النغمة السائدة في الأوساط السياسية والأكاديمية الأمريكية منذ عدة سنوات هي أن الولايات المتحدة يجب أن تقلل اهتمامها وتحد من دورها وارتباطها بمنطقة الشرق الأوسط. وقد تبنت إدارات الرؤساء أوباما وترامب سياسات في هذا الاتجاه، ووعد بايدن بأن يتبنى نفس التوجه. ولكن الإحداث التي تشهدها المنطقة هذه الأيام وخاصة في الساحة الفلسطينية الإسرائيلية أعادت الأوساط الأمريكية للنقاش حول الارتباط الأمريكي بالشرق الأوسط، وهل من مصلحة الولايات المتحدة العودة للعب دور قيادي مرة أخرى في المنطقة.
سياسة الحد من الارتباط الأمريكي بالشرق الأوسط قامت على العديد من الافتراضات، منها انخفاض احتياج الولايات المتحدة لنفط الشرق الاوسط سواء بسبب قيامها بتنويع مصادر استيراد النفط والاعتماد بشكل أكبر على مصادر من خارج منطقة الخليج العربي، أو ما يتعلق بالاكتشافات الضخمة لما يسمى ” النفط الصخري” في الولايات المتحدة، وهو ما سيؤدى الى وصول الولايات المتحدة الى حالة الاكتفاء الذاتي من الطاقة في المستقبل القريب. الأمر الثاني يتعلق بتوجهات الرأي العام الأمريكي التي لم تعد تتحمس للتدخل بالمنطقة أو النشاط الزائد بها نتيجة للثمن الاقتصادي والبشرى الذي دفعته الولايات المتحدة في غزوها واحتلالها للعراق وأفغانستان إذا أخذنا بالمعنى الواسع للشرق الأوسط. الأمر الثالث أرتبط بقناعة العديد من دوائر صنع القرار الأمريكي بأن قدرة الولايات المتحدة على التأثير على مجريات الامور في المنطقة اصبحت محدودة. ويضاف لذلك وجود اعتقاد لدى عدد من المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين ومراكز الابحاث بأن منطقة الشرق الاوسط تمر بحالة ممتدة من عدم الاستقرار سوف تستمر لعدة سنوات ومن الافضل عدم التدخل فيها. وشبهها البعض بحرب الثلاثين عاما التي شهدتها أوربا والتي دار رحاها في الفترة من 1618 الى 1648 والتي شهدت تداخل بين النزاعات الدينية والسياسية، وراح ضحيتها الاف البشر. ومن ثم هناك قناعة بأنه من الافضل ترك منطقة الشرق الاوسط تمر بعملية التحول الكبرى التي تشهدها، وأن المنطقة سيسودها الاضطراب والسيولة وعدم الاستقرار لفترة طويلة من الزمن، وأن هذا أمر لا مفر منه، وأن التدخل الخارجي لن يغير من عملية التحول بالمنطقة، والأفضل تركها لشأنها.
وأخيرا هناك توجه الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ إدارة أوباما وحتى إدارة بايدن بزيادة الاهتمام بالقارة الاسيوية أو ما يسمى بالتحول نحو أسيا، سواء للمشاركة في ثمار النمو بهذه القارة الواعدة اقتصاديا، أو لمواجهة تصاعد النفوذ الاستراتيجي الصيني بها والذي تعتقد الولايات المتحدة أنه يهدد نفوذها في القارة الاسيوية وفي العالم، استنادا لرؤية سياسات التنافس مع القوى الكبرى (الصين وروسيا) التي أصبحت تتبناها. هذا التوجه الأمريكي بالتحول نحو أسيا، ترتب عليه إعادة ترتيب الاولويات الامريكية في العالم، وإعادة توزيع درجة الاهتمام والامكانات الاستراتيجية الامريكية بعيدا عن الشرق الاوسط وقريبا من أسيا.
هذه الاسباب مجتمعة دفعت الولايات المتحدة لتقليل ارتباطها بالشرق الاوسط في السنوات الاخيرة من عهد أوباما، بمعنى تجنب التورط في مشاكل المنطقة وعدم لعب دور قيادي بالنسبة لها، و ظهر ذلك واضحا في أزمات سوريا و اليمن و غيرها.
اليوم، ومع اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية بتغطية تصاعد الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية، والتي لم يتوقعها أحد، بدأ العديد من المحللين الأمريكيين يطرحون أسئلة مثل هل تعود الولايات المتحدة للعب دور قيادي على الأقل في عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، وهل تراجع قائمة اهتمامها بالمنطقة بحيث لا تقتصر فقط على ملف المفاوضات مع إيران بشأن البرنامج النووي. وهل عودة الاهتمام بالشرق الأوسط سوف تؤثر على الأولويات الداخلية لبايدن (كورونا والاقتصاد والاستقطاب المجتمعي)، وأولويات سياسته الخارجية المتعلقة بالصين وروسيا.
كل المؤشرات تدل على أن الولايات المتحدة لن تقوم بتغيير سياساتها ولن تسعى لإستعادة دورها القيادى في الشرق الأوسط، وخاصة ما يتعلق بعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، السبب الرئيسى هو أن الافتراضات الهيكلية التي أدت الى تراجع الدور القيادى ما تزال قائمة و لم تتغير، و يضاف اليها الأوضاع الداخلية الصعبة داخل الولايات المتحدة، و التي تجعل الداخل أولوية للإدارة الحالية على حساب قضايا السياسة الخارجية. كما أن الرئيس الحالي بايدن كان نفسه شاهدا على الجهود الكبيرة التي بذلتها إدارة أوباما على أعلى المستويات و خاصة دور وزير الخارجية جون كيري في التوصل لاتفاق سلام والتي فشلت في النهاية، ولا يريد بايدن تكرار الفشل. و بالتالي فإن هدفه في الأزمة الحالية هو التهدئة و ليس الحل، و كى يتفرغ لأولوياته الأخرى، و الاعتماد بشكل أساسي على القوى الإقليمية في التوصل لهذه التهدئة.
نفس الأمر ينطبق على تعامل الولايات المتحدة مع ملف سد النهضة، فهو لا يحتل أولوية بالنسبة لها، و التعامل مع الملفات خلال مبعوث لمنطقة القرن الإفريقى و ليس وزير الخارجية أو مستشار الأمن القومى أو البيت الأبيض يعكس درجة الاهتمام المحدودة. كما اتضح ذلك من البيان الأخير لوزارة الخارجية الأمريكية حول مهمة مبعوث القرن الإفريقى، و الذى جاء باهتا، و تحدث في العموميات، و القى كرة الوساطة في ملعب الإتحاد الإفريقى.
الخلاصة، لا ينبغي توقع دور أمريكى في ملفى عملية السلام الفلسطيني الاسرائيلى أو سد النهضة، و لا يجب التعويل على مثل هذا الدور، و قضايا المنطقة أصبحت بشكل أساسى في أيد دولها، وأصحاب كل قضية هم القادرون على تحريكها.
ـــــ