واجه قطاع غزة منذ بدء المواجهات والتصعيد العسكري مع إسرائيل وحتى وقف إطلاق النار بين الطرفين، أوضاعًا إنسانية متأزمة نتيجة لتردي الأحوال المعيشية التي كان يعاني منها القطاع قبل التصعيد بشكل عام، والتي تفاقمت بشكل مأساوي جراء القصف الإسرائيلي الذي استهدف البنية التحتية والمدنيين في قطاع غزة. إذ إن الأعمال العدائية التي ارتكبتها إسرائيل تمثل تعديًا وخرقًا للقانون الدولي الإنساني بفرعيه: “قانون جنيف” المعني في اتفاقيته الرابعة بحماية المدنيين الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية، و”قانون لاهاي” الذي ينظم سير ووسائل وأساليب الحرب، وهو ما يصل إلى ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب في قطاع غزة. ويأتي ذلك في ظل استكمال تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية الأخيرة المعنية بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2014، وصدور بيان رسمي عن المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية حول مراقبتها للأوضاع الإنسانية جراء التصعيد الحالي، ومفاده أن تنامي وتيرة العنف في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة من شأنه احتمال وقوع انتهاكات وارتكاب لجرائم بموجب نظام روما الأساسي.
الوضع الإنساني في قطاع غزة إزاء القصف الإسرائيلي
في مقابلة أجراها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية مع مسئولة الاتصالات بمكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر “إسرائيل والأراضي المحتلة” بالقدس، أنستاسيا إسيوك، أكدت أن اللجنة الدولية قلقة بشدة بشأن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة نتيجة للتصعيد العسكري الأكثر حدة منذ سنوات، والذي ترك آثاره بصورة دراماتيكية على المدنيين، مخلفًا المزيد من أعداد الضحايا والمصابين بين صفوف المدنيين.
كما أشارت إلى أن الصراع الحالي أثار الذاكرة المأساوية المرتبطة بالصراعات السابقة، وما لذلك من أثر على تردي الصحة العقلية للسكان في القطاع. كما دعت اللجنة الدولية جميع الفاعلين على الأرض لوقف التصعيد واحترام قواعد القانون الدولي الإنساني، بما يمكّن اللجنة من متابعة مهامها بالولوج لتلبية احتياجات السكان وتقديم الدعم اللازم لهم، فضلًا عن دعم وتسهيل العمل الإنساني.
وفيما يتعلق بالموارد والبنية التحتية، أوضحت مسئولة الاتصالات وجود تحديات أمام سكان قطاع غزة للوصول إلى المستشفيات التي عانت خسائر في البنى التحتية لديها وفي الطرق المؤدية إليها، وهو ما انعكس على وجود عراقيل أمام نقل المصابين وإخلائهم، في الوقت الذي يواجه فيه النظام الصحي بأكمله صعوبات وضغوطات لمعالجة المصابين من تفشي جائحة كورونا، فضلًا عن تعرض البنى التحتية الحيوية الأخرى مثل الطرق والمباني للدمار في القطاع، علاوة على إلحاق خسائر وتدمير في البنى التحتية الإنسانية.
وتأتي الأولوية التي تضطلع بها اللجنة الدولية في دعم القطاع الطبي والبنية التحتية الخاصة به وذلك في إطار إمداد المستشفيات بالاحتياجات اللازمة، والعمل على إيجاد آلية مستقرة لتنسيق تحركات اللجنة لضمان توظيف الخدمات وتمكنها من الوصول للمدنيين، وذلك علاوة على إمكانية تغطية العجز في الوقود ودعم هذا القطاع.
من ناحية أخرى، أصدرت العديد من المؤسسات الدولية بيانات وتقارير بشأن الممارسات التي تقوم بها إسرائيل في القطاع والتي تسببت في تدهور الوضع الإنساني وهي:
1– استهداف المدنيين: تشير بيانات وزارة الصحة الفلسطينية إلى أن أعداد الضحايا في قطاع غزة حتى إعلان وقف إطلاق النار وصلت إلى 248 حالة، منهم 66 طفلًا و39 امرأة، فضلًا عن وصول أعداد المصابين إلى حوالي 1950 مصابًا، منهم 444 طفلًا بناء على بيانات منظمة اليونيسيف، كما وصلت حصيلة الضحايا في الضفة الغربية إلى 27 فلسطينيًا وأكثر من 6300 مصاب.
2- قصف المباني السكنية: قام الجيش الإسرائيلي بقصف عدد من الأبراج والمباني السكنية والتجارية في قطاع غزة، مثل برج هنادي وبرج الجوهرة والجندي المجهول ومبنى الشروق ومبنى طيبة بقطاع غزة، وذلك بعد منح ساكنيها حوالي ساعة واحدة فقط للإخلاء، فضلًا عن تدمير مبنى يضم مكاتب وكالة أسوشيتيد برس والجزيرة في القطاع. وقد أعلنت وزارة الإسكان أنه حتى قبل اللحظات الأخيرة من اتفاق وقف إطلاق النار تم الإضرار بــ16800 وحدة سكنية في قطاع غزة، منها 1800 وحدة باتت غير صالحة للسكن و1000 وحدة دُمرت بشكل كامل، فضلًا عن تدمير 53 مؤسسة تعليمية وتأثر أكثر من 600 ألف طفل في القطاع.
3- قصف البنية التحتية الإنسانية: في 18 مايو قامت إسرائيل بقصف موقع الهلال الأحمر القطري بقطاع غزة، ويأتي ذلك في إطار سلسلة من الهجمات قامت بها إسرائيل لاستهداف البنى التحتية الإنسانية بالقطاع، بما في ذلك 18 مستشفى ومركزًا للرعاية الصحية وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. كما أن تدمير شبكات المياه في القطاع تسبب في عدم وصول المياه إلى أكثر من 800 ألف شخص، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (OCHA).
4- عمليات التهجير القسري: أكدت مؤسسة “كير” أن العنف الممارس عبر التهديد والإخراج القسري للأهالي من مساكنهم في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية قد تزايد على مدار أيام التصعيد. إذ خلفت عمليات التهجير للمدنيين وتدمير المنازل والمباني ومصادرة ممتلكات الفلسطينيين ما يزيد على 970 فلسطينيًا منهم أكثر من 420 طفلًا تحت خطر النزوح والطرد من المدينة.
5- تزايد أعداد النازحين: أشارت الأونروا UNRWA إلى أن أكثر من من 77 ألف فلسطيني اضطروا إلى النزوح والفرار من منازلهم منذ اندلاع القتال قبل أسبوع بين إسرائيل وحركة حماس واحتموا بالمدارس والمساجد نتيجة الخوف من الوقوع تحت القصف الإسرائيلي المستمر على المباني السكنية في القطاع، ولكن انخفض هذا العدد بعد إعلان اتفاق وقف إطلاق النار ليصل إلى حوالي 35 ألف نازح.
خروقات إسرائيل للقانون الدولي الإنساني
تمثل الاعتداءات التي ارتكبتها إسرائيل منذ بداية الأحداث في حي الشيخ جراح وحتى الوقت الحالي جملة من الانتهاكات الصريحة للقانون الدولي الإنساني، بما تسبب في زيادة تفاقم الأوضاع لما كانت عليه؛ إذ لم تراعِ إسرائيل أي معايير قانونية أو إنسانية جراء التصعيد، وهو أمر غير جديد، خاصة وأن المحكمة الجنائية الدولية في مارس الماضي استأنفت التحقيقات المتعلقة بجرائم الحرب التي اندلعت مع قطاع غزة عام 2014، والذي لقي ردود فعل سلبية من قبل إسرائيل؛ إذ وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” تلك الخطوة بأنها تمثل معاداة صريحة للسامية وإهانة للنظم الديمقراطية، كما أكدت إسرائيل أنها ليست عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية، وأن الأخيرة ليس لها أي اختصاص على المنطقة المعنية، لكن المحكمة قضت بأن اختصاصها يمتد إلى الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية. كما أنه من المقرر أن يحل النائب البريطاني كريم خان محل المدعية العامة الحالية في منصب المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية الدولية في يونيو 2021، وإذ تأمل إسرائيل في أن يكون “خان” أقل عدائية تجاهها أو حتى يلغي التحقيق المفتوح ضدها.
في هذا الإطار، يمكن توضيح الانتهاكات القانونية التي ارتكبتها إسرائيل فيما يلي:
- انتهاك اتفاقية جنيف الرابعة المعنية بحماية المدنيين 1949: إذ إن أحداث التهجير التي قامت بها إسرائيل من خلال استبدال قاطني منازل القدس الشرقية بمواطنين إسرائيليين يُعتبر خرقًا للمادة 49 من الاتفاقية التي تقول: لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءًا من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها.
- يقع استهداف المدنيين ضمن انتهاكات اتفاقية جنيف الرابعة، إذ إن القصف الإسرائيلي للمواقع المدنية بقطاع غزة لم يراعِ أيًا من القواعد الثلاث الأساسية للقانون الدولي الإنساني التي تنظم تنفيذ العمليات العسكرية وتهدف إلى حماية المدنيين من آثار العمليات العدائية وهي:
1– التمييز: تستوجب قاعدة التمييز أن يقوم أطراف النزاع بالتمييز في جميع أوقات النزاع المسلح ما بين المدنيين والنطاقات المدنية من جانب، والعسكريين والمنشآت العسكرية وبنك أهدافها من جانب آخر، بحيث يجب أن تقتصر الهجمات على الأهداف العسكرية والمشارِكة في الأعمال العدائية فقط، والتي بحكم طبيعتها وموقعها والغرض منها يقدم قصفها إسهامًا حقيقيًا في العمل العسكري، وبالتالي يحقق تدميرها ميزة عسكرية محددة. وفي هذا الصدد، يمثل استهداف إسرائيل للمباني السكنية والمدنيين بدون تمييز انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني.
2- التناسب: من المحظور شن هجوم قد يسبب خسائر عرضية من المدنيين أو الإضرار بالأعيان المدنية والإفراط في مثل تلك الأعمال العدائية. فعند مقارنة أعداد الضحايا من كلا الجانبين، يتبين أن ضحايا الجانب الفلسطيني المدنيين والأطفال تفوق نسبة الضحايا الإسرائيليين بشكل مبالغ فيه، وأن ما تفعله إسرائيل يعتبر صورة من صور العقاب الجماعي. وقد صرح المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بأن تصعيد إسرائيل للعنف والقصف واسع النطاق لا يحترم نهائيًا احترام مبدأ التناسب.
3- الاحتياطات: وهو ما يعني حرص أطراف النزاع المسلح على تجنيب المدنيين والأعيان المدنية الأضرار عند الإقدام على تنفيذ عملية عسكرية، وأن يتأكد الطرف المعتدِي من أن الأهداف عسكرية، وأن يراعي في استخدامه للسلاح أن يتجنب الضرر العرضي الذي يلحق بالمدنيين، وأن يُحجم عن شن الهجوم إذا ما كان واضحًا أن الخسائر ستكون مفرطة مقارنة بالميزة العسكرية. كما تُعرِّف اللجنة الدولية للصليب الأحمر المقاتل بأنه شخص له “وظيفة قتالية مستمرة” أو أولئك الذين شاركوا في القتال وقت استهدافهم، وهو تعريف معتمد على نطاق واسع، لذلك حتى لو تكدس أحد المبانى التي استهدفتها إسرائيل بأعضاء من حركة حماس، فإن القانونيين في هذا الصدد لا يعتبرونه هدفًا مشروعًا للعمليات العسكرية ما لم يشاركوا بنشاط في العمليات القتالية، وأنه إذا تم استخدام جزء من المبنى لأغراض عسكرية، فإن السلطات الإسرائيلية ملزمة باختيار وسائل وأساليب للهجوم من شأنها تقليل المخاطر التي يتعرض لها المدنيون وممتلكاتهم.
- تعتبر الاستهدافات العسكرية الإسرائيلية للبنى التحتية ومقر الهلال الأحمر القطري والمنشآت الصحية بمثابة خرق آخر لمبدأ الالتزام بالقيام بأعمال الإغاثة، إذ يقع على عاتق دولة الاحتلال واجب كفالة المؤن والدعم والإمدادات الطبية في جميع الظروف للجرحى والمصابين. ويعتبر غلق إسرائيل لمعبر كريم شالوم أمام قوافل الإغاثة لمنظمة اليونيسيف عدم اكتراث لهذا المبدأ من جانب آخر، فضلًا عن تزايد أعداد الضحايا بين النساء والأطفال الذين يعتبرون وفقًا للقانون الدولي الإنساني من الفئات ذات الاحتياجات المحددة في أوقات النزاع، كما أن الاطفال يعانون تدهورًا في الصحة النفسية والعقلية والصدمات النفسية وفقًا لتقرير لمنظمة اليونيسف.
- ارتباطًا بالنقطة السالف ذكرها، يأتي التأثير الآخر لاستهداف البنى التحتية في عدم اضطلاع الدولة المتضررة بالشروع في القيام بمسئوليتها في الحماية، والذي ينص أن على الدولة الالتزام بحماية مواطنيها من الفظائع الجماعية، وفي حال فشل الدولة يقع الأمر على المجتمع الدولي بمساعدة الدول على ذلك واتخاذ إجراء مشترك لحماية المدنيين، إلا أن الولايات المتحدة إزاء تصديقها على بيع أسلحة لإسرائيل بمبلغ 753 مليون دولار في تلك الظروف وإلغائها لاجتماع مجلس الأمن 14 مايو يشير إلى عدم وجود نية في انخراطها مع المجتمع الدولي لتقديم المساعدة.
سياسات الإنسانية Politics of Humanity
على الرغم من رفع إدارة بايدن العقوبات وحظر التأشيرات الذي فرضه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب العام الماضي بعد أن فتحت تحقيقًا في جرائم حرب مزعومة ارتكبها عسكريون أمريكيون في أفغانستان، على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ومسئول آخر بمحكمة؛ إلا أن إدارة بايدن واصلت معارضة التحقيقات، وكذلك التحقيق المعني بجرائم الحرب في الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل، كما أن الولايات المتحدة ما زالت غير عضو بالمحكمة الجنائية الدولية.
ويشير هذا الأمر إلى أن جرائم الحرب التي تُرتكب عادةً ما تخضع في تقييمها إلى مبادئ السياسة الدولية وتوازنات القوى، ويندرج تحت هذا الأمر سياسات حقوق الإنسان. فقد انتقدت مؤسسة الحريات المدنية الأمريكية أن الولايات المتحدة لا تمتثل للكود الأممي لحقوق الإنسان، وذلك من خلال سعي الولايات المتحدة لتدشين مفهوم أمريكي لحقوق الإنسان خاص بها يختلف عن المفاهيم الأممية المدرجة في الاتفاقيات والمواثيق الدولية.
وفي هذا الإطار، فإن التحقيقات القضائية والقانونية لجرائم الحرب والانتهاكات ضد المدنيين أثناء الحرب تخضع بدورها لمعايير السياسة الدولية والذي تجلى في تحركات الإدارة الأمريكية، إلا أن هذه السياسة قد تعبر عن تخبطات في السياسة الخارجية الأمريكية بشأن التصعيد في قطاع غزة.
ومع ذلك فقد شهد التاريخ القضائي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية سلسلة مطولة من المحاكمات والإدانات الدولية ضد جرائم الحرب أبرزها محاكمات نورمبرج ومحاكمات عسكريين يابانيين عقب الحرب العالمية الثانية ومحاكمات جرائم حرب طوكيو ومحاكمات يوغوسلافيا ما بين 1993 وحتى 2017 ومحاكمات جرائم الإبادة الجماعية في رواندا وسيراليون وكمبوديا وجواتيمالا وساحل العاج وكوسوفو، إذ إن على الدول وفق القانون الدولي الإنساني العرفي الالتزام بالتحقيق في جرائم الحرب ومحاكمة مرتكبيها.
وفي الختام، تشير الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة إلى ارتكاب إسرائيل العديدَ من الانتهاكات إزاء القانون الدولي الإنساني في حق المدنيين وقطع الطريق أمام تقديم أي مساعدات لهم، في الوقت الذي اضطلعت فيه مصر بدورها الإنساني سواء من خلال القوافل الطبية أو فتح معبر رفح، وأخيرًا ضخ 500 مليون دولار لجهود إعادة الإعمار بقطاع غزة، في الوقت الذي يتعرض فيه ملف الإنسانية لأزمة سياسات بين القوى والمصالح الدولية.