تفاجأ كثيرون من قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بسحب قواته العسكرية من الصومال بحلول منتصف يناير 2021، رغم انسجام هذا القرار مع قرارات مماثلة اتخذت في أفغانستان والعراق، ومع الوضع في الاعتبار الفارق الكبير بين عدد القوات الأمريكية وحجم العمليات المنفذة على المسرح الأفغاني والعراقي، مقارنة بمسرح عمليات الصومال المحدود، من حيث عدد القوات الذي لا يتجاوز 800 عنصر على أقصى تقدير، ومن حيث طبيعة العمليات هناك القاصرة في أغلبها على جهود التدريب والدعم اللوجستي والعمليات المحدودة بالطائرات المسيرة.
تخوف مفرط: رد فعل الحكومة الصومالية على القرار
اللافت للنظر في ردود الأفعال على هذا القرار، خاصة من الجانب الصومالي، هو المبالغة في تقدير الآثار السلبية لسحب القوات الأمريكية من هناك، فهناك من تحدث عن أن القرار سيترتب عليه انهيار قوة الكوماندوز الصومالية التي تدربها القوات الأمريكية المعروفة باسم “داناب”، وتوقف البرنامج الأمريكي لزيادة عدد قوات “دنب” إلى ثلاثة آلاف، والمفترض استمراره حتى عام 2027، وهناك من أشار إلى أن القرار سيساعد على زيادة نشاط حركة الشباب والجماعات الإرهابية الأخرى، وتهديد الاستقرار الداخلي في الصومال. وهناك من ذهب أبعد من ذلك وتوقع أن القرار الأمريكي سيؤدي لخلق فراغ أمني في القرن الإفريقي كله، يبدأ من الصومال عقب الانسحاب، وتمتد تداعياته لدول أخرى (كينيا وأغندا) التي تتفاعل فيها تحت الرماد نذر لعدم استقرار قادم، بالإضافة لإثيوبيا التي تشهد صراعًا عسكريًا داخليًا مع جبهة التيجراي، وامتداده إلى الدول المجاورة (إريتريا والسودان).
قد يكون رد الفعل الصومالي المبالغ فيه حقيقة مفهومًا في سياقات سياسية، وقد يكون مفهومًا كذلك بالنظر لتوقيته الذي يتزامن مع وضع سياسي وأمني هش، خاصة مع استحقاق الانتخابات الرئاسية المقبلة، ووجود تحركات ورهانات إقليمية ودولية على تصعيد شخصيات معينة لخدمة مصالحها في الصومال، خاصة من جانب إثيوبيا وتركيا وقطر، لكن تحليل هذا القرار من المنظور الاستراتيجي والعسكري سيضعنا أمام مقاربات مختلفة، وتقديرات أكثر موضوعية وواقعية، قياسًا بحجم الحدث وتداعياته على الواقع الصومالي الداخلي والواقع الإقليمي في القرن الإفريقي.
خريطة الوجود العسكري الأمريكي في الصومال
يمكن إجمال أهم ملامح الوجود العسكري في الصومال وفقًا لمجموعة من المؤشرات، تشمل:
١. حجم القوة: يبلغ الحجم الفعلي للوجود العسكري الأمريكى في الصومال (700-800) فرد وهي القوة الفعلية المتواجدة على أرض الصومال، والتي بدأت عملها في عام 2017 بقرار من الرئيس “ترامب” نفسه، لكن هذا العدد المحدود تدعمه وتوفر له الإسناد المطلوب عند الضرورة قوات أمريكية أخرى خارج الصومال، من خلال القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في نطاق منطقة القرن الإفريقي، خاصة في جيبوتي والمحيط الهندي.
٢. المهام: لا تقوم القوات الأمريكية العاملة في الصومال بأية مهام قتالية سوى عمليات مكافحة الإرهاب واستخدام طائرات “الدرون” الاستطلاعية والهجومية لاستهداف معاقل مسلحي حركة الشباب. وبالإضافة إلى ذلك تقوم القوات الأمريكية في الصومال بتنفيذ برامج التدريب لقوات الجيش والأمن الوطني الصومالية الوليدة، حيث تتمركز قوة التدريب الأمريكية في معسكر “دانب” الصومالي قرب مقديشيو إلى جانب تشكيلات “الكوماندوز” الصومالية الوليدة والمستجدة التي يتم تدريبها ورفع كفاءتها القتالية بمعرفة العسكريين الأمريكيين، من خلال برنامج موضوع يستهدف في الوقت الحالي عدد 850 جنديًا كقوة نخبة، ومن المفترض استمراره حتى 2027 لزيادة هذا العدد إلى 3500 جندي.
٣. طبيعة مسرح العمليات والتعاون العسكري متعدد الأطراف: العمليات التي تنفذها القوات الأمريكية في الصومال معقدة وشائكة، وتتم غالبًا بمساعدة دول أخرى، مثل المملكة المتحدة وألمانيا وهولندا وإيطاليا، خاصة الهجمات التي تشنها الطائرات الأمريكية ضد أهداف بالصومال، وتشمل تلك المساعدات تبادل المعلومات الاستخبارية بتحديد الأهداف لضربات الطائرات الأمريكية بدون طيار، وتوفير الدعم التشغيلي، بالإضافة إلى استخدام القواعد العسكرية في أراضيها، فسلاح الجوي الأمريكي يستخدم قواعد عسكرية بألمانيا، في عملية التحكم في غاراته بطائرات دون طيار، ضد عدد من الدول الإفريقية وخاصة الصومال، وهذه العمليات تقع ضمن اختصاص القيادة الأمريكية في قاعدة رامشتاين الجوية، وهي قاعدة جوية أمريكية تقع في ولاية راينلند بالاتينات جنوب غرب ألمانيا.
كما تستخدم الولايات المتحدة قواعد لطائراتها بدون طيار في عدة بلدان بشرق إفريقيا مثل إثيوبيا وجزر سيشل، وقاعدة ثالثة في اليمن، وكذلك الطائرات الحربية الأمريكية والطائرات بدون طيار التي تنطلق من معسكر ليمونير في جيبوتي القريبة من الصومال، أو من قواعد في كينيا وإثيوبيا المجاورتين. هذا وتنطلق كذلك الطائرات الأمريكية بدون طيار التي تضرب مواقع تنظيم الشباب في الصومال من مهابط صغيرة في الصومال، مثل مطار كسمايو، ومطار بليدوغلي، ومجمع حلني بمقديشيو، وأحيانًا تعتمد على البارجات الحربية الأمريكية في سواحل الصومال، والسفن الحربية لعدد من الدول الصديقة والمتحالفة مع الولايات المتحدة في مسرح العمليات البحري لمحاربة القرصنة، وتعد تلك السفن مركزًا مهمًا للعمليات التي تنفذها القوات الأمريكية داخل الصومال سواء من حيث الدعم اللوجستي والاتصالات.
٤. الاستراتيجية العسكرية للقوات (العمليات): تعتمد القوات الأمريكية على استراتيجية معروفة وهي التدخل عند الضرورة، وقد أدت هذه الاستراتيجية دورًا حيويًا في تقويض حركة الشباب. وقد انطوت الاستراتيجية على نشر عدد صغير من عناصر قوات العمليات الخاصة الأمريكية بهدف شن ضربات مستهدفة وتوفير معلومات استخباراتية، وبناء قدرات القوات من الشركاء المحليين لتمكينها من تنفيذ عمليات برية. وقد اعتمدت تلك الاستراتيجية على وجود عسكري أمريكي محدود لتقليص إمكانية تكبد الخسائر البشرية في صفوف القوات الأمريكية والخسائر المادية، وبموجب تلك الاستراتيجية، تم التعاون مع الجيش الوطني الصومالي وبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (AMISOM)، والقوات العشائرية ً التي أدت دورًا مهمًا في هذا السياق.
دلالات وتباينات
بالعودة للأدبيات العسكرية فيما يخص مسألة سحب القوات، والفرق بينها وبين عملية “إعادة الانتشار”، يتضح أن إعادة تموضع القوات يكون لغرض تحقيق هدف معين، بناء على تحديات ميدانية أو أمنية أو معطيات استراتيجية أو تكتيكية، وقد تكون عملية إعادة الانتشار من إقليم إلى إقليم آخر، وفي أحيان أخرى تتم في الإقليم نفسه. أحيانًا تقوم بعض الجيوش بعملية إعادة الانتشار، استنادًا لمُعطى طارئ ذي طبيعة أمنية، مثل تنفيذ اعتداء أو ورود معلومات عن إمكانية حدوث ذلك، وقد يكون لدوافع تنظيمية بحتة، كما قد يكون استكمالًا لقرار سياسي معين كإخلاء منطقة محتلة أو الانسحاب من أخرى كانت القوات تُنفذ فيها مهمة محددة.
أحيانًا أخرى، قد تكون إعادة الانتشار جزءًا من استراتيجية عسكرية جديدة ترمي إلى تحقيق أهداف مختلفة تمامًا عن سابقتها، مما يتطلب إعادة نشر القوات وفق قاعدة الأهداف الجديدة والمناطق الاستراتيجية ومناطق النفوذ المستهدفة، كعمليات إعادة الانتشار التي تنفذها جيوش القوى الكبرى للتجاوب مع التغيرات الاستراتيجية والأمنية الدولية. وفق هذا الإطار، نستطيع فهم وتحليل القرار الأمريكي بسحب قواتها العاملة في الصومال على أنه فقط إعادة انتشار تكتيكي وليس انسحابًا كاملًا للقوات، فالاستراتيجية العسكرية الأمريكية في القرن الإفريقي لم يطرأ عليها تغيير يذكر، فالأهداف الأمريكية في هذه المنطقة معروفة ولم تتغير عن سابقتها، ولا توجد قاعدة أهداف جديدة، سواء على مستوى المناطق الاستراتيجية أو مناطق النفوذ المستهدفة.
وبالنظر إلى ما سبق فهذا القرار يأتي منسجمًا مع الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي، وكذلك الاستراتيجية العسكرية لعام 2018 التي دعت لإعادة التركيز على مواجهة القوى العظمى مثل روسيا والصين، وتقليص مهام القوات المحاربة للجماعات الإرهابية خارج الحدود الوطنية، وكانت بداية تطبيق هذه الاستراتيجية في أفغانستان (تم بالفعل تقليص القوات إلى 5000 جندي)، ثم في العراق (جرى الانسحاب من 6 قواعد عسكرية منذ بداية 2020 وتسليمها للجانب العراقي وتقليص القوات إلى 2500 جندي)، ثم طرحت في بدايات العام الحالي منطقة أخرى هي منطقة غرب إفريقيا، وهناك توقعات بصدور القرار بشأن الانسحاب من غرب إفريقيا في النصف الأول من العام القادم.
لذلك من غير المتوقع أن يكون قرار سحب القوة الأمريكية من الصومال تغيرًا جوهريًا في الاستراتيجية الأمريكية العسكرية أو حتى في استراتيجيتها في منطقة القرن الإفريقي، التي تشمل الصومال ودولًا أخرى، قد تكون تغيرات تكتيكية مرحلية، وقد تتغير مع الإدارة الجديدة، خاصة أن “جو بايدن” أعلن صراحة اعتراضه على القرار، مما يفتح المجال لإمكانية تعديله أو التراجع عنه مستقبلًا، فالصومال دولة مهمة استراتيجيًا للولايات المتحدة، بسبب موقعها الاستراتيجي ودورها في التفاعلات الإقليمية في القرن الإفريقي، علاوة على متغير جديد هو اكتشافات الغاز فيها وفي منطقة القرن الإفريقي، التي يعتبرها البعض المستقبل بالنسبة لسوق الغاز العالمي إلى جانب منطقة شرق المتوسط، لذلك فالولايات المتحدة لا يمكنها أن تترك هذه المنطقة لمنافسيها خاصة الصين وروسيا، فوجودها حتمي وضروي لضمان السيطرة على خطوط نقل الطاقة في هذه المنطقة الحيوية.
ويؤكد البيان الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في محور تعليقه على قرار “ترامب”، صحة هذا التحليل، حيث ذكر البيان أنّ الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته قرّر “إعادة تموضع غالبية الأفراد والأصول العسكريّة خارج الصومال بحلول أوائل عام 2021”. وأضاف: “قد تتم إعادة نشر جزء من القوّات خارج شرق إفريقيا”، مشيرًا إلى أنّ “بقية القوّات ستُنقل من الصومال إلى الدول المجاورة، بهدف السماح (بإجراء) عمليات عبر الحدود من قبل الولايات المتحدة والقوّات الشريكة، لإبقاء الضغط على المنظّمات المتطرّفة العنيفة”. وشدّد البنتاغون على أن “الولايات المتحدة لا تنسحب أو تتخلّى عن إفريقيا”. وستُواصل إضعاف المنظمات المتطرّفة العنيفة التي يُحتمل أن تهدد الأراضي الأمريكية”. كما أقرّ رئيس الأركان الأمريكي الجنرال “مارك ميلي” بأن حركة الشباب ما زالت تُشكّل “تهديدًا” يجب “مراقبته”. وأشار إلى أن الولايات المتحدة تبحث عن أفضل توازن لتقليل المخاطر من الناحيتَين البشريّة والماليّة، وتنفيذ “عمليّات فعّالة لمكافحة الإرهاب” في الوقت نفسه.
استنادًا إلى ما سبق، لا يوجد سبب عسكري أو استراتيجي يفسر هذه الخطوة، ويفسر كذلك حالة الفزع والتخوف المبالغ فيه من جانب الحكومة الصومالية وبعض الدول المجاورة للصومال، حيث صورت الأمر على أنه ابتعاد كامل من جانب الولايات المتحدة عن الصومال وعن قضاياه السياسية والأمنية والعسكرية، وتحدثت هذه الدول عن فراغ استراتيجي قادم في الصومال والقرن الإفريقي، وهذا غير دقيق، فقرار سحب القوات الأمريكية من الصومال لن تتبعه قرارات أخرى بسحب القوات الأمريكية المتمركزة في كينيا وجيبوتي، فالولايات المتحدة تستطيع الاستعاضة بمراكزها في جيبوتي وكينيا عن انسحابها المباشر من الصومال في شن هجمات بالطيران المسير ضد معاقل الشباب في الصومال وغيرها من الحركات الإرهابية في المنطقة، وبناء على ذلك لا أضرار كبيرة ستحدث إذا غادرت القوات الأمريكية الأراضي الصومالية طالما بقيت الطائرات المسيرة الأمريكية تقوم بواجبها ولو كان من خارج الأراضي الصومالية لاستهداف معاقل الإرهابيين.