بدأت بشائر احتواء التصعيد في الأزمة الأوكرانية على وقع الزيارة التي قام بها المستشار الألماني أولاف شولتس (15 فبراير) الجاري إلى موسكو ولقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث استعرضا معًا إمكانية البدء في عملية الاحتواء بمنح فرصة “جادة” للعودة إلى طاولة التفاوض مرة أخرى. وكمؤشر على بادرة حسن النوايا من جانب موسكو، أعلنت وزارة الدفاع الروسية بالتزامن مع زيارة شولتس عن سحب عدد “محدود” من قواتها التي كانت تشارك في “مناورات حربية كانت تطوق أوكرانيا، لم يسبق لها مثيل منذ خمسة عقود تقريبًا، أي قبل سقوط الاتحاد السوفيتي بنحو 15 عامًا وفق مراقبين روس، بينما كانت قوى “الناتو” تعتبرها “بروفة حرب” تمهيدًا لغزو أوكرانيا.
وفي واقع الأمر، لا تزال هناك صعوبة في فض الاشتباك بشكل نهائي ما بين مسار الاحتواء المحتمل، واحتمالات العودة إلى التصعيد مرة أخرى، وهو ما يعني أن كلا السيناريوهين وارد، وذلك بالنظر لعدة اعتبارات، منها:
- سحب روسيا عددًا محدودًا من الحشد العسكري، الذي يصل إلى نحو 130 ألف جندي، لا يعني سحب القوة بالكامل على غرار ما جرى العام الماضي، وهو ما يعني أن روسيا لن تقدم على خطوة عملية للانسحاب إلا في إطار اتخاذ الناتو وأوكرانيا خطوات مماثلة، وكل منها بحساب. وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن بيانات الانتشار التي نشرتها شركة “Maxar” الأمريكية للأقمار الصناعية حتى عشية اللقاء الروسي-الألماني (الاثنين 14 فبراير الجاري)؛ كشفت عن نشر الجيش الروسي لتشكيلات عسكرية مختلفة، عبارة طائرات هليكوبتر هجومية، بالإضافة إلى نشر مقاتلات وقاذفات وطائرات هجوم أرضي في مواقع أمامية على الحدود الأوكرانية. وبالتالي، يمكن اعتبار أن أحد السيناريوهات هو أن هناك عملية تبديل تجري في عملية الانتشار وليس انسحابًا فعليًا، وفي أفضل الظروف فإن ما تم لا يزال مجرد تحرك رمزي من الجانب الروسي لاعتبارات تتعلق بالمصالح المشتركة مع ألمانيا.
- واضح من سياق المؤتمر الصحفي لبوتين-شولتس أن الطرفين على طريق وضع تصور لعملية احتواء ستبدأ من المربع الأول، وربما هناك شكوك في إمكانية إطلاقها بالقدر الذي يمكن في ضوئه بناء الثقة بين الجانبين لاستكمال مسار الاحتواء. فعلى سبيل المثال، لم يحمل شولتس أية ضمانات من الجانب الأوكراني، وبدا متحرجًا ومتشككًا في هذه الخطوة، إلى درجة أنه لم يجب عن سؤال أحد الصحفيين في القاعة بشأن ما إذا كانت لديه معرفة بأن كلًا من أوكرانيا وجورجيا لن تنضما إلى “الناتو”، كما أن هناك سياقًا آخر أكثر تفصيلًا يتعلق بالضمانات الاستراتيجية التي طلبتها روسيا بشأن وضع انتشار الدرع الصاروخي الأمريكي في مدار الفضاء الحيوي الروسي (600 كلم).
- على ما يبدو أن حلف “الناتو” رغم ما اعتبره من “إشارات إيجابية” من الجانب الروسي، وإبداؤه تفاؤلًا حذرًا بشأن هذا التطور الأخير المتعلق بالانسحاب؛ لا تزال لديه شكوك، بالإشارة إلى أنه سيتقصى الأمر، وهي نقطة لا تزال تعكس هشاشة الثقة على الجانبين، كما أن الحلف سيواصل جدول أعماله الخاص بانعقاد مجلسه يومي (16 – 17) فبراير الجاري، كما ستكون هناك جلسة لوزيري دفاع كل من أوكرانيا وجورجيا لبحث الوضع في البحر الأسود، لم يتم الإعلان عن تعليقها، وهو ما يؤكد على هشاشة الثقة، وسيدعم المنظور الروسي باستمرار الناتو في مساره التصعيدي وفق الرؤية الروسية، بالتعامل مع كلا البلدين وكأنهما بالفعل أعضاء في الحلف من دون الحصول على عضوية فعلية.
- لا يزال هناك عدم اتساق في الموقف الأوروبي بشكل عام حيال الأزمة، وهو ما بدا منذ بداية الحشد الروسي باتجاه الحدود الأوكرانية، ولا سيما مع إعلان بعض دول أوروبا الشرقية موقفًا محايدًا في الأزمة خشية أن تنجرف في الصراع، وفي واقع الأمر عكست تلك المواقف مدى تصدع منظور الأمن الأوروبي، ومقاربات المصالح التي جمعت بين ألمانيا وروسيا، أو طبيعة العلاقات البينية بين أعضاء الناتو، حيث بدت بريطانيا أكثر تحمسًا للموقف الأمريكي.
- على الرغم من أن واشنطن وضعت نفسها في موقف محرج بالتأكيد على أن الحرب قادمة لا محالة، بل وحددت تاريخ 16 فبراير لاندلاعها؛ إلا أن روسيا ستترقب الخطوات الأمريكية، كما سلفت الإشارة فيما يتعلق بنشر درعها الصاروخي على أطراف روسيا، وليس مجرد خطوة مقابلة لسحب القوات التي نشرتها في فترة التصعيد، وكلاهما لا يزال أمرًا غير وارد.
- لا يبدو أن هناك إمكانية للاستجابة للمطالب الروسية فيما يتعلق بتنفيذ استحقاقات اتفاق “منسك” التي مثلت خريطة طريق لاحتواء الأزمة الأوكرانية، خاصة وأن هناك معركة فرعية فتحها مجلس “الدوما” الروسي بمطالبة “بوتين” بالاعتراف بـ”لوغانسك” و”دونيتسك” كجمهوريات مستقلة، وهو سياق وارد إلى حد كبير، وسيزيد الأزمة تعقيدًا، ورد عليها البرلمان الأوكراني بفرض عقوبات على نواب “الدوما” الذين يطالبون بهذا الاعتراف.
المقايضة: السيناريو الأكثر ترجيحًا
إن أي عملية احتواء فعلية للأزمة تتطلب مسارًا طويلًا سيعود إلى ترتيبات أمنية واسعة وخطوات من الجانبين، فميزان القوى لا يزال يميل لصالح روسيا التي كانت الولايات المتحدة تتوقع منها الضربة الأولى، لكنها روسيا لم تمنحها هذه الفرصة، ولا تزال تخوض معها حربًا نفسية، وتتحرك موسكو في إطار بدائلها الاستراتيجية، كالإبقاء على أكبر كم من القوات والعتاد العسكري في وضع انتشار يسمح لها بالتقدم إلى أوكرانيا. في المقابل، لم تُظهر واشنطن مؤشرات على أن لديها خيارات استراتيجية نوعية، وليس من الواضح ما إذا كانت واشنطن تعتبر أن أي بديل سيعد تنازلًا منها لروسيا، خاصة وأن كل طرف ينظر للأزمة من منظور حساباته القومية.
في السياق ذاته، فإن استقطاب روسيا لألمانيا سياسيًا لا يعني أن ألمانيا يمكن أن تقود قاطرة الترتيبات المرتقبة، لكنها ورقة إضافية لصالح موسكو، التي تجيد اللعب بالأوراق، دون أن يُدرك الطرف المقابل ما هي الخطوة المقابلة. لكن إذا مضت موسكو هي الأخرى إلى تعزيز المصالح الاقتصادية مع برلين، في إطار مشروع “السيل الشمالي”، فسيكون من الصعوبة التراجع عن تلك الخطوة، وبمرور الوقت ستمنح واشنطن ورقة ضغط متبادلة في المستقبل لفرض عقوبات على موسكو.
إذن، يمكن القول إن السيناريو الأكثر ترجيحًا بشكل مبدئي هو المقايضة (خطوة – خطوة) إما إلى الأمام أو إلى الخلف، وبالتالي إذا ثبتت صحة بادرة النوايا الروسية بسحب قوات بشكل مؤثر ومقنع، فلا شك أن موسكو ستنتظر خطوة للخلف من الناتو وواشنطن، وإن لم تحدث تلك الخطوة فإن البشائر التي صاحبت لقاء بوتين شولتس ستتحول بمرور الوقت إلى كابوس جديد في الأزمة التي حبست أنفاس العالم إلى حد توقع حرب عالمية ثالثة.