أنه تم النص في الخطة، وتحديدًا في الجزء الأول منها المعنون بإطار العمل السياسي والمكون من 22 قسمًا، على المحددات الرئيسية التالية:
- أن الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين أدى إلى منع الدول العربية من تطبيع علاقاتها والسعي المشترك لمنطقة آمنة ومستقرة ومزدهرة.
- أن إسرائيل وجيرانها العرب يتقاسمون حاليًّا تصورات متشابهة بشكل متزايد حول التهديدات التي تهدد أمنهم.
- أن التعاون الاقتصادي والأمني بين إسرائيل وجيرانها العرب يمكن أن يخلق شرق أوسط مزدهرًا مرتبطًا برغبة مشتركة في الأمن والفرص الاقتصادية، وأنه في حالة تنفيذ هذه الرؤية فسوف تؤدي إلى رحلات جوية مباشرة بين إسرائيل وجيرانها ونقل الأشخاص والتجارة.
- أن الدول العربية أصبحت رهينة للنزاع العربي الإسرائيلي، وأن الدول العربية مستعدة لحل الصراع، وترغب في إقامة شراكة مع إسرائيل، والتركيز على القضايا الخطيرة التي تواجه المنطقة.
- أن غياب العلاقات الرسمية بين إسرائيل ومعظم الدول العربية والإسلامية أدى إلى تفاقم الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وفي حالة قيام عدد أكبر من هذه الدول في تطبيع العلاقات مع إسرائيل فسوف يساعد ذلك في دفع حل عادل ومنصف للصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ويمنع المتطرفين من استخدام هذا الصراع لزعزعة الاستقرار في المنطقة.
- أن الولايات المتحدة تأمل في أن تبدأ الدول العربية في المنطقة التي لم تحقق السلام حتى الآن مع إسرائيل في تطبيع العلاقات معها على الفور، والتفاوض في نهاية المطاف على اتفاقات السلام مع إسرائيل.
- أن التعاون في مجال الإرهاب بين إسرائيل ودول عربية في المنطقة ساهم في تعزيز أمن هذه الدول.
- تعزيز الاهتمام المشترك في المنطقة من خلال توثيق الروابط بين إسرائيل ومجلس التعاون الخليجي.
- ضرورة تشكيل منظمة من أجل الأمن والتعاون في الشرق الأوسط تحت اسم “منظمة الأمن والتعاون في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا OSCME” على غرار نموذج منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
إذن، نحن أمام خريطة تطبيع ممنهجة وواضحة وعلنية يتم تنفيذها استنادًا إلى خطة ورؤية متكاملة بلورتها وتقودها الإدارة الأمريكية الحالية التي حرصت على أن تكون طرفًا رئيسيًّا في اتفاقات التطبيع الإسرائيلية مع كل من الإمارت والبحرين والسودان، وتظل واشنطن قادرة على أن تستخدم كافة أدواتها وعلاقاتها الخاصة طبقًا لطبيعة الأوضاع في كل دولة من هذه الدول بل وغيرها من الدول التي سوف تندرج مستقبلًا في نادي التطبيع.
والسؤال الذي يجب طرحه هنا: ماذا سيكون عليه موقف إسرائيل من عمليات التطبيع ارتباطًا بنتائج الانتخابات الأمريكية؟. وفي هذا المجال يمكن تصور السيناريوهات الأربعة التالية:
السيناريو الأول: أن “نتنياهو” لا يزال حريصًا على الإسراع بعمليات التطبيع، ويسابق الزمن من أجل توقيع اتفاقات أخرى قبل ظهور نتائج الانتخابات الأمريكية، لا سيما وأن الإدارة الحالية هي التي طرحت “صفقة القرن” وتقود عملية التطبيع بنجاح في إطار تفاهم وتوافق تام بين الدولتين في هذا الشأن.
السيناريو الثاني: أنه في حالة إعادة انتخاب الرئيس “دونالد ترامب” فسوف تتواصل سياسته بالنسبة لتنفيذ واستكمال خطة السلام الأمريكية، بما في ذلك إعطاء أولوية لمزيد من التطبيع الإسرائيلي العربي الإسلامي.
السيناريو الثالث: أنه في حالة فوز المرشح الديمقراطي “جو بايدن” فلا شك أن “صفقة القرن” يمكن أن تسقط من أجندة الحزب الديمقراطي الذي لديه رؤيته بالنسبة لعملية السلام، ويعارض الإجراءات أحادية الجانب، ويميل إلى إعادة صياغة مبدأ حل الدولتين بشكل مختلف عن رؤية الرئيس “ترامب”، وبما يحقق نسبيًّا المصالح الفلسطينية ودون الـتأثير بالطبع على متطلبات الأمن الإسرائيلي، وفي حالة إسقاط “صفقة القرن” فسوف يمثل ذلك متغيرًا جديدًا للغاية يحمل العديد من التأثيرات على المنطقة، وهي مسألة أخرى لا بد من دراستها إذا وصلنا إلى هذا الوضع.
السيناريو الرابع: أن الإدارة الأمريكية الديمقراطية إذا نجحت في تولي الحكم فسوف تتخذ نفس الموقف بالنسبة لرعاية وقيادة عمليات التطبيع الذي يحقق مصالحها حتى وإن تباطأ هذا التوجه قليلًا، ولا ننسى هنا أن الإدارة الأمريكية برئاسة الرئيس “جيمي كارتر” هي التي ساهمت بقوة في إنجاز معاهدة السلام الإسرائيلية – المصرية منذ أكثر من أربعة عقود.
وتجدر الإشارة -في هذا المجال- إلى أن العلاقات الاستراتيجية بين إسرائيل والولايات المتحدة لن تتأثر في حالة فوز الديمقراطيين كما تحاول بعض الاتجاهات الترويج لذلك، وهناك تطور هام حدث مؤخرًا حيث تم تبادل الزيارات بين وزيري دفاع الدولتين (كان آخرها زيارة وزير الدفاع الأمريكي إلى تل أبيب يوم 29 أكتوبر الجاري)، مما ساهم في توقيع اتفاق في واشنطن لضمان التفوق العسكري الإسرائيلي في المنطقة بعد عمليات التطبيع، والاتجاه لإمداد الإمارات بأحدث أنواع الطائرات، وسيكون هذا الاتفاق ملزمًا لأية إدارة قادمة، كما أن هناك اتجاهًا قويًّا لقيام الولايات المتحدة بإمداد إسرائيل بنوعيات متقدمة من الأسلحة من بينها (طائرات F 35 – طائرات هليكوبتر متقدمة قادرة على القيام بمهام خاصة من طراز V 22، وقنابل ذكية).
الخلاصة أن إسرائيل قد نجحت في إرساء دعائم التطبيع مع العديد من الدول العربية والإسلامية، وبدأت تجني ثمارها تدريجيًّا استنادًا إلى دعم أمريكي غير مسبوق، وهو ما سوف يخدمها في أن تسير في التوجه نفسه خلال المرحلة القادمة، سواء تم إعادة انتخاب الرئيس “ترامب”، أو جاءت إدارة أمريكية جديدة، خاصة وأنه قد أُتيحت أمام إسرائيل فرص جديدة لمزيد من دعم وضعيتها في المنطقة في كافة المجالات، ومن الصعب أن تفرط فيها أو تتنازل عن مكتسباتها.
كما أن إسرائيل وهي تتحرك في مسار التطبيع تركز بالتوازي مع هذا المسار على الحصول من الولايات المتحدة على مزيدٍ من دعم قدراتها العسكرية النوعية، وهو ما يمثل رسالة إسرائيلية واضحة بأن عمليات التطبيع لن تثنيها عن مواصلة السعي نحو الحفاظ على تفوقها العسكري من ناحية، واستمرار موقفها المتشدد تجاه حل القضية الفلسطينية بالشكل الذي تراه مناسبًا لها من ناحية أخرى.
وبالتالي، فإن الواقع الراهن يفرض على كافة الأطراف الرئيسية في المنطقة متابعة هذه التطورات السريعة والمتغيرات غير المسبوقة من أجل إعادة النظر في قراءة وتحديد خريطة مصالحها، وصياغة تحركاتها بالشكل الذي يتلاءم مع هذه المتغيرات، الأمر الذي يذكرنا بالمبدأ السياسي المعروف الذي علينا أن نتذكره دائمًا: “لا يوجد صديق دائم أو عدو دائم، ولكن توجد مصالح دائمة”.