خلافًا للعديد من التقارير الإعلامية وللندوات الأكاديمية التي ظلت طوال الأعوام الماضية تركز على أنه طالما فضلت تونس اللجوء إلى “الخيار المدني” فإن المسار الديمقراطي يمكن أن يقود البلاد إلى أن تتحول إلى “مونت كارلو العرب” بعد أن ساد الاعتقاد بأن ارتفاع مستوى التعليم سيجنّب تونس العديد من المخاطر باعتبار أن التعليم هو الضامن لسلامة “المسار الديمقراطي” الذي فجرته “ثورة الياسمين” التي كانت مقدمة لما يطلقون عليه الـ”الربيع العربي”، إلا أن واقع الحال يبدو أنه ليس له أدنى علاقة لا بالياسمين ولا حتى بالربيع .
فنسبة لا يستهان بها من التونسيين أصبحت تتساءل عن جدوى الثورة التي قاموا بها، وعما إذا كانت قد نجحت في تحقيق طموحات الشعب التونسي في مستقبل أفضل. فبعد عشرة أعوام من تفجرها تشهد البلاد أوضاعًا سياسية اقتصادية واجتماعية وصلت إلى مستويات بالغة الخطورة ليس من الثابت أن عددًا من الدوائر الغربية، المتابعة للأوضاع في منطقتنا، قادرة على استيعابها أو حتى الاعتراف بوجودها، بعد أن ظلت تركز بطريقة مبالغ فيها على محاولة إثبات أن المسار الديمقراطي في تونس يشهد تطورات إيجابية مقارنة بمصر، بما يؤهل تونس لتكون نموذجًا يتضمن دروسًا مستفادة للعديد من الدول العربية في الحرية والديمقراطية وفي احترام حقوق الإنسان، ولم يكن ذلك في أي مرحلة من المراحل دقيقًا أو سليمًا، فالبلاد حاليًا على شفا الإفلاس مع ارتفاع غير مسبوق في معدلات البطالة ولمستويات للفقر في ظل أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية طاحنة، ولم يكن رئيس الوزراء “هشام المشيشي” مخطئًا عندما ذكر في نوفمبر الماضي أن تونس تعيش أسوأ أزمة في تاريخها، وأن البلاد لم تعرف أبدًا أزمة اقتصادية واجتماعية بالعمق الذي تعيشه حاليًا.
وخرجت صحيفة “الشروق” التونسية في افتتاحيتها مؤخرًا لتذكر: لم يكن نظام بن علي جنة وكانت فيه الكثير من التجاوزات، في الحريات السياسية وفي قانون الأحزاب والجمعيات. كما أخفق في الإصلاح التربوي والاقتصادي والاجتماعي؛ لكن المأساة الكبرى حدثت بعد سقوط النظام، إذ تم التفريط في أحلام البسطاء الغاضبين واستولت حركة النهضة وحلفاؤها على الحكم، وأنه بعد عشر سنوات لم يتحقق أي شيء للتونسيين، وهو ما يفسر حالة البرود العام التي استَقبل بها التونسيون الذكرى العاشرة لما سمي بـ”الثورة”، فلم يتحقق شيء واحد يُذكر للتونسيين في أي مجال من المجالات، لذلك يمكن اعتبار يوم ١٤ يناير لقطاع واسع من التونسيين يوم حداد عام، فلا شيء يمكن التباهي به أكثر من الديون وانهيار الدينار والإرهاب وتفكك الدولة، فبعد عشر سنوات تدخل تونس نفقًا لا أحد يعرف متى ينتهي.
ويبدو واضحًا أن عددًا من الدوائر الإعلامية والأكاديمية الغربية لم تستطع أيضًا تقدير خطورة ما يمثله انضمام ما يقرب من ٥٥٠٠ تونسي من السلفيين الجهاديين إلى صفوف الجماعات الإرهابية المتطرفة، بما فيها داعش والقاعدة وأنصار الشريعة في سوريا والعراق وليبيا ومالي واليمن، بما جعل تونس، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، على رأس قائمة الدول العربية التي انضمت كوادرها إلى صفوف تلك الجماعات المتطرفة، وهو الأمر الذي تزامن مع تزايد وتيرة العمليات الإرهابية من بينها اغتيال “شكري بلعيد” عام ٢٠١٣، والهجوم الإرهابي على شواطئ سوسة، وتفجير متحف باردو عام ٢٠١٥، والعملية الإرهابية في بنجردان عام ٢٠١٦، والتفجيرات التي شهدتها تونس العاصمة في يونيو ٢٠١٩، ثم العملية الإرهابية التي شهدتها مدينة سوسة في سبتمبر ٢٠٢٠، وإلى انتشار ثقل الجماعات السلفية الجهادية في القيروان وجندوبة وسيدي بو زيد التي استفادت من سقوط نظام “بن علي”، إذ لم ينجح المسار الديمقراطي وارتفاع مستوى التعليم -كما يبدو- في القضاء على الأصولية والإرهاب والتطرف، إذ شهدت البلاد تزايدًا مطردًا في ثقل الإسلاميين على حساب الطبقة المثقفة المستنيرة، ولا يجب استثناء من تلك التطورات نجاح حزب النهضة في السيطرة ليس فقط على البرلمان بل على مقاليد العديد من أمور البلاد نتيجة للصلاحيات الواسعة التي يمنحها الدستور لرئيس البرلمان مقابل السلطات المحدودة المقررة لرئيس الدولة.
فالمشهد المعقد الحالي في تونس يشمل صورًا لشباب يطمح في أوضاع اقتصادية واجتماعية أفضل، حيث لجأ مجددًا إلى الخروج إلى الشارع في العديد من المدن التونسية للاعتراض على فشل الطبقة التي تولت الحكم منذ تفجر الثورة في الارتقاء بمجمل الأوضاع في البلاد، أو في معالجة تفشي الفقر والبطالة، فضلًا عن الكفاح الذي تقوده الطبقة المثقفة المستنيرة من أجل التخلص من حزب النهضة ومن كافة أشكال السيطرة الدينية، إذ تدعو “عبير موسى” -رئيسة الحزب الدستوري الحر- الشعب التونسي للانتفاض ضد ما وصفته بشيخ الإخوان “راشد الغنوشي” وحكمه وديكتاتورية جماعته، مؤكدة أنه لا بد من التحرر من سرطان الإخوان نهائيًا. يضاف إلى ذلك الصدام الدستوري بين “قيس سعيد” رئيس الدولة، وبين “راشد الغنوشي” رئيس البرلمان ومعه “هشام المشيشي” رئيس الحكومة في ظل الصفقة التي تم عقدها فيما بينهما للتصديق على التعديل الوزاري الأخير الذي يفتح المجال أمام صراعات سياسية حادة، والتي وإن كان الرئيس السابق “الباجي قائد السبسي” قد تعامل معها بهدوء؛ إلا أن الأمور تطورت بعد وفاته إلى درجة لا يمكن معها تأجيل الصدام، خاصة بعد أن وجه الرئيس التونسي انتقادات لرئيس الحكومة، معتبرًا أن التعديل الوزاري الذي أجراه مؤخرًا لم يحترم الإجراءات التي نصّ عليها الدستور، وأن بعض الوزراء المقترحين تتعلق بهم شبهات تضارب مصالح تصل إلى حد الفساد، مؤكدًا أنه سيرفض التعديل الوزاري في تصعيد غير مسبوق للخلاف مع رئيس الوزراء. ويُعد قيام البرلمان بالتصديق على هذا التعديل، ورفض الرئيس “قيس سعيد” قيام الوزراء الجدد بحلف اليمين أمامه، مقدمة لأزمة طاحنة بين رئيس الجمهورية وبين رئيس الحكومة ورئيس البرلمان، والتي تتزامن مع تصاعد الاتهامات الموجهة لحزب النهضة بمحاولة السيطرة على مفاصل الحكم في البلاد، عبر التحالف مع رئيس الحكومة من أجل إبعاد المقربين من الرئيس “قيس سعيد” وتهميش دوره.
وبعيدًا عن التقارير الدولية عن التنمية البشرية وعن التنافسية وعن مقاومة الفساد وعن مؤشرات الديمقراطية التي تصدرها الأمم المتحدة وعدد من منظمات المجتمع المدني الغربية، وخلافًا للعديد من التقارير الإعلامية، وتلك الصادرة عن ورش العمل الأكاديمية عن تطور المسار الديمقراطي، وعن النجاح الفريد الذي تحققه تونس والتي اتسمت دائمًا بالسطحية وبالبعد عن الموضوعية؛ فإن الأمل لا يزال معقودًا على قدرة تونس على تجنب مصير الغالبية العظمى من الدول التي شهدت ما يصفونه بالربيع العربي، وهو الأمر الذي يتوقف على النجاح الذي يمكن أن تحققه تونس في تكرار التجربة المصرية لاستعاده الهوية والذاتية الوطنية الحقيقية للبلاد، وقد تستدعي معالجة الأوضاع الراهنة أيضًا إعادة النظر في الدستور التونسي الحالي وللسلطات الواسعة المكفولة لرئيس البرلمان مقابل السلطات المحدودة لرئيس الدولة والتي تحد عمليًا من قدرته على التدخل من أجل ضبط الأمور، وتجنب خروجها عن السيطرة في ظل تزايد ثقل الإسلاميين وتوجهاتهم المخالفة لطموحات الطبقة المثقفة المستنيرة في مستقبل أفضل للبلاد.