اعتمدت الدولة المصرية استراتيجية ثابتة لتدعيم قوتها الشاملة بعد ثورة 30 يونيو 2013، مستهدفة استعادة الدور الإقليمي، وزيادة فعالية المؤسسات الدبلوماسية والأمنية، وهو ما استدعى إحياء شراكاتها مع العديد من العواصم العربية والإسلامية والأوروبية. وقد شغلت باريس مساحة واسعة في تلك الفترة وما تلاها، لتصبح العلاقات المصرية الفرنسية محور تعاون فاعل في قضايا الإقليم والعالم. وفي ضوء ذلك، أصبحت العلاقات العسكرية المصرية الفرنسية تُشكل أحد أهم أعمدة التعاون بين البلدين في السنوات الأخيرة، وذلك على خلفية تشارك مصر وفرنسا في مجموعة متنوعة من الملفات ذات الأولوية لكلا الدولتين، حيث تقع قضايا الأمن والدفاع في قلب دائرة اهتمامهما، فهناك ملفات ترتبط بالأمن الدولي والإقليمي كمكافحة الإرهاب والتطرف، والأوضاع في ليبيا وسوريا، بالإضافة إلى أمن الممرات المائية الحيوية، وترتيبات أمن الطاقة بإقليم شرق المتوسط. فضلًا عن محورية الصفقات التسليحية بين الطرفين، والأنشطة العسكرية التدريبية والعملياتية التي يديرها الجيشان على حد سواء.
أولًا- التنسيق العسكري المستمر:
تشير أدبيات التاريخ العسكري إلى عمق جذور العلاقات العسكرية المصرية الفرنسية، والممتدة منذ بدايات تأسيس جيش مصر الحديث في عهد “محمد علي”، وتصاعدت بقوة بعد أن فُتحت بعثات عسكرية بسفارات البلدين عام 1971، ثم تشكيل لجنة عسكرية مشتركة CAMAS تجتمع سنويًا عام 1988، وصولًا لتوقيع اتفاق التعاون العسكري والفني عام 2005. وهذا التنسيق مستمر وعلى مستويات رفيعة، فهناك زيارات متبادلة بصورة دائمة بين قيادات القوات المسلحة على الجانبين، وتعزيزًا لمحورية هذا التنسيق تم إنشاء لجنة عسكرية عليا برئاسة رئيسي أركان القوات المسلحة في البلدين عام 2017.
ثانيًا- الرؤى المشتركة لقضايا الأمن الدولي والإقليمي:
لدى الدولتان ثوابت أمنية ورؤى للتحديات الأمنية التي تواجههما، وهو ما عزز من تقاربهما في المواقف من أغلب قضايا الأمن الدولي والإقليمي، وفي مقدمة تلك الملفات مكافحة الإرهاب والتطرف، وحل الصراعات الإقليمية، وحفظ أمن الشرق الأوسط من أية تهديدات.
- مكافحة الإرهاب: يُعد ملف مكافحة الإرهاب والتطرف أكثر محاور التعاون بين القاهرة وباريس أهمية، وتؤدي أجهزة الأمن والاستخبارات أدوارًا تفاعلية هامة على صعيد تبادل المعلومات وتطوير آليات وخطط التعامل مع هذا التهديد، وقد لقيت المُقاربة المصرية لمكافحة هذا الخطر دعمًا فرنسيًا كبيرًا، لا سيما الجهود المصرية لتجفيف مصادر تمويل الإرهاب، والتصدي للفكر التكفيري والأفكار المغلوطة حول الفقه والشريعة الإسلامية. وتسري تلك التفاهمات على مكافحة الخطر الإرهابي في مناطق العالم كالقارة الإفريقية، ومنطقة الساحل والصحراء، والمشرق العربي.
- حل الصراعات الإقليمية: تلعب القاهرة وباريس دورًا بنّاءً في حفظ السلام ووقف القتال بأغلب دوائر الصراعات المشتعلة في الشرق الأوسط، ففي ليبيا تتمسك الدولتان بالحل السياسي للأزمة، وترفضان عودة العمليات العسكرية كمسار لحلها، كما تتصديان وبحزم لعمليات تهريب الأسلحة ونقل العناصر الإرهابية والمرتزقة، وأية محاولات للتدخل المزعزع لاستقرار الدولة الليبية أو يهدد بتقسيمها أو سقوط مؤسساتها. وفي سوريا واليمن، تتبنى الدولتان ذات النهج الساعي لحماية مؤسسات الدولة الشرعية، والمنادي بوقف أعمال العنف وجمع الأطراف السياسية على مائدة التفاوض، مع عدم إتاحة المجال لتسلل التنظيمات الإرهابية للمشهد مجددًا.
- التصدي لمحاولات إشعال الشرق الأوسط: تنطلق الرؤية المصرية والفرنسية من أساس حق دول الإقليم في تنمية وحماية مواردها الاقتصادية دون التعدي على حقوق جيرانها، وفقًا للشرعية الدولية ومقرراتها، ولذلك تتمسك كل منهما بوقف الأنشطة التركية الاستفزازية في شرق البحر المتوسط، وتعملان على توطيد أوجه الاستقرار فيه عبر آليات التعاون كمنظمة غاز شرق المتوسط.
ثالثًا- مبيعات الأسلحة:
يُنظر للتعاون العسكري المصري الفرنسي على أنه أرضية مستقرة نجحت الدولتان في البناء عليها لتحقيق العديد من المصالح المشتركة، فقد حقق للدولة المصرية هدفها المتعلق بتحديث منظوماتها القتالية ونقل الخبرات الفرنسية لتطوير صناعاتها الدفاعية، كما عزز موثوقية العديد من الجيوش بالأسلحة الفرنسية، مما انعكس في توالي العقود على كثير من المنظومات والأسلحة التي انضمت إلى القوات المسلحة المصرية.
وهذا التعاون له جذوره أيضًا، فمنذ سبعينيات القرن الماضي تنامت مبيعات فرنسا العسكرية إلى مصر، ففي عام 1974 قامت مصر بشراء (68) مقاتلة طراز (ميراج 5)، إلى جانب (54) مروحية طراز (جازيل). وفي عام 1975، تعاقد الجيش المصري على شراء حوالي (4000) صاروخ مضاد للدروع طراز (ميلان)، وفي عام 1976 تعاقدت مصر على شراء منظومات الدفاع الجوي الفرنسية طراز (كروتل). وقامت القاهرة بشراء (45) طائرة تدريب طراز (ألفا جيت) بالعام 1981، بالإضافة إلى (20) مقاتلة متعددة المهام من طراز (ميراج 2000) في عام 1983، إلى جانب صفقات تسليحية أخرى تضمنت العديد من أنظمة الاتصال والإشارة.
وأبرمت مصر بعد يونيو 2013 العديد من العقود العسكرية الهامة، كان أبرزها شراء أربعة طرّادات (جويند-2500)، تم تصنيع أحدها في فرنسا، والثلاثة الأخرى تم تصنيعها في الترسانة البحرية المصرية بالإسكندرية، بالإضافة للفرقاطة متعددة المهام طراز (فريم) خلال عام 2014، وكانت مصر أول دولة بالعالم تضم طائرات رافال الفرنسية لأسطولها الجوي، بواقع أربع وعشرين طائرة، واشتملت الصفقة على صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى (فبراير 2015). كما تعاقدت مصر على شراء سفينتي القيادة والانتشار البرمائية طراز مسترال (أكتوبر 2015)، والتي حققت لمصر قدرة ردع كبيرة مكنتها من تأمين مصالحها الحيوية والاقتصادية في البحر المتوسط والأحمر على السواء. وفي عام 2015، تفاوض الجانبان على تزويد مصر بقمر للاتصالات العسكرية، وجرى إطلاقه في نوفمبر 2019 وحمل اسم “طيبة 1 Tiba”.
رابعًا- أنشطة التدريب:
تمثل أنشطة التدريب والمناورات المشتركة بين الجيشين المصري والفرنسي محورًا تعاونيًا هامًا للبلدين، وتتنوع بين مناورات دورية وتدريبات عابرة، بالإضافة للتبادل العملياتي عند مرور سفن تابعة للبحرية الفرنسية أو المصرية لموانيهما والمياه الإقليمية للدولتين. وتجتمع قوات البلدين في كثير من التدريبات الدائمة، فكل عامين اعتادت الدولتان على تنفيذ تدريبات بحرية ثنائية أطلق عليها “كليوباترا”، كان آخرها أمام سواحل الإسكندرية عام 2006، كما عقدت بالعام التالي مناورات جوية ثنائية تعرف باسم “نفرتاري”. كما تشترك القاهرة وباريس بمناورات وأنشطة تدريبية دولية أوسع كمناورات “النجم الساطع” وسلسلة مناورات “ميدوزا”.
وقد شاركت القوات المسلحة المصرية والفرنسية بالعديد من أنشطة التدريب العابرة كالتدريب البحري الذي جرى في (فبراير 2020) بين عدد من الفرقاطات وكاسحات الألغام المصرية والفرنسية بنطاق قاعدة (برنيس) بالبحر الأحمر، وتدريب بحري آخر على الاعتراض البحري ومكافحة الألغام وإجلاء المصابين بمسرحي البحر الأحمر والمتوسط (مارس 2020)، بالإضافة إلى التدريب على الحرب الإلكترونية والتهديدات غير النمطية، واعتراض اللنشات السريعة المعادية، وتبادل هبوط الطائرات على أسطح السفن (16 أكتوبر 2020).
خلاصة القول، إن العلاقات العسكرية المصرية الفرنسية قد عبرت عن نجاح الإدارتين في صياغة ثوابت تعزز من فرص استقرار وأمن المنطقة، والتصدي بفعالية للتهديدات الناشئة والعاصفة بكيان ومؤسسات الدول الوطنية، وعلى رأسها خطر الإرهاب والدول الراعية لتنظيماته. وعلى الأرجح فإن التقارب المصري الفرنسي سيستمر في هذه الملفات وغيرها من القضايا التي ستتطلب دورًا دوليًّا متزنًا وفاعلًا، ومن ثم فإن العلاقات العسكرية المصرية الفرنسية مُرشحة لمزيد من التفاعل والتقارب، لا سيما مع نجاحها في التعامل مع العديد من الملفات والتحديات ذات الاهتمام المشترك.