تحتل سوريا موقعًا متقدمًا في ذهنية صانع القرار التركي وذلك لما يتضمنه الملف من اعتبارات جيوسياسية وأمنية بالنسبة للدولة التركية، وكذا لإدراك تركيا أن من يتحكم بالملف السوري سيكون قادرًا ليس فقط على توجيه شئون الإقليم وفقًا لمصالحه، وإنما سيكون لهذا الفاعل بصمته على الساحة الدولية أيضًا. ومن هذا المنطلق، فتركيا ليس لديها أي استعداد للتخلي عن الملف السوري أو حتى تقليل ما حققته من اختراقات ميدانية وسياسية. ولكن مع ما يشهده الداخل السوري من تطورات ميدانية، فضلًا عما تشهده الساحة الدولية من متغيرات لها تأثير هي الأخرى على الملف؛ يصبح من المهم دراسة توجهات السلوك التركي إزاء الأزمة السورية خلال الفترة المقبلة.
التطورات الميدانية الجديدة في سوريا
مع دخول الأزمة السورية عامها العاشر، يموج الداخل السوري بالعديد من التطورات، سواء الميدانية أو السياسية، والتي تُلزم معها كل فاعل، سواء كان دوليًا أو محليًا، بترتيب أوراقه للتعامل مع تشابكات تلك التطورات. فخلال الفترة من نهاية 2020 وبداية العام الجديد 2021، تصاعدت الأحداث تقريبًا في جميع أنحاء سوريا، حيث اتخذ بعضها شكلًا من التوافق، بينما غاب عن البعض الآخر أي شكل من الاتفاق أو التفاهم.
في أواخر عام 2020، تبين وجود توافق روسي إيراني بمنطقة البوكمال (ذات النفوذ الإيراني) عند الحدود العراقية، فقد تحدثت العديد من التقارير عن وصول عدد من الضباط الروس ومجموعات حماية تتبع للشرطة العسكرية الروسية إلى تلك المنطقة، وتم إنشاء مقر عسكري في أحد فنادق البوكمال تمهيدًا لتحويله إلى مركز قيادة، كما أُقيمت حواجز عسكرية في القرى القريبة، وخاصة حقول النفط الموجودة في المنطقة. في مقابل ذلك، انسحبت ميليشيات موالية لإيران من تلك المناطق كـ”كتائب حزب الله العراقي” و”النجباء” و”الأبدال” و”فاطميين”.
وعلى الرغم مما يبدو بين حين وآخر من استعداد النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية الوصول إلى أرضية مشتركة من التفاهم؛ لكن يبدو أن الطرفين حاليًا يقفان بعيدًا عن هذا التوافق. فمنذ بداية العام 2021، فرض كلا الطرفين حصارًا على مناطق نفوذ الطرف الآخر، حيث حاصرت قوات النظام السوري مناطق تسيطر عليها “قسد” في ريف حلب الشمالي، ضمن ما يُعرف بمنطقة الشهباء، فيما فرضت قوى الأمن الداخلي الكردية حصارًا على مناطق نفوذ النظام في الحسكة والقامشلي، وهو ما أدى بالنظام إلى وسم قوات “قسد” -للمرة الأولى- بالإرهابية. وعلى الرغم من الوساطة الروسية لفك الحصار، لكن أعادت “قسد” فرض الحصار مجددًا بشكل جزئي بدعوى امتناع موسكو عن تقديم ضمانات أمنية معينة لـ”قسد”، بجانب تهديد موسكو لقسد بأنه إذا لم تتنازل عن مناطق نفوذها لصالح النظام السوري، فستُرفع الحماية عنها بفتح الباب أمام أنقرة لتنفيذ هجمات على مناطق السيطرة الكردية شمال شرقي سوريا.
من ناحية أخرى، تواجه “قسد” أيضًا هجمات من قبل “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا على محور عين عيسى بريف الرقة، وريف تل تمر بمحافظة الحسكة، إلى جانب قصف القوات التركية للمواقع الكردية في شمال حلب. يأتي هذا التصعيد في ظل اضطراب الوضع الأمني بمناطق سيطرة الفصائل الموالية لأنقرة جراء تعاقب حدوث عمليات تفجيرية بتلك المناطق، واتهام تركيا وفصائلها الموالية بمسئولية “قسد” عن تلك التفجيرات.
وفي إدلب، تواجه فصائل المعارضة السورية المسلحة قصفًا مدفعيًا وصاروخيًا موجهًا من قوات النظام السوري، وهو الأمر الذي تزامن مع عودة الطائرات الحربية الروسية تنفيذ غارات على مواقع يُشتبه بكونها عسكرية بمنطقة ريف إدلب الغربي.
وفي الجنوب، تصاعدت وتيرة القصف الإسرائيلي، ليصل حجم الغارات منذ بداية عام 2021 إلى عدد أربع غارات على مواقع تتبع الميليشيات الإيرانية وقوات الجيش السوري ومخازن للأسلحة بمناطق دير الزور وحماة وريف دمشق والكسوة غرب دمشق.
وفي خضم تلك التطورات، عاد تنظيم الدولة الإسلامية للظهور مجددًا داخل الساحة السورية. فانطلاقًا من البادية، كثف تنظيم “داعش” من عملياته الموجهة ضد قوات النظام السوري، وقوات سوريا الديمقراطية. فقد أعلن التنظيم في نهاية ديسمبر 2020 مسئوليته عن قتل 40 جنديًا من الجيش السوري، كانوا يستقلون حافلة على طريق حمص-دير الزور. ولاحقًا، في يناير 2021، تبنى التنظيم عملية اغتيال مسئولتين في الإدارة الذاتية بمنطقة الدشيشة جنوبي الحسكة.
تحديات تركيا في سوريا
بالنظر إلى ما سبق سرده من تطورات ميدانية، مضافًا إليها ما تشهده الساحة الدولية من متغيرات، تواجه الاستراتيجية التركية في سوريا العديد من التحديات التي يمكن إجمالها فيما يلي:
١. تغير الإدارة الأمريكية:
مع رحيل إدارة “ترامب” التي مهدت لتركيا في أكتوبر 2019 تنفيذ امتداد جديد لنطاق سيطرتها، تواجه الإدارة التركية تحديًا لمخططاتها في سوريا مع تولي إدارة “بايدن” الديمقراطية. فعلى الرغم من موقفهما المشترك المناهض لنظام “الأسد”، ولكن مع اتجاه الإدارة الأمريكية الجديدة نحو تكثيف تعاونها العسكري مع الأكراد، ورغبتها في إعادة توثيق علاقاتها مع الحلفاء، يبرز التحدي أمام النظام التركي والذي بدوره يفرض عليه نوعًا من التقييد لتحركاته الراغبة في القضاء على عناصر قوات سوريا الديمقراطية.
خلال حملته الانتخابية، أعلن بايدن عن دعمه للأكراد السوريين. كما عين بايدن أيضًا “بريت ماكغورك” مستشارًا في مجلس الأمن القومي الأمريكي لمنطقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا، المعروف عنه دعمه لقوات سوريا الديمقراطية. وعلى الجانب الآخر، عين بايدن “أنتوني بلينكن” وزيرًا للخارجية. وعلى الرغم من نقاط الخلاف المتعددة التي يراها بلينكن في علاقة بلاده مع تركيا (القضية القبرصية وحيازة تركيا لمنظومة دفاع روسية) لكنه مع ذلك يعتبر تركيا حليفًا في الناتو يتوجب على الولايات المتحدة “إيجاد طرق للعمل معها بشكل أكثر فاعلية”. وفي يناير 2017 عبر مقاله المنشور بجريدة “نيويورك تايمز”، دعا بلينكن إلى ضرورة تسليح الأكراد السوريين لقتال تنظيم الدولة الإسلامية وتحرير الرقة، مع ضمان ألا يكون لهذا الدعم أي انعكاس مهدد للأمن التركي.
٢. عودة “داعش”:
على خلاف ما تمثله داعش من تهديد لكل من النظام السوري وقوات “قسد”، لكنها حتى الآن لا تشكل أي تهديد على تركيا أو فصائلها الموالية. ومع ذلك، يتمثل التحدي التركي من عودة داعش في عودة تفعيل التعاون الميداني والعسكري بشكل أكثر قوة بين الولايات المتحدة وحلفائها بالتحالف الدولي لمحاربة داعش مع قوات سوريا الديمقراطية، لا سيما مع استمرار الولايات المتحدة في دفع الحوار الكردي الكردي الذي من شأنه التوصل إلى آلية لإدارة منطقة “الإدارة الذاتية” في شمال شرق سوريا، بما يعني ضمان استقرار المناطق التي يبرز فيها الحضور الأمريكي.
٣. مركزية الدور الروسي:
ففي ظل ما يتردد عن وجود توافق روسي إيراني جديد حول مناطق نفوذ إيرانية، وكذلك وجود وساطة روسية –برغم النفي الرسمي الروسي والسوري- لمحادثات ما بين النظام السوري وإسرائيل، والمحادثات الروسية المنعقدة بين حين وآخر مع قوات سوريا الديمقراطية، ومع تجدد القصف الروسي لمناطق الفصائل الموالية لتركيا؛ تسعى روسيا إلى تأكيد محورية دورها داخل الملف السوري، لا سيما إزاء الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو ما يفرض على أنقرة تحديًا جديدًا إزاء كيفية التعامل مع كلا القوتين، لا سيما في ظل عدم رغبتها في فقدان علاقتها البراجماتية المميزة مع حليفها الروسي، وكذا رغبتها في تحسين علاقتها مع الإدارة الأمريكية الجديدة تفاديًا للعقوبات.
وفي إطار تلك التحديات، يبدو أن تركيا ستؤثر اتباع نهج الترقب حتى يتبين ملامح التعامل مع الإدارة الأمريكية الجديدة. فمن غير المرجح أن تنفذ تركيا تهديدها بإطلاق عملية جديدة ضد الأكراد خلال الأشهر المقبلة لحين تشكل معالم الموقف الأمريكي بشكل أكثر وضوحًا إزاء القضية السورية بشكل عام، وكيفية تعاملها مع الأكراد على وجه التحديد. هذا في الوقت الذي من المرجح فيه أن تستمر تركيا في خطابها إزاء كافة الفاعلين الدوليين في سوريا حول ما يمثله الأكراد من تهديد وجودي للأمن التركي بما يتطلب معه إنشاء منطقة آمنة خالية من الأكراد على طول الحدود التركية السورية.
بجانب ما تقدم، من المرجح أن تستمر تركيا في توجيه ضربات محددة للمواقع الكردية بمنطقتي عين عيسى وتل رفعت، إلى جانب تحصين قواعدها الأمنية في إدلب وكذا إنشاء نقاط أمنية جديدة لا سيما في محيط الطريق الدولي، وذلك تحسبًا لأي عملية عسكرية سورية روسية تستهدف إتمام سيطرة النظام السوري وحليفه الروسي على طول طريق M4، بما يعني خسارة تركيا لأهم ورقة تفاوضية لديها حاليًا في سوريا.
على صعيد آخر، ستستمر تركيا أيضًا في تأكيد تتريكها وسيطرتها العسكرية والإدارية والاقتصادية لمناطق “درع الفرات”، “غصن الزيتون”، و”نبع السلام”. فمؤخرًا، افتتحت مؤسسة البريد التركية فرعًا لها بمدينة تل أبيض، كما أصدر الرئيس التركي قرارًا يقضي بافتتاح كلية طب ومعهد عالٍ للعلوم الصحية، في بلدة الراعي بريف محافظة حلب.
أخيرًا، من المتوقع أن تستغل تركيا الشكل الجديد الذي تحاول هيئة تحرير الشام عبر زعيمها محمد الجولاني تقديمه للأطراف الدولية. يسعى الجولاني سواء من خلال إطلالته الشكلية أو عبر خطابه الجديد إلى رسم صورة مغايرة عن التنظيم المصنف دوليًا بكونه إرهابيًا، وذلك بغرض حيازة مقعد على طاولة التفاوضات بشأن سوريا، لا سيما مع ما أطلقته أبرز المراكز البحثية من نداءات متعلقة بإعادة النظر في التصنيف الإرهابي للهيئة.
في تقرير حديث صادر عن مجموعة الأزمات الدولية، المعروف عنها تقديم توصيات لصناع القرار الأمريكيين والأوروبيين، جادل معدو التقرير بأن التسمية “الإرهابية” التي تم لصقها على أقوى جماعة متمردة في إدلب تقوض وقف إطلاق النار، وتسد المسارات المحتملة لتجنب مواجهة عسكرية، كما أنه يعكس فجوة في السياسة الغربية. ولذلك، فإن على واشنطن إعادة النظر في نهجها تجاه إدلب وحيال الهيئة، لا سيما مع ما تبديه الهيئة من استعداد وقدرة للتخلي عن مواقفها التي بموجبها تم تصنيفها مسبقًا بكونها إرهابية”.
وعليه، فإن تركيا التي كانت مطالبة سابقًا من قبل روسيا بحل الهيئة أو إدماجها ضمن فصائل المعارضة، من أبرز المستفيدين من التغيير الجاري بالهيئة. فمن شأن هذا التغيير أن يُدحض أي مطالبات للنظام وحليفه الروسي بالدخول إلى إدلب بغرض القضاء على التنظيم، وبالتالي ضمان مساندة المجتمع الدولي لتركيا في حال تنفيذ النظام بمعاونة روسية لأي عملية عسكرية ضد إدلب. ومن جانب آخر، قد تجد تركيا طريقًا للحوار مع الولايات المتحدة في حال استجابَت الأخيرة لنداء تعديل تصنيف الهيئة، حيث ستعمل تركيا هنا على تنصيب نفسها كضامن لهذا التحول نظرًا لما ترتبط بها من تفاهمات براجماتية مع الهيئة، بما يمكّنها في النهاية من فتح مساحة جديدة للاختراق بملف التسوية السورية.