في الرابع والعشرين من مايو 2021، نقل جنود الحرس الوطني المالي، الرئيس المؤقت “باه نداو” ورئيس الوزراء “مختار وان”، ووزير الدفاع “سليمان دوكوريه”، إلى معسكر “كاتي” بالقرب من العاصمة “باماكو”، أحد أهم مقرات القوات المسلحة في مالي، وبعد يومين فقط من الاعتقال، قدم الرئيس المؤقت ورئيس الوزراء استقالتيهما في السادس والعشرين من مايو 2021. تبدو مالي غير مُستقرة بعد تسعة أشهر فقط من إقالة الرئيس “كيتا” من منصبه في أغسطس 2020، وتنامي التوتر بشأن الاضطرابات وانتكاسات الجهود لاحتواء الجماعات المُسلحة المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش، حيث تنفق الأمم المتحدة 1.2 مليار دولار سنويًا على مهمة حفظ السلام في مالي.
مسار الأزمة
يمكن تتبع مسار الأزمة الأخيرة التي أفضت إلى تقويض الشراكة المدنية العسكرية في مالي من خلال أربع محطات رئيسية على النحو التالي:
تصاعد الضغوط السياسية:
أعلن الاتحاد الوطني للعمال في مالي حركة إضراب دامت لمدة أربعة أيام خلال الفترة من السابع عشر للحادي والعشرين من مايو 2021 بعد فشل وانهيار مفاوضات الأجور مع الحكومة المؤقتة، وفي مُواجهة تصاعد الاحتجاجات السياسية والاجتماعية، وفي الرابع عشر من مايو 2021، استقال رئيس الوزراء “مختار وان”، وأعاده الرئيس الانتقالي “نداو” على الفور لمهمة تشكيل فريق شامل. وفي هذا السياق، حثت حركة 5 يونيو (M5) في شهر مايو 2021 على حل الحكومة المؤقتة وطالبت بهيئة أكثر شرعية، لكن كانت الحركة منقسمة، وتم تعيين عضوين من حزب الاتحاد من أجل الجمهورية والديمقراطية (URD) كوزيرين مؤقتين في الحكومة الجديدة. وعليه، التقى “مختار وان” بمنظمات المجتمع المدني (CSOs) والأحزاب السياسية، في الثامن عشر من مايو 2021، كمقدمة لتشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة رئيس الوزراء شخصيًا لاغتنام هذه الفرصة لتحقيق نجاح المرحلة الانتقالية.
أزمة التعديل الوزاري:
تم الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة من ممثلين عن عدة أحزاب سياسية والحزب الرئيسي لحركة 5 يونيو في مهام الدفاع والأمن والمصالحة الوطنية، والتي شملت 25 وزيرًا، من بينهم 5 نساء مُقابل 4 سابقًا، و4 من المجلس العسكري، وتَمتلك المجموعات الموقعة على اتفاق السلام والمصالحة الوطنية 5 حقائب في الفريق الجديد للحكومة وذلك لمواجهة تحديات المرحلة الانتقالية، ولا سيما لتهدئة الجبهة الاجتماعية، والإصلاحات السياسية والمؤسسية الشاملة الواردة في خارطة الطريق الانتقالية وكذلك الانتخابات المُقبلة.
وكان هدف التعديل الوزاري احترام الموعد النهائي للمرحلة الانتقالية باعتباره أولوية الحكومة الانتقالية من خلال توضيح شكل الحكومة الانتقالية الثانية، حيث رحبت الحكومة الجديدة في شئون التعليم والأراضي بوزيرين من أعضاء الاتحاد من أجل الجمهورية والديمقراطية، والقوة السياسية الرئيسية لحركة 5 يونيو، ولكن تم إبعاد وزيري الأمن الداخلي “موديبو كوني” والدفاع “ساديو كامارا”، واستُبدل الوزيران بالجنرالين “سليمان دوكوريه” و”مامادو لامين بالو”، اللذين لا يعتبران من رموز المجلس العسكري.
الخلاف بين المكونين المدني والعسكري في الحكومة الانتقالية:
دارت مُناقشات بين المجلس العسكري ورئيس المرحلة الانتقالية ورئيس الوزراء في ظل ازدياد التوترات بين أسيمي جويتا وباه نداو منذ إعادة تعيين “مختار وان” رئيسًا للوزراء مرةً أخرى، ولكن كان الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة بمثابة نقطة اللا عودة. فمن جانب واحد، وافق رئيس المرحلة الانتقالية على استقالة الحكومة وجدد على الفور رئيس الوزراء بتفويضه بالتوجه إلى تشكيل حكومة جديدة، ووضع رئيس الوزراء المعاد تعيينه قائمة بالحكومة الجديدة بالاتفاق مع رئيس المرحلة الانتقالية، دون التشاور مع نائب الرئيس المسئول عن صلاحيات الدفاع والأمن بموجب ميثاق الانتقال.
انتهاك ميثاق الانتقال:
وفقًا لنائب الرئيس الانتقالي “جويتا”، أظهرت الحكومة بقيادة “وان”، أنها غير قادرة على أن تكون شريكًا موثوقًا به، وأنه يعمل من أجل الحفاظ على ميثاق الانتقال والدفاع عن الجمهورية، ومن جانبه اعتبر “جويتا” أن تنحية “موديبو كوني” و”ساديو كامارا” دون مُوافقته، كان انتهاكًا لميثاق الانتقال والقسم الذي أدى به “باه نداو” في الخامس والعشرين من سبتمبر 2020. كما أكد “جويتا” أن “عملية الانتقال ستتبع مسارها الطبيعي وستجري الانتخابات خلال عام 2022. كما أشار “جويتا” إلى اتخاذ “نداو” قرارات أحادية الجانب، بدايةً من تجديد رئاسة الوزراء “وان” بعد استقالة حكومته، وتشكيل الحكومة الجديدة دون استشارة اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب (CNSP)، وهم “أسيمي جويتا”، نائب رئيس المرحلة الانتقالية، و”مالك دياو”، رئيس المجلس الوطني الانتقالي. كما أن الدور المُخول لنائب الرئيس الانتقالي “جوبتا” من ميثاق الانتقال، أن جميع قضايا الدفاع والأمن تعَهد إليه، ولكن لم يتم التشاور مع هذا الأخير فيما يتعلق بتعيين وزير الدفاع وشئون المحاربين القدامى ولا بشأن الأمن والحماية المدنية.
ردود الأفعال الدولية
يرفض المجتمع الدولي أي عمل يُفرض بالإكراه بما في ذلك الاستقالات القسرية، حيث جاءت الإدانات بالإجماع بشأن الوضع في مالي، مما يُهدد بفرض عقوبات، وفي مُقدمتها أعربت لجنة مُراقبة الانتقال المحلية في مالي، والتي تُراقب عودة مالي إلى الحكم المدني بعد الانقلاب في أغسطس 2020، وتَضم اللجنة الاتحاد الإفريقي وبعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما) والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، إلى جانب أعضاء المجتمع الدولي بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا والاتحاد الأوروبي؛ عن قلقهم العميق بشأن الوضع في مالي.
فيما وصف الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” استيلاء الحكومة على السلطة بأنه انقلاب وحذر من تداعياته، وقال في تغريدة: “نحن مُستعدون لفرض عقوبات مُستهدفة على الأطراف”. كما حذر الاتحاد الأوروبي من أنه “على استعداد للنظر في اتخاذ تدابير هادفة ضد القادة السياسيين والعسكريين الذين يعرقلون المرحلة الانتقالية في مالي”، واستنكروا بأقصى درجات الحزم اعتقال الرئيس ورئيس وزرائه، الذي يُشكل انقلابًا في الانقلاب غير مقبول.
ودعا البيان المشترك الصادر عن الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا والولايات المتحدة من بين دول أخرى إلى الإفراج الفوري عن الرئيس ورئيس الوزراء. بينما قال “ستيفان دوجاريك” المتحدث باسم الأمم المتحدة إن الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش”، دعا إلى الهدوء والإفراج الفوري عن القادة المدنيين المحتجزين.
وفي الخامس والعشرين من مايو 2021، أعلن “جان إيف لودريان”، وزير الخارجية الفرنسي، أن باريس طلبت عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي بعد الانقلاب في مالي. بينما شجبت بريطانيا الاعتقالات ودعت للإفراج عن المعتقلين فورًا، وقال “جيمس دادريدج”، وزير الشئون الإفريقية البريطاني، “بريطانيا تدعم عملية التحول إلى الديمقراطية وحكم الدستور في مالي وتشعر بقلق بالغ من أن الأحداث الأخيرة تُهدد بتقويض جهود إرساء هذا الحكم في إطار الجدول الزمني المتفق عليه”. وقالت “ماريا زاخاروفا”، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية: “تعرب موسكو عن قلقها من التطورات في جمهورية مالي، وندعو إلى إطلاق سراح القيادة الانتقالية وتسوية سلمية للوضع الحالي”.
وفي السادس والعشرين من مايو 2021 نددت الدول الأعضاء في مجلس الأمن بشدة اعتقال الرئيس الانتقالي ورئيس الوزراء، ودعا مجلس الأمن إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المسئولين المعتقلين، وحثوا الجيش على العودة إلى ثكناته دون تأخير. وفي نفس اليوم، أعلن “بابا سيسي” المستشار والمتحدث الإعلامي باسم الكولونيل “آسيمي جويتا” أن الرئيس الانتقالي، ورئيس الوزراء، اللذين استقالا، سيُطلق سراحهما تدريجيًا لاعتبارات أمنية، ولم يحدد موعد إطلاق سراحهما، ولكن في ليلة يوم السابع والعشرين، تم الإفراج عنهما دون الإفصاح عن أية شروط للإفراج.
مستقبل غامض
يُثار تساؤل بشأن من سيحل محل الرئيس الانتقالي ورئيس الوزراء، ويؤكد “جويتا” على التزامه بميثاق الانتقال الذي ينص بوضوح على عدم قدرته على استبدال الرئيس المؤقت أو وجود عائق أو شغور في السلطة، وأثناء المناقشات حول اعتماد الميثاق، كان يُنظر أحيانًا إلى منصب نائب الرئيس الذي تم إنشاؤه خصيصًا ليشغله أحد أعضاء المجلس العسكري، على أنه احتمالية لقيادة عملية الانتقال. ولهذا السبب جعلت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا رفع العقوبات المفروضة مشروطًا بتضمين الميثاق حكمًا ينص بوضوح على أنه لا يمكن لنائب الرئيس أن يحل محل رئيس المرحلة الانتقالية في مالي، ولكن يبقى ذلك عائقًا مؤقتًا أم فصلًا دائمًا.
وفيما يتعلق بالانتخابات، تَسود حالة الشك على مصير مُراجعة الدستور والتَعهد بإجراء الانتخابات عام 2022 لاستعادة الحكومة الديمقراطية، حيث أعلنت السلطات الانتقالية في منتصف أبريل 2021 عن تنظيم استفتاء لتعديل الدستور في 31 أكتوبر ٢٠٢١، وحددت الانتخابات الرئاسية والتشريعية في فبراير ومارس 2022، وبعد ذلك ستُعيد السلطة للحكام المدنيين.
وستؤثر هذه التطورات سلبًا على جهود مُكافحة الإرهاب وتنفيذ اتفاق السلام والمصالحة الوطنية وتحقيق الاستقرار، بسبب انعدام الأمن وظهور حركات جهادية خلال الفترة الأخيرة، والارتباطات بدوائر خارجية، حيث يوجد الكثير من الدول الفاعلة في غرب إفريقيا، وفي نهاية المطاف تسود حالة عدم الاستقرار واستمرار معدلات الفقر والبطالة عند أدنى مستوى لها.
وتَظل حصيلة استراتيجية مُكافحة الإرهاب غير قادرة على تحقيق أهدافها، نتيجة عدم التنسيق بين الأجندات الدولية وحالة التنافس بينها في دول المنطقة. وبعد الأحداث في مالي، أصبح الوجود الفرنسي في مأزق ومُعضلة وجودية، حيث أكد الجنرال فرانسوا لوكوانتر، رئيس أركان الجيوش الفرنسية، أن “انخراط أوروبا في منطقة الساحل الأفريقي سيظل قائمًا لأكثر من 10 سنوات”، على الرغم من الإعلان عن الانسحاب التدريجي من المنطقة، وسيجعل الأولوية الفرنسية دفاعية، وعدم استقرار دول الساحل الإفريقي المجاورة من تشاد والنيجر وبوركينافاسو وموريتانيا، ودول الجوار غير المباشر مثل كوت ديفوار، حيث أصحبت هذه الدول بؤرًا جديدة لحركات الجهاد العالمية، وستؤدي الفوضى السياسية وحالة عدم الاستقرار في مالي إلى تكوين أرض خصبة للجماعات الإرهابية، وسيؤثر سلبًا على الأمن القومي لدولة الجزائر.
وإجمالًا، تَظل المرحلة الانتقالية في مالي غير مُكتملة، وترجع بها التطورات الأخيرة إلى المربع الأول، ومن المرجح أن تسود حالة من الاضطرابات وعدم اليقين في وقت تتزايد فيه التحديات السياسية، والضغوط للالتزام بالموعد النهائي للانتخابات والإصلاحات الموعودة، والتحديات الأخرى من تفاقم هجمات الجماعات الإرهابية، وعوائق تنفيذ اتفاق السلام والمصالحة الوطنية وجهود مُكافحة الإرهاب.
باحث أول بوحدة الدراسات الأفريقية