تفشّت ظاهرة التنمر مؤخرًا في المجتمع بشكل ملحوظ استدعى تدخلات رسمية وغير رسمية مختلفة ما بين حملات توعوية، وتشريعات قانونية وغيرها. ويعرف التنمر على أنه نوع من أنواع العنف يختلف في درجة حدته وشكله، وقد وضعت منظمة اليونسيف ثلاث خصائص تميز التنمر عن السلوكيات والممارسات السلبية الأخرى وهي: اختلال القوة، والتكرار، والتعمد. وأضاف مؤلفو كتاب “المتنمرون والضحايا” خصائص أخرى منها توافر النية للإيذاء، والتمتع بفعله، وحددوا معايير لدراسة وتفسير سلوك التنمر مثل: تفاوت شدة التنمر ومدته، وحجم الإضرار بتقدير الضحية لذاتها، ونوع سلطة المتنمر (العمر، القوة، الحجم، الجنس)، ودرجة الدعم المقدم للضحية، وعواقب التنمر سواء بالانسحاب أو العدوان والانتقام.
وتتعدد أنواع التنمر، فمنه الجسدي ويشمل الضرب بجميع أنواعه ودرجاته. أو التنمر المادي كالسرقة وإتلاف الأغراض. أو التنمر اللفظي والنفسي كالشتائم، والسخرية، والتهديد، والإيماءات والاحتقار وغيرها. أو التنمر الإلكتروني عبر المنصات الاجتماعية أو الرسائل الإلكترونية، أو النصية. أو التنمر العنصري بسبب اللون، أو الجنس، أو العرق، أو الديانة. ويناقش هذا المقال سبل خفض ظاهرة التنمر من خلال التربية والتشريع.
شكل (2): أنواع التنمر
التنمر والمسئولية التربوية
يُعزَى تفاقم ظاهرة التنمر إلى أسباب متعددة، منها الإهمال الأسري، فالطفل المهمل يجد ملاذه في التنمر من خلال الإساءة والخطأ لجذب الانتباه والاهتمام. ويرتبط التنمر ارتباطًا وثيقًا بدرجة تقدير الطفل لذاته، فالعلاقة بين التنمر وتقدير الذات علاقة عكسية تغذيها طرق التربية الخاطئة، سواء بالإهمال أو التدليل المفرط للطفل، وأحيانًا يشارك الآباء عن سهو في تنمية التنمر لدى أبنائهم بالتباهي بالسلوك العدائي لنجلهم باعتباره نوعًا من الشجاعة أو الجرأة. كذلك يساهم العنف الأسري، وأيضًا الألعاب الإلكترونية العنيفة، في توطيد سلوكيات التنمر لدى الأطفال، فاعتياد رؤية العنف اللفظي أو الجسدي يعزز دافعية الأطفال لممارسة التنمر في الواقع. ويتسبب التنمر في إحداث مشكلات نفسية متعددة للأطفال، الأمر الذي يدخل التنمر ضمن نطاق العمل التربوي والمسئوليات التربوية، فآثار التنمر قد تظهر على الأطفال من ضحاياه بأشكال مختلفة منها: الانطواء، والعزلة، واضطرابات الكلام كالتلعثم أو التأتأة. كذلك قد يسبب مشكلات تعليمية مختلفة، منها سرعة النسيان، وعدم التركيز، فيؤثر على المستوى الدراسي للطفل. لذا تُعد ظاهرة التنمر مشكلة تهدد الأمن النفسي والاجتماعي، كما تهدد الأمن المدرسي كبيئة اجتماعية.
شكل (2): العنف الأسري للأطفال في بعض المحافظات
المصدر: اليونسيف أكتوبر 2018م https://www.unicef.org/egypt/sites/unicef.org.egypt/files/2018-12/Bullying%20Final.pdf
تتشابه خصائص ظاهرة التنمر ونتائجها النفسية والاجتماعية في جميع أنحاء العالم، وتتفرد أسبابها من دولة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى داخل الدولة الواحدة. وتتعدد نظريات واستراتيجيات مكافحة التنمر، فقد توصلت الدراسات السيكولوجية إلى نظريات متباينة لعلاج التنمر، منها نظرية العلاج العقلاني الانفعالي التي أسسها عالم النفس “ألبرت أليس” بهدف تعزيز التفكير العقلاني وتحليل السلوك للتمييز بين ما هو عقلاني وما هو لا عقلاني. وقد طور “دونالد هربرت” هذه النظرية لنظرية العلاج المعرفي السلوكي من خلال تحليل طريقة تفكير الطفل وتأثيرها على تكوين مفاهيمه، فطريقة تفكير الطفل تحدد نتائج الأحداث التي يمر بها. وتمثل هذه النظريات واستراتيجيات تنفيذها علاجًا مباشرًا وتوجيهيًا للأطفال الذين يتورطون في ارتكاب التنمر، وهو ما يتطلب متخصصين كالأخصائيين الاجتماعيين أو النفسيين بالمدارس، لذا لا يساهم هذا النوع من التدخل العلاجي في خفض تطور نمو ظاهرة التنمر بشكل أعم وأشمل، وإن كان يفيد في معالجة حالات فردية.
في المقابل، تمثل برامج التوعية الإيجابية وتنمية القيم من خلال المناهج الدراسية نهجًا مستدامًا وفاعلًا في ردع تنامي ظاهرة التنمر، مثل الحملة القومية “أنا ضد التنمر” التي أطلقتها منظمة “اليونيسيف” عام 2018 بالتعاون مع كلٍّ من المجلس القومي للطفولة والأمومة المصري ووزارة التربية والتعليم والتعليم الفني بتمويل من الاتحاد الأوروبي. وكذلك منهج القيم واحترام الآخر الذي أصدرته وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، بدءًا من العام الدراسي الحالي للصف الثالث الابتدائي، وسيتم تطبيقه على المراحل الأعلى تباعًا خلال السنوات القادمة، مرحلة تلو أخرى. ويعد كتاب القيم نقلة نوعية في التعليم المصري، فهو يعزز تنمية ست قيم إيجابية مختلفة، كما يتضمن شخصيات لخمسة أطفال، بينهم اثنان من ذوي الاحتياجات الخاصة، وآخر ذو بشرة سمراء، فيبعث المنهج رسالة ضمنية تحث على تقبل الآخر من خلال سرد قصصي يجمع الشخصيات الرئيسية الخمس في مواقف حياتية وتربوية مختلفة تتطلب إعمال العقل واستخدام مهارات التفكير الناقد لحل مشكلة ما أو اتخاذ قرار ما حسب أحداث القصة.
ويُعد كتاب القيم كمادة دراسية نهجًا غير مباشر لخفض التنمر من خلال تعظيم السلوك الإيجابي، لكن يظل تأثير هذا المنهج يقتصر على عدد محدود من الطلاب، ويُغفل الأجيال الأكبر من طلاب الصف الخامس وحتى الصف الثالث الثانوي، الذين هم عرضة أكثر لانتشار ظاهرة التنمر فيما بينهم، فقد بلغت نسبة التنمر بين الأطفال من سن 15 إلى 17 نحو 70% بحسب إحصائيات اليونسيف عام 2019، مما يفرض تبني برامج توعوية لهذه المراحل من خلال المدرسة أو الإعلام أو دور الثقافة العامة، خاصة أن مقاطع الفيديو المصورة لمشاهد التنمر والمتداولة عبر منصات التواصل الاجتماعي قد أضحت ظاهرة اعتيادية ومتكررة بين المراهقين والشباب.
التشريع أداة لكبح التنمر
بالتوازي مع التنشئة الاجتماعية، تأتي التشريعات والقوانين كرادع يكبح انتشار ظاهرة التنمر. وفي هذا الصدد، وافقت الحكومة المصرية في يوليو 2020 على مشروع لتعديل قانون العقوبات، بإضافة مادة جديدة تنص على: “يُعد تنمرًا كل استعراض قوة أو سيطرة للجاني، أو استغلال ضعف للمجني عليه، أو لحالة يعتقد الجاني أنها تسيء للمجني عليه، كالجنس أو العرق أو الدين أو الأوصاف البدنية، أو الحالة الصحية أو العقلية أو المستوى الاجتماعي، بقصد تخويفه أو وضعه موضع السخرية، أو الحط من شأنه أو إقصائه عن محيطه الاجتماعي”.
وحددت المادة عقوبة تقتضي بحبس المتنمر مدة لا تقل عن 6 أشهر، وغرامة مالية لا تقل عن 10 آلاف جنيه، ولا تزيد على 30 ألف جنيه، أو بإحدى العقوبتين. على أن تشدد العقوبة لتصل إلى حبس لمدة عام وغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه، ولا تزيد على 100 ألف جنيه، أو بإحدى العقوبتين إذا بلغ عدد الجناة اثنين أو أكثر، أو إذا كان الجاني ممن لهم سلطة على المجني عليه.
من جهة أخرى، تقدم أحد أعضاء مجلس النواب بمشروع قانون لتغليظ عقوبة التنمر في قانون حقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة رقم 10 لعام 2018، واشتمل التعديل على إضافة مادة جديدة تنص على: “يعاقب المتنمر على الشخص من ذوي الاحتياجات الخاصة بالحبس مدة لا تقل عن عام، وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تزيد عن 100 ألف جنيه أو بإحدى العقوبتين”، وتشدد العقوبة إلى الحبس مدة لا تقل عن سنتين، وغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد عن 200 ألف جنيه، أو بإحدى العقوبتين إذا ما توافرت الشروط المنصوص عليها في عقوبة التنمر بقانون العقوبات. وقد وافق مجلس الشيوخ على مشروع تعديل هذا القانون في أبريل الماضي. لحفظ حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، ولتتماثل العقوبة مع الجريمة.
وعلى الصعيد الرياضي، استشرى التنمر، وخاصة في رياضة كرة القدم بفضل الخصائص السيكولوجية المعروفه بسلوك الجماهير، “فعقلية العصبة Pack mentality” تحفز التنمر الجماعي، وتقلل من شعور الفرد بالمسئولية أو المحاسبية، فالجميع يطبق السلوك ذاته ليثبت انتماءه للحشد. ويعد الالتفاف حول قائد وهدف من أهم محفزات التنمر الجماعي. وقد ساهم التطور التكنولوجي في نقل التعصب الكروي من الملاعب إلى منصات التواصل الاجتماعي، لذا تضمن قانون الرياضة رقم 71 لعام 2017 مواد تعاقب جرائم التنمر ومنها المادة 85 التي تنص على “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن عام وبغرامة لا تقل عن 1000 جنيه ولا تزيد على 3 آلاف جنيه أو بإحدى العقوبتين كل من سب أو قذف أو أهان بالقول أو الصياح أو الإشارة شخصًا طبيعيًا أو اعتباريًا أو حض على الكراهية أو التمييز العنصري بأي وسيلة من وسائل الجهر والعلانية في أثناء أو بمناسبة النشاط الرياضي، وتُضاعف العقوبة إذا وقعت الأفعال السابقة على إحدى الجهات أو الهيئات المشاركة في تأمين النشاط الرياضي أو أحد العاملين به”، وتشدد العقوبة لتصل إلى الحبس مدة لا تقل عن عام وغرامة لا تقل على 50 ألف جنيه ولا تزيد على 100 ألف جنيه أو إحدى العقوبتين في حالة استخدام القوة أو العنف أو التهديد أو الترويع ضد لاعب أو حكم أو أحد أعضاء الأجهزة الفنية أو الإدارية للفرق الرياضية أو أحد أعضاء مجالس إدارة الهيئات الرياضية.
أما في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الصادر عام ٢٠١٨، فلا توجد مواد صريحة لعقوبة ممارسات التنمر الإلكتروني، فمواد الفصل الثالث من القانون تستهدف حفظ الخصوصية والحماية من الابتزاز من خلال فرض عقوبات للجرائم المتعلقة بالمحتوى المعلوماتي غير المشروع، أو التعدي على المبادئ والقيم الأسرية في المجتمع المصري، أو انتهاك حرمة الحياة الخاصة للأشخاص بنشر معلومات أو أخبار أو صور دون موافقتهم، سواء كانت المعلومات المنشورة صحيحة أو غير صحيحة. أو تعمد استعمال برنامج معلوماتي أو تقنية معلوماتية لمعالجة معطيات شخصية للغير وربطها بمحتوى منافٍ للآداب العامة، أو لإظهارها بطريقة من شأنها المساس بالشرف. لذا فمجال تقنية المعلومات يحتاج الى مزيد من المواد القانونية لتجريم التنمر الإلكتروني بمختلف أنواعه.
من الاستعراض السابق، يتضح أن خطوات التصدي لظاهرة التنمر تتفوق في الجانب التشريعي مقارنة بالجانب التربوي، مما يتطلب مزيدًا من الدراسات المسحية لاستقراء أسباب تفشي الظاهرة تربويًا، وإعداد وتنفيذ برامج توعوية تتبناها منابر التربية المتعددة، كالإعلام والمدرسة والمسجد والكنيسة ومنظمات المجتمع المدني وغيرها.