الكثير من الأطراف داخل إثيوبيا؛ سواء المعارضون لآبى أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، أو المنتمون إلى عرقيات بدأت تشعر بالتململ، جراء تعدّد مشاهد الحرب الضروس التي تشنّها القوات الفيدرالية ضد إقليم «تيجراى»، يجمعون على أن التصعيد الإثيوبى الذي تشهده منطقة «الفشقة» السودانية، ما هو إلى نوع مركب، من سياسة الهروب إلى الأمام التي لم يجد آبى أحمد مفراً من اللجوء إليها، كي يعزّز وضعه الداخلي المصاب بتصدّع كبير لا تبدو فى الأفق ملامح انفراجه قريبة له. فجاء البحث عن نزاع خارجي صرفاً للأنظار عن الداخل، وبغية ترميم الفجوات الواسعة التي بدأ يواجهها، على صعيد الحرب على «تيجراى» وتوابعها المتمثّلة فى انفراط عقد القوميات الأخرى، التي بدأت تطل برأسها من أجل حصد مكاسب مأمولة على هامش ما يرونه على الأرض.
هذا لا يمثل ضرباً مباشراً فى صلب عقيدة «آبى أحمد» المتمثلة فى استعادة دور دولة المركز القوية فحسب، بل هي أدخلته فى تعقيدات لم يحسب لها حساباً آنياً على الأقل. فمن ضمن تفسيرات مسبّبات التصعيد والانزلاق السريع نحو الحرب الشاملة مع الجارة السودان، تأتى عرقية «الأمهرة»، التي تشير كثير من الوقائع إلى أنهم السبب الحقيقي لإشعال الفتيل، رغبة منهم فى حصد فاتورة مشاركتهم لآبى أحمد فى حربه ضد «التيجراى»، فالمقابل غير المعلن لذلك كان إطلاق أيديهم فى أراضي «الفشقة» السودانية الخصبة التي يمثل الوجود الأمهرى فيها الملمح البارز منذ تعاقبت السنون على هذه المشكلة القديمة المتجدّدة. لذلك ظلت الهجمات التي نفّذتها مجموعات إثيوبية مسلحة ضد مواقع ودوريات عسكرية سودانية، محل ادعاء أديس أبابا بأنها عصابات خارج سيطرتها، فى الوقت الذي تمثل فيه بشكل مباشر وحدات عسكرية تابعة للجيش المحلى لـ«الأمهرة»، وهناك من يذهب إلى أن آبى أحمد لا يغضّ الطرف عن ذلك فحسب، بل إنه لا يملك القدرة على إيقاف مثل تلك الممارسات التي أدخلته مع السودان فى دوامة لم يُحسب حساب تطورها الدراماتيكى على هذا النحو.
الضاغط أيضاً على آبى أحمد أن مسلك التصعيد الإثيوبي، بات يمارس بحق المدنيين السودانيين، ويكاد يسقط ضحايا يومياً، وغيرها من أمور الانفلات المتوقع لتلك المجموعات المسلحة التي تشبه «الجيوش الصغيرة»، وإن كانت فى حقيقة تكوينها لا تبتعد كثيراً عن نمط وسلوك العصابات المسلحة. ففي أحدث مشاهد التصعيد على سبيل المثال؛ جاء الهجوم الذى نفّذته مجموعة إثيوبية مسلحة ليستهدف محلية «القريشة» بشرق السودان، وراح ضحيته خمس سيدات وطفل، وفُقدت سيدتان، جميعهم مواطنون سودانيون كانوا يمارسون عملهم الروتيني المتعلق بعمليات الحصاد. لذلك بدت المواقف أكثر تباعداً من أى وقت مضى، فالسودان يرى بالفعل أن هذه الأحداث تجرى على أرضه المعترف بها دولياً ومن أديس أبابا أيضاً، حتى وإن ادعت أن هناك أوضاعاً ترتبت تاريخياً عبر السماح للمزارعين الإثيوبيين بالوجود على مساحات من الأراضي عالية الخصوبة لتلك المنطقة، فى حين لا تستطيع الادعاء بغير أنها أراضٍ سودانية.
فى مواجهة تلك الإشكالية؛ تذهب إثيوبيا إلى ممارسة أساليبها التى اعتادت عليها فى نزاعاتها الكثيرة مع جميع دول جوارها، عبر تمييع المسميات وتوصيف الأزمة، باعتبارها نزاعات حدودية مع السودان. وفى حقيقة الأمر ليس هناك ثمة نزاع على حدود فى ما يجرى اليوم، فهو يجرى على أراضٍ سودانية وبالرصاص الإثيوبي، مما دفع السودان إلى خيار المواجهة الحتمي والمنطقي. فألذى لا مفر منه بالنسبة للقيادة السودانية أنها ستكرس جهدها للحصول على حقوقها، فضلاً عن حماية أرواح مواطنيها للحد من نزيف الضحايا التي لن يكون مقبولاً للرأى العام السوداني، تحمل مزيداً من هذه الحوادث والهجمات التي يتابعونها يومياً بقدر عالٍ من الترقب والاحتقان. وقد أكد وزير الإعلام السوداني «فيصل محمد صالح» اعتبار بلاده حماية الحدود ووضع علامات واضحة بين البلدين مهمة وطنية، مشدداً على أن السودان لا يزال متمسكاً بخيار الحلول السلمية، فى حال جرى طرحها بالجدية اللازمة، وإشارة إلى عدم وجود نية مسبقة لشن حرب ضد الجانب الإثيوبي.
لكن الجدية التى تبحث عنها الخرطوم لدى الجانب الإثيوبى، فى العودة إلى اتفاق 2008 الذي اعترفت فيه إثيوبيا بالحدود القانونية للسودان، ربما يبدو صعب المنال اليوم فى ظل المستجدات التى تجرى على الأرض، فالذى ترأس الوفد الإثيوبى حينها فى المحادثات التى أدت إلى تسوية «آبى تسيهاى» القيادى البارز فى «جبهة تحرير شعب تيجراى»، وقت كانت عرقيته هى المهيمنة على السلطة بأديس أبابا. لكن بعد الإطاحة بحكم الجبهة من السلطة فى إثيوبيا عام 2018، أدان زعماء عرقية «الأمهرة» الاتفاق ووصفوه بأنه كان بمثابة صفقة سرية ما بين الطرفين فى مقابل عرقيتهم، على اعتبار أن الإثيوبيين الذين يسكنون «الفشقة» طوال تلك السنوات وحتى الآن هم من عرقية «الأمهرة».
جانب آخر مما يلقى بظلاله على المشهد يتمثل فى «آبى أحمد» وتوازناته الداخلية التى ربطها بعرقية «الأمهرة»، باعتبارها الكتلة الانتخابية التى يعتمد عليها بشكل كبير، خاصة بعد أن فقد الدعم الكامل من قوميته «الأورومو» خلال السنوات الماضية، ويرى أن الكتلة الوحيدة القادرة على تصحيح هذا الخلل هى «الأمهرة»، التى تمثل ثانى أكبر مجموعة عرقية فى إثيوبيا وتمثل له من قبل صراعه مع «التجراى»، ذراعه القوية التى يبطش بها عبر ما تتمتع به من مكونات عسكرية وميليشياتية، وبالفعل لم تخذله منذ فتح لها الطريق أمام ارتكاب جرائم الحرب ضد «التيجراى» داخل إقليمهم وخارجه. لهذا تبدو معادلة التراجع الإثيوبى اليوم أمام الخرطوم، وفيما يخص «الفشقة» بالخصوص أمراً بالغ التعقيد وبعيد المنال إلى حين يحدث اختراق لم تتشكل ملامحه بعد، أو أن تنقلب معادلات الصراع مع «التيجراى» وهذا وارد بقوة، ويبقى أن تتمكن القوات السودانية من فرض أجندتها الوطنية على الأرض، مستمسكة بحقوقها التاريخية الثابتة فى أرضها، وفى مهمة حماية أرواح مواطنيها السودانيين.