أوضح الترابط العالمي حساسية الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية وتأثر السوق المحلي بالأزمات الدولية والحروب التجارية. لذلك، اتجهت العديد من الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة إلى محاولة توطين الصناعة، وفرض قيود على الواردات للكثير من السلع. ويعد قطاع الصناعة التحويلية من القطاعات الأساسية للعديد من الدول مساهمةً في الناتج المحلي الإجمالي والنمو والتنمية. وفي مصر، زادت أهمية القطاع خصوصًا بعد جهود الدولة في المرحلة الثانية من برنامج الإصلاح الاقتصادي لتعزيز دور الصناعة التحويلية وخصوصًا القطاع الخاص، فوفقًا لبيانات البنك المركزي ارتفعت مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي بتكلفة عوامل الإنتاج بالأسعار الثابتة من 15.6% في العام المالي 2016/2017 إلى 16.2% ومعدل نمو حقيقي بلغ 2.8% في العام المالي 2018/2019. ويساهم القطاع الخاص في هذه النسبة بنسبة 70.4%، بينما يساهم القطاع العام بنسبة 29.6%، كما يتصدر القطاع الوزن النسبي للقطاعات في المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي، ويليه قطاع تجارة الجملة والتجزئة بحوالي 13.5% في العام المالي 2018/2019، وقطاع الزراعة والغابات والصيد بحوالي 11.2% في العام نفسه. إضافة إلى ذلك، فإنه وفقًا لبيانات نشرة القوى العاملة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقد ارتفع حجم العاملين بالقطاع نسبة لإجمالي العاملين من 13.2% في الربع الثالث في 2019 إلى 13.4% في الربع نفسه في 2020. علاوة على ذلك، ووفقًا لبيانات وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، بلغت نسبة الصناعات التحويلية من إجمالي الاستثمارات العامة 10.4% في العام المالي 2018/2019. كما أنه وفقًا لتقرير المركز المصري للدراسات الاقتصادية بعنوان “الصناعة التحويلية مجتمعة” في سلسلة رأي في أزمة في أبريل 2020، فإن نسبة الصادرات الصناعية من إجمالي الصادرات في 2018 بلغت 57%، بينما بلغت نسبتها من إجمالي الواردات في العام نفسه 66%.
ويُعد قطاع الصناعة التحويلية أكثر القطاعات قابلية للتجارة، وبالتالي سيساهم توطين الصناعة في زيادة الصادرات وتقليل الواردات، مما سيزيد من الفائض التجاري، أو سيساهم في الحد من العجز التجاري، وسيزيد من تدفق العملة الأجنبية ويحد من الإنفاق منها، وسيساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي وخصوصًا في السلع الاستراتيجية. إضافة إلى ذلك، ستساهم في توفير فرص عمل وبالتالي انخفاض معدلات الفقر.
أولًا- المتغيرات المؤثرة في توطين الصناعة:
تعتمد استراتيجية تعزيز الصناعات التحويلية على ما إذا كان سيتم صناعة سواء المنتج النهائي أو المراحل المختلفة في سلسلة القيمة محليًا، أو استيرادها على هامش الربحية والذي يساهم في الوصول إلى الهدف الأساسي وهو تعظيم الربحية. لذلك، ومع زيادة العولمة وفي محاولة لاستغلال ميزة التكلفة، اتجه أصحاب الأعمال إلى انتشار مراحل الصناعة حول العالم وارتباط القطاع بسلاسل التوريد العالمية -مثلما حدث في أية دولة أخرى- الأمر الذي أدى إلى زيادة حساسية القطاع بأزمات العرض العالمية والتي تنعكس بصدمة في العرض في السوق المحلي تمامًا كما حدث في الأزمة المالية العالمية أو أزمة كورونا مع توقف حركة التجارة الخارجية، وبالتالي نقص المواد المستخدمة في التصنيع، مما أدى في النهاية إلى انخفاض مساهمة القطاع في العام المالي 2019/2020 إلى حوالي 16%. ووفقًا لتقرير “تأثير كورونا على الاقتصاد المصري: القطاعات الاقتصادية والوظائف والأسر” المقدم من وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية في يونيو 2020، فإن الحجم الأولي للصدمة بلغ -20% وكان من أكثر القطاعات تضررًا بالأزمة بعد قطاعات الفنادق والخدمات الغذائية والنقل والمنسوجات.
وستزيد خطورة مثل هذه الصدمات مع زيادة أهمية السلعة مثل السلع الاستراتيجية كالمنتجات الغذائية والمنتجات التي ترتبط بصحة المواطنين مثل المستلزمات الطبية والأدوية. لذلك، وتماشيًا مع استراتيجية الدولة لتوطين الصناعة، تسارع المنتجون سواء من القطاع الخاص أو القوات المسلحة لتصنيع المنتجات الدوائية والمنتجات الطبية مثل الكمامات والكحول والملابس الطبية الواقية، ولكن تختلف قدرة توطين الأنواع المختلفة من الصناعات التحويلية وذلك نتيجة لاعتمادها على متغيرات مثل توفر رأس المال، والمواد الخام، والسلع الوسيطة اللازمة للإنتاج، والتكنولوجيا والمعرفة الفنية والعمالة ذات المهارات المطلوبة وتكلفتها، علاوة على ذلك يعتمد توطين الصناعة -مثلها مثل إنشاء أية أعمال أخرى- على عناصر أخرى مثل جودة الطرق والوقت المستغرق لإنهاء الأعمال الورقية والأمان، حيث يمكن أن تؤثر الأزمات الداخلية على العرض و/أو الطلب المحليين كما حدث أثناء ثورة 25 يناير وأثناء أزمة وباء كورونا مع تطبيق سياسات التباعد الاجتماعي وحظر التجول.
ثانيًا- جهود الدولة لتنمية الصناعات التحويلية:
في إطار جهود الدولة الأخيرة لتعزيز الصناعات التحويلية، وبالتوازي مع المبادرة الرئاسية لإنشاء مجمعات صناعية، أعلنت وزيرة التجارة والصناعة “نيفين جامع” عن وجود 1657 وحدة في سبع مناطق صناعية من أصل 13 منطقة صناعية كاملة المرافق ومهيأة للحصول عليها بالترخيص مع توفير معارض لتسهيل بيع المنتجات وتقديم تيسيرات أخرى للحصول على البطاقة الضريبية والسجل التجاري، كما أعلنت عن إلغاء جميع المصروفات المتعلقة بالتقديم، وخفض مقدم الحجز إلى عشرة آلاف جنيه مع التعاقد مع 8 بنوك لتوفير نظم للتقسيط.
إضافة إلى ذلك، وفقًا لوزارة التجارة والصناعة، وفي إطار سعي الدولة لمضاعفة الصادرات ودعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة وتحسين جودة المنتج المصري وهيكلة تكلفة الإنتاج؛ قام مجلس الصناعة للتكنولوجيا والابتكار بوضع استراتيجية للمرحلة الجديدة لتوفير: أولًا: خدمات الدعم الفني والتشغيل على الآلات والمعدات بالمراكز التكنولوجية، ورفع كفاءة الكوادر الفنية المطلوبة لنقل وتوطين التكنولوجيا. ثانيًا: إجراء الاختبارات المتخصصة لتطوير المنتجات الصناعية وزيادة القيمة المضافة. ثالثًا: توفير الحضانات التكنولوجية، أخيرًا: تسهيل الحصول على تمويل وتوفير المساندة المالية لشركات التصدير. ووفقًا للهيئة العامة للاستعلامات في تقريرها المتعلق بقطاع الصناعة، تم إصدار قانون لتيسير إجراءات منح التراخيص الصناعية (رقم 15 لسنة 2017) لتقليل المدة الزمنية اللازمة لإصدار ترخيص صناعي من 634 يومًا إلى أقل من أسبوعين.
وفي النهاية، يتطلب توطين الصناعة وقتًا ومجهودًا وتغييرًا في بيئة الأعمال. ولكن ستساهم هذه السياسات في تقليل تكلفة الإنتاج، وتخفيض العوائق التي تواجه المستثمرين، وإتاحة المزيد من الأراضي الصناعية، وتوطين التكنولوجيا، وبالتالي ستساهم في زيادة القدرة التنافسية للقطاع وجذب المستثمرين المحليين والاستثمار الأجنبي. ووفقًا لوزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية الدكتورة “هالة السعيد”، من المتوقع أن يبلغ حجم الصناعات التحويلية ومنتجات البترول في العام المالي 2020/2021 نحو 666.8 مليار جنيه بنصيب 16.6% من إجمالي الناتج المحلي وتوجيه حوالي 80.6 مليار جنيه للصناعة، هذا مع التوجه نحو الصناعات التي أظهرت أزمة كورونا ضرورة تنميتها مثل الصناعات الدوائية والغذائية.