عادت وتيرة الهجمات الحوثية المسلحة باستخدام الدرونز والصواريخ على الجبهتين الداخلية والخارجية لتسجل معدلات عالية من الصعود. ففي شهر أكتوبر 2020، سجل نحو 21 هجومًا، بعد مرحلة من التراجع النسبي منذ يوليو 2020، حيث سجل 25 هجومًا تقريبًا وفق إحصاء بيانات التحالف، وسجل يوم 28 أكتوبر أعلى تلك المعدلات حيث شهد إطلاق 9 هجمات جاءت في اليوم التالي لاعتماد الضابط في الحرس الثوري الإيراني “حسن إيرلو” تحت اسم سفير فوق العادة ومطلق الصلاحيات لدى الميليشيا الحوثية في صنعاء.
ويعكس هذا التطور توجهًا جديدًا لإيران في المشهد اليمني، على الرغم من أن بصمات عمليات الحرس الثوري كانت واضحة، سواء في الهجمات العدائية على الجبهات المختلفة، أو تطوير أدوات الهجوم من طائرات مسيرة وصواريخ؛ إلا أن المتغير الجديد في توجهات طهران إزاء الملف اليمني يتمثل في اضطلاع الحرس الثوري بإدارة هذا الملف بشكل مباشر بعد أن كان دوره يقتصر على عامل الإسناد اللوجستي، في مقابل تراجع دور الخارجية الإيرانية الذي كان يتصدر المشهد عبر توجيه الميليشيا في جولات التفاوض المتعثرة خلال السنوات الأربع الماضية من الكويت إلى جنيف واستكهولم.
في هذا السياق، يمكن التطرق إلى متغير طبيعة الانخراط الإيراني وفقًا لهذه المعطيات ودلالاتها وتداعياتها المستقبلية على ملف الأزمة اليمنية بين خيارات التصعيد العسكري والتسوية السياسية.
تطوّر دور الحرس الثوري الإيراني في اليمن
في مرحلة إسقاط صنعاء (21 سبتمبر 2015) لم تكن مظاهر العمليات المسلحة الحوثية على الجبهة الداخلية منذ خروجها من صعدة ووصولها إلى العاصمة تعكس دورًا بارزًا للحرس الثوري الإيراني، بقدر ما كانت أقرب إلى نمط الحروب الستة بين عامي 2004 و2010، كما كانت الهجمات على الجبهة الخارجية وتحديدًا جنوب السعودية باستخدام صواريخ محدودة المدى والقدرات مثل “الكاتيوشا” التي كانت تستخدمها الفصائل الفلسطينية والعراقية في ذلك التوقيت تقريبًا، لكن منذ عام 2016 بدأ ظهور استخدام الميليشيا للدرونز والصواريخ الأكثر دقة والمعدلة بتقنيات إيرانية تحمل خبرات الحرس الثوري، وإن لم تكن قد انتقلت إلى اليمن بعد بشكل واضح، حيث كشفت تقارير أمنية أوروبية وأمريكية آنذاك أن فرقًا نخبوبة من الميليشيا كانت تتدرب عليها في معسكرات بالعراق ولبنان، وبعض التقارير قالت إن فرقًا أخرى أرسلت إلى همدان لتلقي التدريبات نفسها.
النقلة التالية تمثلت في حيازة الميليشيا الحوثية لهذه القدرات التي أزيح عنها الستار في فبراير 2017 مع إقامة الميليشيا أول معرض للدرونز كان عبارة عن تجميع لثلاثة نماذج مطورة منها. وأكد التحالف على ذلك بإعلانه لاحقًا عن استهداف ورش ومخازن لتصنيع تلك الطائرات، بينما رجحت تقارير الاستخبارات الأمريكية أن دور الحرس الثوري اقتصر آنذاك على تركيب أنظمة الدفع والتوجيه الجديدة التي يعود مَنشؤها لدول أوروبية، وأيضًا عمليات التدريب الدقيقة على الأهداف بشكل تدقيق ومكثف. وكانت أغلب تلك التقارير تشير إلى وجود بضعة خبراء متخصصين للقيام بهذه المهام النوعية، ففي 2017 كشف معهد الدراسات الإيرانية في واشنطن أن هناك ثلاثة من خبراء الذخائر هم: العقيد رضا باسيني، والعقيد علي رجبي، واللواء محمد نيازي. ويوحي مستوى الرتب العسكرية للخبراء الثلاثة بأن هناك شبكة أوسع من العناصر الفنية، وأنهم مجرد مشرفين على عملية نقل الخبرات المطلوبة.
وفي مطلع عام 2020، وبالتزامن مع استهداف الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري “قاسم سليماني” في العراق، أعلنت واشنطن عن فشل عملية موازية في اليمن لاستهداف قائد بارز في الحرس الثوري هو “عبدالرضا شهلاي” مسئول العمليات في الوحدة 400 المسئولة عن الهجمات على أهداف غربية وأجنبية، والذي كان يعمل على بناء شبكة أوسع من الحرس الثوري في اليمن متخصصة في تلك النوعية من الهجمات والأهداف. أكد على ذلك أن محاولة واشنطن تعقبه في اليمن جاءت بعد الهجمات على المواقع النفطية السعودية، والتي تبنتها الميليشيا الحوثية آنذاك على الرغم من التشكيك في قدراتها على القيام بعمليات نوعية من هذا المستوى.
دلالات تطوّر دور الحرس الثوري في اليمن
تعكس هذه التطورات المرحلية السابق ذكرها، عدة مؤشرات ومنها:
١- أن وجود الحرس الثوري الإيراني يتزايد مع تنامي الدور والمراحل، من التواجد العام في إطار تقديم الدعم للميليشيا الحوثية من خلال الإسناد اللوجستي، إلى وجود فرق متخصصة نوعية تعمل كما لو كانت أقرب إلى الشبكات العنقودية، بعضها متخصص في الصورايخ والبعض الآخر في الدرونز، وفرق متخصصة في عمليات الاستهداف النوعي لأهداف استراتيجية ثابتة كما هو الحال في عمليات أرامكو، أو أهداف متحركة كما في أحداث استهداف سفن إماراتية وسعودية وأمريكية في البحر الأحمر خلال عامي 2016 و2017 بصواريخ نوعية معدلة (C-801 أو C-802)، كما ظهرت أنواع متقدمة من المتفجرات مثل (المتفجرات الصخرية المموهة)، إضافة إلى التعديلات التي أدخلت على الدرونز لزيادة المسافة والحمولة المتفجرة، والتي تحتاج إلى فرقة متخصصة في عمليات تطوير القدرات. إلى جانب فرق الرصد والاستطلاع والاستخبارات، وفرق تأمين وصول الأسلحة المهربة، وفرق التدريب. وفقًا لهذا التصور، من المرجح وجود 5 فرق نوعية متخصصة على الأقل تابعة للحرس الثوري.
٢- مجال التحرك والانتشار لهذه الفرق يدار من خلال غرفة عمليات مركزية: وفقًا لما أشار إليه التقرير الأمريكي من أن فرق العمل الخاصة باصطياد “شهلاي” حاولت إخراجه من صنعاء، إلى جانب غرف عمليات فرعية في مناطق مختلفة أبرزها غرفة عمليات في الحديدة وامتداد الساحل الغربي باتجاه الجنوب لتأمين وصول فرق العمليات والأسلحة. فعلى سبيل المثال، يُشير تقرير للتحالف العربي العام الماضي إلى دور السفينة “سافيز” الإيرانية التي تتواجد في المياه الدولية في البحر الأحمر منذ عام 2016 في تقديم دعم عسكري ولوجستي للحوثيين تحت إشراف الحرس الثوري، رغم أنها مسجلة كسفينة تجارية.
مسارات مستقبلية
وفق هذه المعطيات يبقى من المرجح أن تسير التطورات وفق عدد من المسارات التي تتسم بنقلة استراتيجية تتمثل في تعيين “حسن إيرلو” كسفير مطلق الصلاحيات وفوق العادة في صنعاء، وهو ما اعتبره البعض إقرارًا رسميًّا بإيفاد حاكم عسكري إيراني إلى صنعاء، كدلالة على اضطلاع الحرس الثوري من الآن فصاعدًا بكافة الملفات الخاصة بالأزمة اليمنية وليس الملف العسكري فقط. وهو ما يلفت الانتباه إلى عدة نقاط أخرى تتعلق بتداعيات هذه النقلة، وهو ما يمكن التطرق إليه فيما يلي:
- تغليب الخيار العسكري: مقابل تراجع أو انهيار المسار السياسي، فعلى الرغم من تعثر المسارات السياسية التي استغرقت 6 سنوات لإعادة إدماج الميليشيا الحوثية في المسار السياسي، لكن ظل هناك احتمال ولو محدود للخيار السياسي، لكن مع تنامي دور الحرس الثوري على الساحة اليمنية، أصبح هذا الخيار شبه معدوم، ففي السابق كانت أغلب التقديرات تشير إلى أنه يمكن الفصل بين الميليشيا الحوثية وإيران، كما أن هناك هامش تحرك سياسيًا وعسكريًا في يد الميليشيا، لكن في المرحلة الحالية التي يوقدها “أيرلو” أصبح قرار الميليشيا السياسي والعسكري في يد الحرس الثوري بشكل واضح.
- تنامي مستوى التصعيد العسكري: وذلك في أكثر من اتجاه منه على مستوى كثافة الهجمات على الجبهتين الداخلية والخارجية، مع تغير نمط الأهداف، على الرغم من العودة إلى التصعيد خلال الشهر الأخير. لكن اللافت في هذا السياق أن التصعيد الأخير لم يعكس مستوى نوعيًا من العمليات كما لم تشهد أدوات الهجوم تطورًا يذكر. وبالتالي اقتصر الأمر على الرسالة الخاصة باتجاه التصعيد. لكن يرجح على نطاق واسع أن تلك الأسلحة ستشهد عمليات تطوير في المرحلة المقبلة، خاصة بعد إعلان الحرس الثوري خلال مناورات “سماء الولاية 99” في أواخر أكتوبر 2020 عن تطوير الصناعات الدفاعية محليًّا، وغالبًا ما يصاحب مثل هذه الإعلانات تطوير القدرات لدى الوكلاء الإيرانيين في الإقليم بشكل عام.
- ترتيب الوضع السياسي للميليشيا: فعملية تعيين “سفير فوق العادة مطلق الصلاحيات” تؤكد على تعدد المهام وإن كان الوضع العسكري والأمني هو الغالب بحكم الارتباط بالحرس الثوري. لكن مع تنامي حديث المراقبين عن صراعات الأجنحة داخل الميليشيا بين فريقين أحدهما يغلب الدور الإيراني في موقع صناعة القرار على حساب القيادة المحلية، يرى آخرون أن هناك حاجة للفصل رغم اعتزازهم بالدور الإيراني.
- تصاعد المظاهر المذهبية: في سياق التقارب لا التطابق مع المذهب الإمامي الاثني عشري، وهو مسار جدلي في التاريخ اليمني، وبشكل محدد يصعب الإشارة إلى أن هناك عملية تحول مذهبي شاملة ستشهدها مناطق النفوذ الحوثي، لكنّ هناك صعودًا لفرق أقرب إلى المذهب السائد في “قم” مثل الطائفة “الجارودية”، وينظر لإيرلو بحكم تشدده وكونه من الدائرة المقربة من المرشد الأعلى “علي خامنئي” –وفقًا للقيادي المنشق عن الميليشيا “علي البخيتي”- وهناك مؤشرات تؤكد هذا الاتجاه لعل أبرزها تنامي الاحتفالات بالمناسبات الإسلامية على النمط الإيراني، لعل أبرزها مناسبة “يوم الولاية”، وكذلك أول تحرك للسفير الإيراني كان في الاحتفال بالمولد النبوي في صنعاء، في أكبر احتفالية شهدتها البلاد منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء. وعلى الأرجح ستتنامى مظاهر التقارب في المدى المتوسط مع زيادة دورات التأهيل الطائفي، وتعديل المناهج الدراسية التي تتمحور حول التركيز على “السلالة” ومركزيتها في السلطة والحكم تاريخيًّا. وفي واقع الأمر فالمسالة الطائفية هي مسألة مركزية وليست هامشية في الأزمة اليمنية.
دلالات التوقيت
في هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى عدد من المؤشرات التي تشكل دوافع لدى طهران في تغيير توجهاتها، من إدارة المعركة بالوكالة إلى الإدارة المباشرة للحرس الثوري في إدارة الملف اليمني من الآن فصاعدًا، وهو ما يمكن التطرق إليه بالنظر لعامل التوقيت وفق عدد من النقاط منها على سبيل المثال:
١- رسائل إيرانية لدول الخليج: تتعلق بمسار التطبيع مع إسرائيل، فالرسالة الإيرانية المباشرة لطهران في صعود الحرس الإيراني من الظل إلى دائرة الضوء واكبت توجه بعض دول الخليج إلى إبرام اتفاقيات سلام مع إسرائيل، ومن ثم هناك رسالة مباشرة من طهران برفع مستوى التهديد في الخليج عبر أداة الحرس الثوري، والتي سبق استخدامها على نحو مماثل في العراق ولبنان. وتنطوي هذه الرسالة على مخاوف إيران من إقدام دول خليجية أخرى على الخطوة نفسها في المستقبل، الأمر الذي يمكن الاستدال عليه من تصريحات مسئولين إيرانين عدة، أبرزهم وكيل وزارة الخارجية الإيرانية للشئون العربية والإفريقية “حسين عبدالليهان” في تصريحات عديدة على مدار الشهرين الأخيرين، بدت هجومية وعدائية بشكل غير مسبوق لدول الخليج. كما أعلنت طهران (24 سبتمبر 2020) افتتاح قاعدة “الشهيد مجيد رهبر” في محافظة سيريك، في أقرب نقطة مع الضفة الأخرى من الخليج العربي، كما أنها نقطة استراتيجية في مضيق هرمز، وقال قائد الحرس الثوري اللواء “حسين سلامي” إن الهدف منها هو الإسهام في تعزيز ورفع مستوى العمليات البحرية الإيرانية في مجالات الدفاع والهجوم والرصد بمنطقة الخليج. واللافت في هذا السياق، أن إيران بدأت العمل في تلك القاعدة قبل ست سنوات، ويعتقد أنها كانت تعمل بالفعل قبل إعلان افتتاحها الرسمي.
٢- محاولة استعادة موازين القوى العسكرية لصالح الميليشيا الحوثية مرة أخرى بعد تراجعها في الشهور الأخيرة. ففي ظل تقدم القوات المشتركة في مأرب والجوف، لاستعادة المواقع التي استولت عليها الميليشيا عام 2020، والخسائر العديدة في قيادتها على تلك الجبهات، فقد أشار تقرير صادر عن الحكومة الشرعية (27 أكتوبر 2020) لأن الميليشيا الحوثية خسرت 600 عنصر من مقاتليها بينهم 154 قياديًّا في الجبهات المختلفة، وبالتالي سيكون هناك اتجاه لتعويض هذه الخسائر. إلى جانب عملية زيادة المخزون العسكري في ظل سحب كميات كبيرة من هذا المخزون. ودليل ذلك إعلان البحرية الأمريكية مصادرة شحنة أسلحة في بحر العرب كانت في طريقها إلى الميليشيا الحوثية. ووفقًا لمساعد المدعي العام للأمن القومي الأمريكي “جون ديمرز”، فإن سفينتين حربيتين أمريكيتين صادرتا 171 صاروخًا موجهًا مضادًا للدبابات، و8 صواريخ أرض-جو، ومكونات صاروخية أخرى مختلفة خلال عمليتين منفصلتين في بحر العرب. وتعكس عملية تحليل هذه المكونات اتجاهًا آخر وهو التركيز على العمليات الداخلية أكثر من العمليات الخارجية.
في المحصلة الأخيرة؛ يمكن القول إن هناك دوافع وأسبابًا متعددة قد تراكمت لدى إيران لإحداث تحول استراتيجي لدورها في اليمن. وفي كل الأحوال لا يمكن التقليل من شأن تلك الخطوة فيما يتعلق بكافة أبعاد الملف اليمني، فالاستنتاج الرئيسي هو أن هناك اتجاهًا لإنضاج المشروع الإيراني في اليمن بدأ بخطوة تصعيد الحرس الثوري لإحكام القبضة على هذا الملف وإدارته بشكل مباشر، بما يُحقق تلك الأهداف وفق الحسابات الإيرانية الشاملة التي تعتبر اليمن حجر زاوية في إطار مشروع إقليمي.