في أعقاب التغييرات السياسية التي شهدتها الجزائر منذ نهاية عام 2018، وما تبعها من الإطاحة بنظام “بوتفليقة” وتولي الرئيس عبدالمجيد تبون السلطة في ديسمبر 2019، حملت السياسة الخارجية الجزائرية ملامح بارزة اتضحت معالمها في التعاطي المتباين لما سبق مع المحيط الإقليمي وعلى رأسه الصراع الليبي. وجاءت التعديلات الدستورية في نوفمبر 2020 لتنبئ بتحولات جديدة للسياسة الخارجية، خاصة بعد إقرار المواد المتعلقة بإعطاء الحق لرئيس الجمهورية في إرسال قوات جزائرية للمشاركة في مهام حفظ السلام خارجيًا، وهي الخطوة التي تُعد نهجًا مغايرًا لما سبق في ضوء تعقيدات المشهد بمنطقة الساحل والصحراء وكذلك التوترات المختلفة للمحيط الإقليمي.
أولويات ضرورية
هناك مجموعة من الأولويات التي تبنتها السياسة الخارجية الجزائرية في عهد الرئيس عبدالمجيد تبون والتي تتضمن:
1- الحفاظ على الأمن القومي الجزائري: والذي يُعد ركيزة أساسية نحو استقرار الدولة، وتجلى ذلك في الانخراط المتسارع في الصراع الليبي، والدعوة لحتمية الحل السياسي لها بعيدًا عن التدخلات العسكرية، وذلك لما يمثله ذلك من ضغط كبير على الحدود الجزائرية- الليبية التي تبلغ قرابة 1000 كم2، إلى جانب الاهتمام بملف الإرهاب في الساحل والصحراء وحتمية التعاون الإقليمي والدولي في تقويض الحركات المُسلحة المتطرفة في تلك المنطقة، بما يساعد في تحقيق الاستقرار داخل دول الساحل والصحراء ويعزز من الأمن القومي الجزائري.
2- محاولة احتواء المشكلات التقليدية: إن إحدى الأولويات الرئيسية للإدارة الجزائرية الجديدة الدفع لحل القضايا العلاقة التي تؤثر على تفاعلاتها الخارجية وطبيعة علاقتها بدول الجوار، وهنا نجد توجهًا جديدًا نحو تصفير المشكلات التقليدية، ويأتي على رأسها قضية الصحراء محل التوتر مع دولة المغرب، وقد برز هذا في حديث عبدالمجيد تبون أثناء خطاب التنصيب والذي رأي خلاله أن قضية الصحراء الغربية قضية تصفية استعمار، وأن الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي هما الجهات المنوط بها حل تلك القضية على خلفية المبادئ العالمية الداعمة لحق تقرير المصير، دون أن يُعكر ذلك العلاقات المشتركة بين مراكش والجزائر، كما أن رد الخارجية الجزائرية على تصريحات الرئيس التركي رجب أردوغان بشأن الماضي الاستعماري لفرنسا يُعزز من تلك الفرضية والرغبة الحقيقية في تجاوز المحطات التاريخية المؤلمة.
3- العودة للبيئة الإفريقية والعربية: وذلك بعدما ظلت الجزائر لفترات طويلة تمتاز بالتجمد الدبلوماسي، وظلت بعيدة عن العمل المشترك في إطار تلك الدائرتين خاصة في الفترة الأخيرة لحكم بوتفليقة ومرضه الذي حال دون استقبال أو القيام بزيارات مختلفة لدول تلك المنطقة، فضلًا عن اعتماده بشكل كبير على المؤسسة العسكرية دون الخارجية الجزائرية، كما أن طول أمد الحراك الشعبي واستمرار حالة الانسداد السياسي الداخلي أحدث في الدبلوماسية الجزائرية تراجعًا كبيرًا عن الحاضنة العربية والإفريقية، وهو الأمر الذي باتت تستوعبه الجزائر الجديدة وتعمل على تغيره وذلك من خلال إعطاء الخارجية الضوء الأخضر في التفاعلات المختلفة.
ملامح واضحة
لقد شهدت السياسة الخارجية الجزائرية تغيرًا نمطيًا واسعًا في التعاطي مع القضايا المتداخلة على الصعيد الإقليمي والدولي، فمنذ اللحظة الأولى التي تولى فيها الرئيس عبدالمجيد تبون السلطة وضع خارطة طريق للدولة في تفاعلاتها الخارجية، وتكمن ملامح تلك السياسة الخارجية في الآتي:
1- التموضع الآمن: لقد جاءت السياسة الخارجية الجزائرية لتحقيق حالة من التوازن والتموضع الآمن بين المحاور الإقليمية والدولية، حيث حققت تقاربًا مع كل من السعودية والإمارات دون أن تفقد تنسيقها والعلاقات المتبادلة بين كل من قطر وتركيا. وفي الملف الليبي، الذي بات يشهد انفراجة سياسية بعد مجيء المجلس الرئاسي والحكومة الجديدة، تفاعلت الجزائر بانفتاح مع المكونين المتعارضين هناك، وبرز أثناء الزيارة التي قام وزير الخارجية الجزائري “صبري بوقادم” في فبراير 2020 زيارة بنغازي وطرابلس وعقد لقاء منفرد مع كلٍّ من فايز السراج والمشير خليفة حفتر للبحث عن أرضية مشتركة للحوار نحو حل ذلك الصراع، وذلك من خلال التحرك المتزن في التفاعل بمرونه مع الأطراف الرئيسية في ذلك الصراع، ولعل تلك الخطوة باتت نهجًا مستمرًا في توجهات الجزائر حيال الملف الليبي.
2- الاستمرار في دعم القضايا التقليدية: تحمل السياسة الخارجية الجزائرية دعمًا مستمرًا للقضايا الإقليمية التقليدية والتي يأتي على رأسها قضية الصحراء الغربية التي تستهدف من خلالها تطويع حق تقرير المصير للشعب الصحرواي كما تدفع الجزائر في هذا المسار، إلى جانب العمل الحثيث لحلحلة القضية الفلسطينية وهو ما برز في خطاب التنصيب الذي ألقاه “تبون”، والتي تُعد من الثوابت الجوهرية لسياسة الجزائر والرامية لبناء الدولة وعاصمتها القدس الشرقية، ولعل هذا المبدأ برز في حالة الرفض والاستنكار التي شهدتها الفترة الأخيرة على خلفية التطبيع المغربي الإسرائيلي.
3- تنويع الشركاء الدوليين: لقد تميزت إدارة بوتفليقة بالتقارب مع فرنسا وظلت في هذا الطور طوال فترة حكم بوتفليقة، إلا أن تلك العلاقات شابها الكثير من الجمود في أعقاب الحراك الشعبي واستقالة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، ولكن من الواضح أن هناك توجهًا للخروج من مظلة التبعية الفرنسية في ظل الإدارة الجديدة والتي تسعى لكسر الجمود التقليدي في التفاعل الغربي والعمل على توازن التفاعلات مع الدول الأوروبية والرغبة في إيجاد قنوات تواصل وحوار بين الشركاء الأوروبيين حول القضايا المحلية الإقليمية تتسم بالتوازن. ولعل التفاعل الأخير مع ألمانيا حول الأزمة الليبية والتناغم في مؤتمر برلين يدلل على أن برلين سوف تُمثل كود التحرك الجديد لإدارة تبون. علاوة على ذلك شهدت التفاعلات الجزائرية الروسية مزيدًا من التقدم، خاصة وأن موسكو دعمت الخط المتوازن الذي تتبعه الجزائر في الشئون الدولية والإقليمية، وربما ينعكس ذلك التقارب على المجالين الاقتصادي والعسكري، خاصة وأن الجزائر تُعتبر أكبر مستورد للأسلحة الروسية في إفريقيا، وربما تكون دعوة الرئيس بوتين لنظيرة الجزائري في مطلع فبراير الجاري بداية التحول لشراكة استراتيجية بين الطرفين.
سياق إقليمي ودولي مُعقد
تنتهج الجزائر سياسة توسعية في الدائرة الإقليمية الإفريقية والمغاربية، انطلاقًا من وزنها الجيوستراتيجي الهام وموقعها الحيوي ومقوماتها المختلفة، ولعل مبادئ السياسة الخارجية للجزائر التي يأتي على أولوياتها الدفع بمسار “تقرير المصير” من المعضلات الهامة في تعقد وتأزم العلاقات الجزائرية المغربية، وهو ما حدث بالفعل في أعقاب إعلان “واشنطن” سيادة المغرب على الصحراء الغربية وما تبعها من اعتراض على كافة المستويات لهذا التوجه، مما عقّد الأمر بين الدولتين.
حيث شهدت قضية الصحراء تطورات هامة خلال عام 2020، جعلها محورًا للتفاعل الإقليمي والدولي، وأبرز تلك التطورات تجلى بصورة كبيرة فيما حدث داخل معبر “الكركرات” الحدودي بين موريتانيا والمغرب وإغلاق جبهة البوليساريو لهذا المعبر، حيث شهد ذلك الملف تنسيقًا كبيرًا بين دولة المغرب وموريتانيا، أدى إلى قيام الرباط بنشر قواتها على طول الحدود مع موريتانيا وبشكل أكبر على مسار معبر “الكراكرات”، والدفع بمسار استئناف الحركة التجارية والمدنية مرة أخرى عقب حالة توقف استمرت لنحو ثلاثة أسابيع خلال شهر نوفمبر 2020، وما تبعها من إعلان جبهة “البوليساريو” انسحابها من اتفاقية وقف إطلاق النار الموقّعة عام 1991، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على العلاقات المغربية الجزائرية بصورة سلبية، ودفع الجزائر للبحث عن تعزيز علاقاتها بباقي دول المغرب العربي وعلى رأسها ليبيا -عبر الانخراط المبكر في الأزمة- وتونس من خلال التنسيق المشترك في قضايا المنطقة وعلى رأسها الإرهاب وأزمة ليبيا.
واستكمالًا للنقطة السابقة؛ فإن العلاقات بين الجزائر وتونس باتت تشهد تقاربًا ملحوظًا، فقد كانت الجزائر الدولة الأولى لزيارة الرئيس التونسي “قيس سعيد” بعد انتخابه وتكرار تلك الزيارات الرسمية والتي كان آخرها زيارة وزير الخارجية الجزائري “صبري بوقادم” لتونس في الثاني من أبريل 2021. وهو النهج ذاته الذي باتت تتبعه الجزائر حيال “موريتانيا” والذي تجلى من خلال زيادة التنسيق المشترك بينهما في كافة المجالات والتي جاء آخرها في توقيع اتفاقية تقضي بإنشاء لجنة حدودية مشتركة بينهما تختص بالتعاون في مجالات الأمن وتسيير الأزمات في المناطق الحدودية والاقتصاد، وهو ما يُفهم منه المساعي الجزائرية لتطويق المغرب دبلوماسيًا وكذلك تستهدف من ذلك إعادة تفعيل وتنشيط الحضور الدبلوماسي لها في منطقة الجوار الجغرافي.
وعلى المستوى الدولي، تستهدف الجزائر بصورة كبيرة تعظيم الاستفادة من موقعها الجغرافي لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية سريعة، وبرز ذلك من خلال التوجه الجزائري لاستغلال ورقة الحدود البحرية وترسيم حدودها مع إسبانيا وإيطاليا لفتح نوافذ تفاعل إيجابية تحول دون اقتصار العلاقة على الجانب الفرنسي، وقد تجلى ذلك بصورة كبيرة في المحادثات التي جرت في مارس 2020 بين وزير الخارجية الإسبانية “أرانتشا غونزالس لايا” والرئيس عبدالمجيد تبون ووزير الخارجية “صبري بوقادم”، وتم التأكيد في تلك المحادثات على عدم وجود أي مشاكل تتعلق بترسيم الحدود البحرية ومن حق البلدين ترسيم حدودهما البحرية ولكن بصورة ثنائية وليست أحادية، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الجزائرية بعزم الجزائر على التفاوض مستقبلًا بشأن أي تداخل في المجالات البحرية.
واتصالًا بالسابق؛ سعت الجزائر إلى ترسيم حدودها البحرية مع الجانب الإيطالي، وفي ضوء ذلك تم تشكيل اللجنة الفنية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين خلال زيارة وكيل وزارة الخارجية الإيطالية في الثالث والعشرين من سبتمبر 2020، وذلك لتحقيق قدر من التنسيق في مسار المفاوضات الثنائية حول الحدود البحرية المشتركة، وقد بدأت تلك التحركات في مطلع شهر يوليو من العام نفسه، وذلك رغبةً في تجنب أي مسارات محتملة في حوض المتوسط.
ولعل العلاقات الجزائرية الفرنسية وما تتبعه من ذاكرة تاريخية تخلق حالة من التوتر بين البلدين من حين لآخر، وهو ما برز في الآونة الأخيرة بصورة واسعة، ولكن السياسة الرشيدة تتطلب العمل بحكمة في هذا الملف الحساس وإبعاده بصورة كبيرة عن الصراعات الأيديولوجية لاعتبارات المصالح المشتركة بين الجانبين، والتي يأتي على رأسها مكافحة الإرهاب، وهو ما برز في التنسيق المستمر بين الجزائر وباريس في هذا الملف، وتجلى آخر صوره في زيارة وزير الداخلية الفرنسي “جيرالد دار مانان” للجزائر في نوفمبر 2020، وهو ما يفهم منه استناد الدبلوماسية الجزائرية على البعد البراجماتي بعيدًا عن الشعارات القومية والأيديولوجية.
باختصار؛ إن السياسة الخارجية الجزائرية شهدت تغيرًا كيفيًا في مستوى الاهتمام الموجه إلى القضايا المتنوعة الإقليمية والتي امتزجت بالمبادئ والأهداف التقليدية، غير أنها شهدت تغيرًا تكتيكيًا في أدوات تنفيذ تلك السياسة، تجلى فيما شهده الدستور من إتاحة المجال أمام تحريك القوات المسلحة الجزائرية للانخراط في عملية حفظ السلام الإقليمي، بما يعزز من تحقيق تواجد استباقي لها في مناطق التوتر التي تؤثر بصورة مباشرة على أمنها القومي، علاوة على انتهاج نهج واسع في ضوء التفاعلات الإقليمية والدولية عبر تنوع شركائها الدوليين بما يحقق لها سياسة خارجية متوازنة.