في مشهد غير متوقع شهدت الساحة الفلسطينية عددًا من التطورات الكبرى التي حوت درجة متقدمة من التصعيد من قبل الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ويأتي هذا بعد أشهر قليلة من وصول رئيس ديمقراطي جديد للبيت الأبيض، لم يكن واضعًا في صدارة أجندته الشرق الأوسط بشكل عام، والقضية الفلسطينية على وجه التحديد. وتمثل حالة التصعيد المتنامي التي تشهدها القضية الفلسطينية دافعًا ومحفزًا لوضعها ضمن أولويات الإدارة الديمقراطية الجديدة. ومع ضبابية آفاق التهدئة التي تخيم على المشهد، يُثار التساؤل حول أطر التحرك الأمريكي المزمع لاحتواء التطورات المتلاحقة، واستيعاب تداعياتها السلبية.
رؤية إدارة “بايدن”
اتسمت فترة حكم الرئيس السابق “دونالد ترامب” بالدعم التام لإسرائيل وتجاهل الحقوق الفلسطينية، وهو ما دفع الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي إلى حافة الهاوية. كما كانت المباركة الأمريكية لقيام إسرائيل بضم أراضٍ في الضفة الغربية بمثابة قتل تدريجي لمسألة حل الدولتين، الذي عمق من وتيرته تخلي إسرائيل التام عن المسار التفاوضي. وفي السياق ذاته، مثلت مسألتا نقل السفارة الأمريكية للقدس وتعليق المساعدات لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، موقفًا أمريكيًا عدائيًا واضحًا من القضية الفلسطينية. لذا تعالت التحليلات التي تؤكد أن استمرار “ترامب” في الحكم لفترة رئاسية ثانية يعني تفريغ القضية الفلسطينية تمامًا والقضاء عليها؛ في حين يعني وصول الرئيس الديمقراطي “جو بايدن” لسدة الحكم دعم القضية الفلسطينية وتعزيز حقوق الفلسطينيين، بل قد يمثل انقضاضًا على فترة حكم “ترامب” بكل ما حملته من قرارات وتحركات وسياسات.
وفي خضم هذه الأجواء، سعت إدارة الرئيس “بايدن” منذ اللحظة الأولى لتوليه الحكم إلى التأكيد على أنها على النقيض تمامًا من الإدارة السابقة، حتى وإن لم تشرع في القيام بخطوات عملية حقيقية. وهو ما قد ينصرف قياسًا على القضية الفلسطينية، إذ أعلنت الإدارة عن نيتها إعادة فتح القنصلية الأمريكية في مدينة القدس الشرقية، وفتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية لدى واشنطن، واستئناف المساعدات للـ”أونروا”. إلا أنها لم تبدِ أية إشارة أو حتى مجرد نية لمراجعة قرارات مصيرية اتخذتها الإدارة السابقة، في مقدمتها الاعتراف بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية.
واستنادًا إلى ذلك، يتضح أن إدارة الرئيس “بايدن” شعرت بأهمية دورها السياسي وتحركاتها الدبلوماسية لاحتواء حالة الاختناق التي تخيم على القضية الفلسطينية، والتخفيف –بقدر ما– من حالة العداء التي ساهم “ترامب” في اتساعها. إلا أنه في المقابل يكمن التحدي الآخر لإدارة “بايدن” -فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية- في كيفية تطبيق رسالتها الخاصة بالعودة إلى السياسة الخارجية القائمة على القيم والمبادئ على ما يجري على الأرض في إسرائيل وغزة والضفة الغربية. ومن الجدير بالذكر أنه فور وصوله إلى المكتب البيضاوي في يناير الماضي، أعلن “بايدن” وفريقه أنه لا ينوي الاندفاع باتجاه وساطة جديدة، لا سيما أن المستقبل السياسي لكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس معلّق.
إعادة إنتاج النمط التقليدي
بالنظر إلى التطورات المتلاحقة، يبدو أن العنف المتصاعد على الساحة الفلسطينية قد وضع الرئيس “بايدن” أمام معادلة معقدة دبلوماسيًا، ليس فقط بسبب الضغوط التي يفرضها تأزم الموقف بطريقة تتطلب مزيدًا من الانغماس الأمريكي، وإنما أيضًا بسبب الضغوط التي يمارسها الجناح التقدمي الذي بات يتصدر المشهد السياسي، ويدفع الإدارة الأمريكية باتجاه أخذ مسافة واضحة من إسرائيل بعد الدعم الثابت والقوي الذي أبداه “ترامب”.
وتفتح الاضطرابات الحالية الباب على مصراعيه أمام معارك أوسع ومزيد من التصعيد غير المتوقع، بطريقة قد تجبر إدارة “بايدن” على الانخراط بشكل أعمق في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني طويل الأمد حتى بعد انحسار موجة التصعيد الحالية؛ وهو احتمال يبدو أن الرئيس “بايدن” ومستشاريه حاولوا تجنبه. لقد كان على الإدارة الأمريكية أن تسرع من مساعيها الدبلوماسية حتى دون وجود فريق كامل معني بهذا الملف؛ إذ لا يوجد حتى الآن مرشح للعمل سفيرًا لواشنطن لدى إسرائيل.
وتعتبر بعض التحليلات أن التصعيد الحالي قد ساهم حتى الآن بشكل واضح في إعادة إنتاج النمط الأمريكي التقليدي تجاه القضية الفلسطينية ولم يخلق نمطًا مستحدثًا؛ وذلك على الرغم من تعالي التأكيدات حول تفرد الإدارة الأمريكية وتميزها انطلاقًا من كونها أكثر تنوعًا وتمثيلًا وانفتاحًا. فقد صرح كل من الرئيس “بايدن” ووزير خارجيته “أنتوني بلينكن”، بقوةٍ دعم واشنطن لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس في مواجهة الصواريخ الفلسطينية.
وفي سياق موازٍ، أوفد وزير الخارجية الأمريكي كبير مسئوليه للشئون الإسرائيلية والفلسطينية، هادي عمرو، إلى المنطقة، رغم كونه موظفًا متوسط المستوى وليس دبلوماسيًا رفيع المستوى، كما كان الحال مع المبعوثين الخاصين في الإدارات السابقة. وقال “دانيال كيرتزر”، سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل: “كان من الممكن التدليل على موقف أكثر حزمًا في دبلوماسية وراء الكواليس عبر إرسال شخص أعلى رتبة”. لذا، يبدو أن عمرو أكثر ميلًا للجانب الفلسطيني، وأكثر إيمانًا بحقوقه، لكنه في المقابل لا يتمتع بصلاحيات واسعة. بعبارة أخرى، يبدو أن إيفاد عمرو مسألة دعائية لتحسين صورة الإدارة الأمريكية أكثر من كونه مسألة عملية.
وفي 11 مايو الجاري، عقد مجلس الأمن اجتماعًا عاجلًا، بناء على طلب تونس، لكن لم يصدر عنه بيان فوري بسبب تردد واشنطن. فخلال الاجتماع، قدم مندوب النرويج اقتراحًا لبيان مشترك يحث إسرائيل على منع عمليات الإخلاء للعائلات الفلسطينية في حي الشيخ جراح، ويدعو إلى “ضبط النفس” واحترام “الوضع التاريخي للحرم الشريف”، و”حث الجانبين على العمل من أجل تهدئة الموقف”.
وتعليقًا على ذلك، كشف دبلوماسي في مجلس الأمن عن أن البيان النرويجي خضع لعدد من التعديلات بناء على طلبات من واشنطن ولندن، والتي تأكد ممثلها من تضمينه إدانة لإطلاق صواريخ من غزة. وقد أيد المسودة المحدثة للبيان أربعة عشر من أعضاء مجلس الأمن، لكنها فشلت في المضي قدمًا بعد أن طلبت البعثة الأمريكية مزيدًا من الوقت لمناقشة الأمر، معتبرة أن مثل هذه الخطوة قد لا تكون مفيدة في الوقت الحالي. وفي محاولة جديدة لإبداء موقف متوازن واحتواء التصعيد المتزايد، ذكر “بايدن” في تسجيل فيديو: “نرى أيضًا أن الفلسطينيين والإسرائيليين يستحقون سويًا العيش في أمن وسلام، وأن ينعموا بدرجة متساوية من الحرية والرخاء والديمقراطية”. مضيفًا أن إدارته ستواصل دفع الفلسطينيين والإسرائيليين وأطرافًا أخرى بالمنطقة نحو تهدئة دائمة.
كما أوضحت واشنطن لمجلس الأمن خلال الاجتماع الذي جرى في 16 مايو، أنها لفتت لإسرائيل وللفلسطينيين ولأطراف أخرى أنها مستعدة لتقديم الدعم “إذا سعى الطرفان إلى وقف إطلاق النار” لوضع حد للعنف المتزايد. إذ ذكرت “ليندا توماس جرينفيلد”، سفيرة أمريكا لدى الأمم المتحدة، بمجلس الأمن: “تعمل واشنطن بلا كلل عبر القنوات الدبلوماسية لوضع حد لهذا الصراع.. لأننا نعتقد أن الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء لهم الحق في العيش بأمن وأمان”. لكن -في المقابل- حالت واشنطن لــ”المرة الثالثة” دون أن يتبنى مجلس الأمن قرارًا حول النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين يدعو إلى “وقف أعمال العنف” و”حماية المدنيين”، الأمر الذي دفع إلى دعوة لعقد جلسة جديدة مغلقة يوم 18 مايو.
وعلى النقيض من ذلك، قال مستشار الأمن القومي “جيك سوليفان”، على تويتر، إنه تحدث مع نظيره الإسرائيلي والحكومة المصرية حول التصعيد المتنامي، موضحًا أن واشنطن منخرطة في دبلوماسية هادئة ومكثفة. كما قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض” جين ساكي” إن واشنطن أجرت أكثر من 60 اتصالا مع الفلسطينيين والإسرائيليين وأهم قادة المنطقة.
أي تحرك أمريكي يمكن توقعه؟
تاريخيًا تصدرت الولايات المتحدة مشهد الصراع العربي الإسرائيلي بصفتها راعيًا ووسيطًا، لذا تتجه أغلب –إن لم يكن كل- الأنظار صوب واشنطن، إيمانًا بقدرتها على احتواء الموقف والحد من التصعيدات المتنامية؛ إلا أن هذا التحرك المرتقب يجري تشكيله وفق مجموعة من المحددات:
أولًا- الداخل الأمريكي:
بالنظر إلى الداخل الأمريكي يتضح أن تصدر التيار التقدمي أو اتساع الاتجاهات الليبرالية الديمقراطية أضاف متغيرًا جديدًا للمعادلة وفرض ضغوطًا إضافية على الإدارة الأمريكية في استجابتها للمتغيرات الجديدة. وعلى النقيض من ذلك، ترى بعض التحليلات أنه ليس من الضروري أن يقوم هذا التيار بفرض ضغوط على الإدارة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، ذلك أن المشرعين الذين يتحدون موقف الديمقراطيين التقليدي المؤيد لإسرائيل قد لا يميلون إلى مواجهة “بايدن” لأنه دافع عن قضاياهم الرئيسية في مجالي الاقتصاد والمناخ.
وعلى الجانب الآخر، حتى وإن صح هذا الافتراض، ستظل مسألة تطبيق المعايير العالمية لحقوق الإنسان والقانون الدولي على الفلسطينيين، مسألة ذات اهتمام كبير بالنسبة لهذا التيار. وهو ما اتضح في دعوة الإدارة إلى استخدام المساعدات العسكرية السنوية لإسرائيل كوسيلة لتحقيق تلك الغاية.
ثانيًا- الأوضاع على الأرض:
على الرغم من قدرة السياسات -في بعض الأوقات– على تحديد وتوجيه الأوضاع على الأرض، إلا أنه في أوقات أخرى حينما تخرج الأوضاع على الأرض عن السيطرة تفرض هي شكل السياسات وحدود التحركات. وبالنظر إلى الأزمة الحالية، يتضح أنها تمثل جولة جديدة ومختلفة عن جولات العنف السابق، إذ تحوي صدامًا بين الإسرائيليين والفلسطينيين في القدس الشرقية، وبين العرب واليهود في المدن داخل إسرائيل، وبين إسرائيل وحماس في غزة. بعبارة أوضح، يبدو المشهد الحالي أكثر تعقيدًا بطريقة قد تستدعي سياسات أكثر تمايزًا وتحركات أكثر مرونة.
وارتباطًا بهذا، يبدو أن الأزمة الأخيرة قد وقعت في سياق بالغ التعقيد يعاني من مجموعة من المشكلات المتراكمة؛ فقد أجرت إسرائيل 4 انتخابات في غضون عامين، وربما تتجه للخامسة. كما أجل الرئيس الفلسطيني الانتخابات لأجل غير مسمى؛ بجانب غياب آفاق التسوية السلمية والتوصل إلى حلول سياسية. وعليه، يتضح أن هذا المشهد المركب مرشح لمزيد من التصعيد والتعقيد بطريقة قد تفرض مسارات جديدة.
ثالثًا- خصوم واشنطن:
على الرغم من الرغبة الأمريكية الملحة في عدم استنزاف التركيز والجهد الأمريكي في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، لا سيما مع إدراك إدارة “بايدن” أن هذا الملف يحمل قدرًا –لا بأس به– من الخلاف داخل المعسكر الديمقراطي، إلا أن واشنطن تدرك جيدًا أن انحصار دورها في قضية على هذا المستوى من الأهمية يعني تزايد دور خصومها لا سيما موسكو وبكين.
فعلى الرغم من التزام موسكو بالهدوء حيال التصعيد الأخير، إلا أنها أبدت دعمها المتواصل للتسوية السلمية وتبني (حل الدولتين)؛ وهو موقف مشابه للموقف الصيني الداعم للتسوية السلمية وحل الدولتين أيضًا. وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو أن لديهما نوايا حقيقية لاضطلاع بجهد فعلي حيال هذه القضية، ولكن يبدو أن المعضلة الحقيقية تكمن في الدور المعنوي والدعائي الذي قد يسعيان من خلاله للضغط على واشنطن وتشويه صورتها، لا سيما مع استمرار انحيازها لإسرائيل. ويمكن الاستشهاد في هذا السياق بما قالته المتحدثة باسم الخارجية الصينية “هوا تشون يِنج”: “بينما تزعم الولايات المتحدة أنها تهتم بحقوق الإنسان، فإنها لا تعير اهتمامًا بمعاناة الشعب الفلسطيني”.
رابعًا- المعادلة الإقليمية:
يجري التصعيد المتنامي الحالي في سياق إقليمي مضطرب يعاني من قدر من السيولة السياسية والأمنية، وعليه يمكن النظر إليه في ضوء المعادلة الإقليمية. وقد اتجهت بعض التحليلات إلى النظر إلى التصعيد الأخير في ضوء الأزمة الإيرانية انطلاقًا من وجود اتصالات خلفية بين حماس وطهران حول التصعيد كمحاولة من الأخيرة –أي طهران– لتحسين وضعها التفاوضي على الطاولة في فيينا.
بعبارة أوضح، لا بد من النظر إلى الأزمة الأخيرة عبر عدسة أوسع، هي عدسة السياق الإقليمي، الذي قد يحمل تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على الأوضاع وتفاقمها. لذا، قد يتم التعاطي الأمريكي مع التصعيد الأخير عبر سلسلة من المقايضات السياسية في قضايا أخرى مع دول عربية وإقليمية.
خامسًا- صورة واشنطن:
أعلنت إدارة “بايدن” منذ وصولها لسدة الحكم عن أهمية استعادة الدور الأخلاقي لواشنطن، أو استعادة السياسة الأمريكية القائمة على القيم، سيما الديمقراطية وحقوق الإنسان. لذا، تدرك واشنطن جيدًا ضرورة التحرك وفقًا لهذا المبدأ حتى لا يتم الإضرار بصورة واشنطن عالميًا. وعليه، ستصبح أمام واشنطن معضلة جديدة تتعلق بالتوفيق بين علاقاتها بحليفها التقليدي (إسرائيل) وبين الدفاع عن القيم الأساسية.
ختامًا، يتضح أن استمرار التصعيد يمثل ضغطًا على واشنطن وإحراجًا للإدارة الجديدة التي قدمت نفسها عبر صورة إنسانية أخلاقية ليس فقط داخل الولايات المتحدة، وإنما على مستوى العالم أيضًا. وبشكل عام، يبدو أن واشنطن تفضل أن ينحصر تحركها على وقف التصعيد والاتجاه نحو التهدئة، وليس التفكير في حل سياسي للقضية الفلسطينية أو الدفع الحقيقي باتجاه استكمال المسار التفاوضي لحل الدولتين، ولكن التطورات السريعة والمتلاحقة والتغيرات الكبيرة على الأرض قد تفرض عليها دورًا أكثر انخراطًا وديناميكية عما كانت ترتئيه لنفسها.
رئيس وحدة الدراسات الأمريكية